كورونا.. بين غالبٍ ومغلوب


مرّت على مدار التأريخ أحداثٌ وحقائقٌ وشواهدٌ أفرزت من بعدها توجهاتٍ عديدةٍ جديدةٍ، وشكّلت منعطفاتٍ جوهريةٍ على البشرية جمعاء من أقصاها إلى أقصاها. فمنها ما كان عائقٌ أمام اندفاع الإنسان وغريزته في التطور والتقدم للأمام في شتى مناحي حياته، ومنها ما كان مُعززاً ومسانداً له في تطلعاته من اللحظة الأولى..


فهناك العديد من الأمثلة والنماذج التي أرَّخها التأريخ على مدى القرون الماضية في عدة جوانب. ففي  الجانب الفكري الفردي مثلآ، فقد مررنا بعظماء في العلم والعلوم ممن كانت بداياتهم مأساويةٌ جداً، ولم يخطر –ولو لبرهةٍ- لأحدٍ أنها تنبئ بولادة عهدٍ جديدٍ في حياة الإنسان. فما مرّ به العالم توماس أديسون من إهاناتٍ وطردٍ من مدرسته ووصفه كذلك "بالمتخلف عقلياً"، وما قاساه أسطورة العلم و "إيقونة النجاح" ألبرت إنشتاين خلال فترة تعليمه إلى أن وصل به الحال أن يكتب له أستاذه في سجلّه الدراسي أنه " لا ينفع لشيء"، وغيرهم من عباقرة التأريخ الآخرون وما لاقاه كلٌ منهم من مضايقاتٍ وإحباطٍ وتثبيطٍ وخذلانٍ وصدماتٍ وانكسارٍ تلو الإنكسار إلّا خير دليلٍ على قوة الإصرار والعزيمة الجبّارة والثقة العالية في النفس والعقل واللا محدودة التي أنبعث على أيديها ميلادٌ جديدٌ ومشرقٌ لحياة البشرية قاطبة. فها نحن ننعم بمئات الاختراعات التي سهّلت لنا سبل العيش إلى حدٍ كبيرٍ بما شاء الله لنا أن نؤتى من العلم، ولا زلنا في تقدمٍ مستمر.


وعلى الصعيد المجتمعي، فكلنا يعلم –علم اليقين- أن ما تُدعى "أرقى دول العالم" قد مرّت بمراحل عصيبة ومنعطفاتٍ في ماضيها لمئات السنين الذي لولاه -ولولا ما جاء به وجره من ألمٍ ومرضِ وضنكٍ وعذابٍ وقهرٍ وتقهقرٍ- ما وصلت تلك المجتمعات إلى رُقيّها الحالي، فمن رحم المعاناة دائماً ما يولد الإبداع. فما كان كل ذلك إلا مخاضٌ لولادة وانبعاث نهضةٍ قادت تلك الأمم إلى أن تصبح "دول العالم الأول" في الرّقي والسلام والتطور من بعدما كانت تسمى دول العالم الأول في الوحشية والبربرية والعنصرية. فهي استوعبت كل ما جرى لها، وأصرّت على الأخذ بناصية السلام والسلم وحب المشاركة والمساواة، وخلفت ورائها -بلا ترددٍ- كل ما زجّ بها للهلاك والانهيار والتشتت في تاريخها الماضي.


إن الناظر من بعيدٍ في معطيات الوضع الحالي للعالم ليقول في سريرته: ويكأنها نهاية العالم قد أقبلت بلا سابق إنذارٍ أو ما شابه! فهاهو الوباء يحصد في كل يومٍ آلافاً من الأرواح وفي وقت قياسيٍ فعلاً، كأنه خصمٌ ونِدٌ يستعذب زوال خصمه ويستعجل في ذلك بكل طريقةٍ تمكّنه في الخلاص من نِده. ولكن المتمعّن في عمق ما حدث في الأزمنة الأولى وما يحدث الآن ليعلم -علم اليقين- أنما هي مرحلة تمحيصٍ ومخاضٍ ستقود العالم إلى خيرٍ قادمٍ، بإذن خالق وموجد ومسيّر هذا العالم. فكم من أوبئةٍ وكوارثٍ جُرَّ إليها هذا العالم في الماضي البعيد والقريب كذلك، وتخطّاها وتغلّب على كل المصاعب التي واجهته بصبرٍ وجلادةٍ دونما انهزام.


فلابد من أن نعي ما يجري، ونسمي الأمور بمسمياتها، وأن لا نعطي هذه المحنة أكبر من حجمها بنشرنا لطاقةٍ سلبيةٍ بين أوساط المحيطين بنا. وحليٌ بنا أن نبعث فيهم –وفينا أولاً- روحاً إيجابيةً وتفاؤلاً بقادمٍ أجمل. وأن نأخذ ونفكّر في  الجوانب الإيجابية من كل ما يحدث لنا الآن تلقائياً. فمنا من لاقى وقتاً إضافياً -أكثر مما كان عليه قبل فترة الحظر أثناء حريته المطلقه- للقاء أفراد أسرته والتواصل بأصدقائه والسؤال عن أحبابه وتعزيز العلاقات الاجتماعية وتوطيدها أكثر وأكثر. والبعض الآخر لمس الفائدة في ذلك باستغلاله للوقت في المطالعة وتنمية العقل بما يفيده وصقلٍ لمهاراته وقدراته ومواهبه المكنونة، إلى جانب الهدوء النفسي الجميل طبعاً والراحة أيضاً في فضاءه المحصور بين أروقة المنزل والحي، وأكثر من ذلك تجنبه للصخب الذي تعوّد عليه في بيئة عمله الروتيني وتيارات الحركة المتدافعة أمامه في كل شارعٍ وسوق.


إن تحديد ما إذا كانت أي مرحلةٍ صعيبةٍ بأنها نهاية العالم أمرٌ يتعلق بما هو أكبر مما يجري أمام أعيننا. فلكل شيءٍ نهايةٌ وذروةٌ هو بالغها مهما كانت قوة تأثيره وديمومته لا محالة. فلا يجب أن نستسلم لهذا الوباء ولا لغيره، وأن نُقنع أنفسنا بأنما هي مسألة وقتٍ لا أكثر، ستمرّ وتمضي وتزول وتنجلي بكل ما ستجرّه معها من أوجاعٍ وأحزان. وستأتي شمس الغد الساطعة والباعثة في النفس الأمل والتطلع لمستقبلٍ أجملٍ وواقعٍ مدهشٍ لنا جميعاً. وسنهتف حينئذٍ ونُسمِع الدنيا بأسرها أننا لاننهزم ولا نستسلم ولا نتوارى في مواجهة الصعوبات والتحديات كيفما كانت أشكالها وأيّما كانت شدائدها.


فنحن الحياة.. ونحن الغالبون!


وينستون تشرشل -“ولنعلم جميعنا أن النجاح هو القدرة على الإنتقال من فشلٍ إلى فشلٍ آخرٍ من دون فقدان الحماسة”


المصادر:

https://kalemtayeb.com/safahat/item/39375


http://arsco.org/article-detail-1233-8-0


https://arz.wikipedia.org/wiki/عصور_الظلام