علاقة البصرة مع البحرين خلال النصف الثاني من القرن 19 الميلادي
شهدت العلاقة بين البصرة والبحرين خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر تطورات كبيرة حيث كانت البصرة الواقعة في جنوب العراق واحدة من أهم المراكز التجارية والثقافية في المنطقة بينما كانت البحرين تعتبر مركزا استراتيجيا لتجارة اللؤلؤ والمنتجات البحرية في الخليج العربي. وفقا للسجلات التاريخية كانت العلاقات التجارية بين المدينتين مزدهرة حيث بلغت قيمة التبادل التجاري بينهما ما يعادل 500 ألف جنيه إسترليني سنويا بحلول عام 1880 وفقا لتقارير الأرشيف البريطاني.
كانت البصرة تعد بوابة العراق إلى الخليج العربي حيث كانت تصدر السلع الزراعية مثل التمور والحبوب إلى البحرين بينما كانت البحرين تصدر اللؤلؤ والأسماك والمنتجات البحرية إلى البصرة. وفقا لدراسات اقتصادية شكلت تجارة اللؤلؤ نحو 70% من إجمالي الصادرات البحرينية إلى البصرة خلال هذه الفترة مما يعكس الأهمية الكبيرة لهذه السلعة في الاقتصاد المحلي.
بالإضافة إلى الجانب التجاري كانت هناك علاقات ثقافية واجتماعية قوية بين البصرة والبحرين حيث كانت العائلات التجارية في البلدين تعمل معا في شبكات تجارية ممتدة. وفقا للسجلات العائلية هاجر عدد من العائلات البصرية إلى البحرين خلال هذه الفترة مما ساهم في تعزيز الروابط الاجتماعية بين المدينتين.
المقدمة
عدلكانت للبصرة علاقات تجارية وملاحية وسياسية واسعة مع البحرين على الرغم من التدهور الذي أصاب البصرة نتيجة الطاعون التي اكتسحها في عام 1773 وكذلك الحصار الفارسي لها في عام 1776 وانتقال الوكالة التجارية البريطانية منها مؤقتاً، كل ذلك ادى الى تقليل الحركة التجارية، الا ان انتهاء الحصار الفارسي للبصرة وعودة الوكالة البريطانية بشكل مقيمين اعطاها نوعاً من الحركة التجارية.[1]
وتمتعت كل من البصرة والبحرين خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر بمكانة سياسية وتجارية مهمة في منطقة الخليج العربي سيطرت خلالها على الحركة الملاحية والتجارية الى جميع مناطق انحاء الشرق، وقد أثار ذلك حقد وحسد القوى الكبرى في المنطقة كالعثمانيين والفرس والبريطانيين، إذ اقدمت الدولة العثمانية على احتلال البحرين باعتبارها قضاء تابع الى البصرة.
المجال التجاري
عدلساعد موقع البصرة في القسم الشمالي من الخليج العربي على أن منحها دوراً في الملاحة والتجارة عبر العصور المختلفة وخاصة في مناطق الخليج العربي إذ ان للبصرة علاقات واسعة مع البحرين في المجال التجاري والعسكري إذ تعد البصرة والبحرين مركزين مهمين في منطقة الخليج العربي الإعتماد القوى الكبرى عليهم في التجارة والعسكر وتقع احداهما في شماله والأخرى في جنوبه وتسيطر على مداخله وكانوا يستخدمون السفن نفسها لأغراض التجارة ايام السلم والاغراض العسكرية ايام الحرب.
تعد البحرين من المراسي المهمة للسفن القادمة من الشرق ولها دور مهم في تجارة اللؤلؤ، حيث يمتاز لؤلؤها بالجودة والنقاوة، مما جعل تجار اللؤلؤ يتهافتون عليه ويفضلونه وخاصة البصرة، إذ ذكر الجغرافيون العرب ان البحرين ترتيط مع البصرة ومن خلالها يكون الاتصال بأنحاء العراق والشام ودمشق.
وفي المجال التجاري كانت للبصرة علاقات تجارية وملاحية واسعة مع البحرين حيث ترجع جذورها الى الحضارة السومرية. ويذكر ان تجار أور اقاموا اسطولاً لنقل البضائع من وادي البحرين والعراق فضلاً عن ذلك تعد البحرين والبصرة نقطة ارتباط بين الهند وافريقيا وسواحل الخليج العربي، إذ ان البصرة تستقبل سفناً من البحرين وشرقي افريقيا فقد كانت تلك السفن محملة بالعبيد والبن والعنبر كما ان السفن البحرينية تنقل التبغ من العراق عن طريق البصرة والذي كان ينتج في ديالى وهو افضل من الذي يأتي من الهند ومن جانب آخر سكنت البصرة في أواخر القرن الثامن عشر طائفة من التجار الحليين الذين تاجروا مع الهند إذ كانوا يجلبون النحاس واللؤلؤ من البحرين ويتاجرون به قسم كبير منه يبيعونه في حلب واسطنبول كما كانت السلع الواردة الى البصرة تمر عن طريق البحرين ومنها الاقمشة مثل الشيت والشالات وكذلك بعض المعادن مثل القصدير والحديد والرصاص فضلاً عن البن الذي كان يستهلك القسم الأكبر من البحرين بينما ينفل القسم الآخر عن طريق البحر الى البصرة ليباع هناك.
كان اهل البحرين ينقلون بسفنهم من البصرة الاقمشة التي كانوا يستخدمونها في صناعة الاشرعة، كما استوردت البصرة كميات كبيرة من اللآلئ البيضاء من البحرين وارسالها الى اسواق بغداد إذ ان لها رواج كبير فيها، فضلاً عن ذلك اشتهرت البحرين بصناعة العباءات والمدات والمدات (نوع من الحصر) تصدر منه كميات كثيرة الى العراق، لفرشها على ارضيات المساجد.
وتؤكد الوثائق البريطانية رغبة اهل البصرة بالمتاجرة مع البحرين إذ انها تعد البحرين الميناء الرئيسي، فضلاً عن وجود النخيل والخضروات وازدهار تجارة اللؤلؤ، وهذا ما حفز السلطة العثمانية للتوجه نحوها والسيطرة عليها.
وفي عام 1873 بدأت البصرة تصدر الى البحرين الخيل والحمير والقطن والخام والتمور الطازجة والجافة والبقول والجلود المدبوغة والسمنة والاسماك والسمسم والمنسوجات والحرير الخام والسكر المخروطي والتبغ والصوف والعباءات الايرانية بقيمة 328727 باون وهذا يعني بأن البصرة كانت تساهم في ثلث الصادرات الى ميناء البحرين ومن الواضح أن بعض السلع لم تكن من منتجات البصرة وانما مستوردة لأغراض اعادة التصدير اما عام 1882 ازداد التعاون التجاري بينهما صدرت البصرة الى البحرين مواد بقيمة 73508 باون من اصل واردات البحرين البالغة 343806 باون أي أكثر من خمس وارداتها وهي نسبة أقل من مثيلتها في العقد السابق لأسباب منها نجد مردوا ذلك الى الصراع العثماني البريطاني بشأن السيادة على البحرين في ثمانينات القرن التاسع عشر.
أما قيمة الواردات من البحرين الى البصرة في عام 1882 فكانت 92321 باون وهي نفسها السلع تقريباً التي ذكرت في عام 1872 مع تفاوت طفيف في كمياتها أي بزيادة كما استوردته في عام 1873 ويعود ذلك الى العلاقات السياسية الجديدة التي قامت بين البحرين وحكومة الهند التي تحولت الى مستودع للسلع البريطانية في منطقة الخليج العربي.
وقد استمر تصدير الكثير من منتجات البصرة المحلية الخيل والحمير والقطن الخام والتمور الطازجة والجافة والدبس والبقول والجلود والسمن والاسماك، ومن السلع التي كانت تستورد من قبل تجارها الى موانئ الخليج العربي، إذ كانت صادرات البصرة تساهم في ثلث الصادرات الى البحرين.
وهذا يؤكد بأن البصرة تشكل ميناء رئيسي للصادرات والواردات التي تذهب الى الخليج العربي والبحرين خصوصا.
المجال السياسي
عدلعندما سنحت الفرصة لمدحت باشا باحتلال الاحساء عام 1871 اراد ان يضم البحرين وقد لاقى هذا الاجراء ترحيب من قبل الشيخ جاسم بن محمد آل ثاني حاكم قطر لأنه كان يأمل بعد أن يقضي على نفوذ آل خليفة في البحرين لذلك عمل على التحالف مع ناصر بن مبارك بن عبد الله آل خليفة الذي كان من اشد اعداء آل خليفة.[2] ولهذا عرض الاثنين مساعدتهم للقائد العثماني نافذ باشا.
وتعد البحرين ذات موقع تجاري مهم فضلاً عن اشتهارها بمغاص اللؤلؤ ورغم احتجاج الحكومة البريطانية عام 1871 ضد سيطرة الدولة العثمانية على البحرين التي نقلها اللورد مايو عن طريق السفير البريطاني في اسطنبول الى الصدر الأعظم العثماني عالي باشا وكان رد الدولة العثمانية ان اسطولها كان الغرض منه هو السيطرة على نجد وليس للدولة العثمانية نوايا التعرض للنفوذ البريطاني في المنطقة.
وذكر جمال زكريا قاسم ان السلطات العثمانية في البصرة طلبت من حاكم البحرين الشيخ عيسى بن علي آل خليفة اعترافه بالسيادة العثمانية لكن الحكومة البريطانية عارضت ذلك على اساس ارتباط البحرين بمعاهدات معها. وقد لاقى تدخل العثمانيين في البحرين والذي بدأه مدحت باشا بموقف صارم وقفته البحرية البريطانية في الفترة ما بين 1871 و1895.
بعد نجاح حملة مدحت باشا في الاحساء ارسل الى البحرين فرقة عسكرية بقيادة عارف بك قائد البحرية للبصرة لبناء ما يلزم من مستودعات الوقود اللازمة للسفن العثمانية وقد تم الترحيب من قبل حاكم البحرين الشيخ عيسى بن علي آل خليفة للسفينتين العثمانيتين لبنان واسكندرية وان كان الغرض ليس فقط بناء مستودعات للوقود وانما هو جعل البحرين تابعة لمتصرفية الاحساء التابعة للواء البصرة.[3]
وقدم حاكم البحرين الشيخ عيسى بن علي آل خليفة قطعة ارض مناسبة لتشييد مستودع للوقود لغرض تزويد البواخر العثمانية العاملة بين البصرة واسطنبول عن طريق الخليج العربي وقناة السويس وعندما رأت الحكومة البريطانية وصول البواخر العثمانية بالمقابل ارسلت باخرتين بقيادة بيلي لتتبع مسار الباخرتين العثمانيتين.
أما الدولة العثمانية وسلطاتها في البصرة لم تكف عن بذل المحاولات الكثيرة في التدخل في شؤون البحرين فقد اراد مدحت باشا استحصال التماس يحمل تواقيع تجار اللؤلؤ البحرينيين يطلبون فيه الحماية العثمانية لكنه لم ينجح في مسعاه.
وهذا العمل أثار مخاوف السلطات البريطانية وللوقوف بوجه الاطماع العثمانية تلك قررت حكومة الهند البريطانية اتباع الطرق الدبلوماسية تجنباً للاصطدام العسكري مع الدولة العثمانية لذلك اوعزت الى مقيمها في بغداد هربرت ديسبورو في يوليو 1871 بلقاء والي بغداد مدحت باشا والتأكد له ضرورة المحافظة على استقلال البحرين التي ترتبط بعلاقات تعاهدية مع بريطانيا انطلاقاً من سياسة بريطانيا في ابقاء الاسر الحاكمة في الخليج العربي خارج نطاق نفوذ قوى أخرى.
وتذكر بعض المصادر أن بريطانيا حمت البحرين من النزاع الفارسي العثماني للسيطرة عليها لما تمتلكه من المصائد اللؤلؤ واعتبار الجزيرة مركزاً لتلك التجارة التي كانت تقدر أنذاك بأكثر من خمسة ملايين من الجنيهات مما يحفز هذه الدول للسيطرة عليها.
واستخدمت الدولة العثمانية التكتيك على اساس ان البحرين تابعة لنجد وهي الزكاة التي كان يدفعها حكام البحرين الى الرياض التي كانت تابعة للدولة العثمانية فضلاً عن قيام مدحت باشا بجمع تواقيع التجار البارزين في البحرين يطلبون فيه الحماية من الدولة العثمانية لكنه لم ينجح لذلك ترك الأمر وغادر البصرة.
ونرى ان المحاولات العثمانية في البصرة هدفت لضم البحرين تحت سيادتها لكنها بطرق دبلوماسية تحاول تأكيد للحكومة البريطانية حقوقها وسيادتها على طول الساحل العربي في الخليج العربي لأن جميع هذه الدول دفعت الضرائب لها عن طريق قائم مقامها في الرياض، بالمقابل تؤكد الحكومة البريطانية ان لها اتفاقيات مع المشيخات العربية وانها لن تسمح بأيجاد اي مركز معادي لها.
في عام 1874 حاولت الدولة العثمانية ان تقوي حاميتها في قطر واعادة بناء ميناء الزبارة التي تقيم فيها قبيلة النعيم الموالية لحاكم البحرين الشيخ عيسى بن علي آل خليفة واحتجت الحكومة البريطانية باسم حاكم البحرين الشيخ عيسى بن علي آل خليفة بدعوى ان الزبارة تخضع له وان للبحرين مطالب قديمة فيها مما دفع الدولة العثمانية لتحريض القبائل البدوية من بني هاجر بالهجوم على البحرين لكن محاولاتهم باءت بالفشل نظرا لظهور السفينة البريطانية ماي فرير كذلك استطاعت السفينة البريطانية روز هاي ان ترد الهجوم الذي وجهته تلك القبائل عن ميناء الزبارة.[4]
ان عدم تنازل الحكومة البريطانية عن البحرين كان يعني احتفاظها بتجارب مربحة في منطقة الخليج العربي إذ ان التجار البحرينيين لهم موانئ خليجية أخرى وذلك لرغبتهم في استمرار الصلات مع اقرانهم في البصرة لذلك حاولت بكل دهاء سياسي ان تحتفظ بتلك الصلة.
وامام تلك الضغوط البريطانية حاولت الدولة العثمانية الاحتفاظ بأسطولها في البصرة وهذا اعتبرته بريطانيا تهديداً لمصالحها في الخليج العربي فقدمت احتجاجاً الى الحكومة المحلية في البصرة والى الحكومة المركزية في اسطنبول واعتبرت نفسها مسؤولة عن أمن الخليج العربي وسلامة.
ويذكر أن سبب تلهف العثمانيين لاحتلال البحرين يعود الى عوامل سياسية لان بعض الهاربين يلجؤن الى البحرين مما يشكل خطر على مستقبل العثمانيين في المنطقة وابرز مثال هو هروب الأمير عبد الرحمن الفيصل بعد فراره من سجنه في بغداد الى البحرين.
وبعد استقالة مدحت باشا لم يأتي والي عثماني بدرجة حماسه لأكمال المشروع العثماني للسيطرة على منطقة الخليج العربي وبالأحرى لم تكن مهتمة للمشروع، فضلاً عن المشاكل الكثيرة التي واجهتها الدولة العثمانية في اوروبا اجبرتها على التراجع تدريجياً عن حقوقها وسيادتها بالمقابل كانت بريطانيا تتقدم لاحتلال المراكز التي تتخلى عنها الدولة العثمانية.
لكن الدولة العثمانية بقيت تطالب بالسيادة على البحرين مرة أخرى وذلك عام 1892 حين فرضت السلطات العثمانية في البصرة ضرائب جديدة على البصرة وملحقاتها وانتهز السفير البريطاني في اسطنبول الفرصة ليذكر الباب العالي بأن البحرين لكونها واقعة تحت الحماية البريطانية فأن حكومته لن تسمح بتدخل العثماني في شؤون مواطني البحرين.[5]
لذلك عقدت في عام 1892 اتفاقية مع حاكم البحرين الشيخ عيسى بن علي آل خليفة لحماية البحرين وعدم التنازل لأي قوة اجنبية عدا بريطانيا.[6]
الخاتمة
عدلتعد البصرة والبحرين من أهم بلدان الخليج العربي حيث تقع الأولى في شماله وتسيطر على الملاحة هناك، وتقع الثانية في غربه وتتحكم بمدخله. وقد نشأت علاقات تجارية وسياسية وعسكرية بين هذين المينائين المهمين.
كانت العلاقات التجارية بين البصرة والبحرين خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر مهمة في اغلب الاحيان حيث تمر التجارة التي تأتي الى ميناء البصرة بميناء البحرين وتعد البصرة مخزناً لتجميع البضائع القادمة من البحرين.
أما عن العلاقات العسكرية فقد كانت في اغلب الأوقات الحكومة البصرية المحلية في البصرة تريد ان تمد نفوذها وسيطرتها على البحرين باعتبارها خاضعة للسيطرة العثمانية ذلك للأهمية التجارية وازدادها بمغاص اللؤلؤ وحاولت الدولة العثمانية بطرق عدة اخضاعها بكافة الطرق السلمية والحربية ولكن الحكومة البريطانية وقفت لها بالمرصاد وازاء تلك المشاكل أخذ العثمانيون يتراجعون تدريجياً عن مناطق نفوذها التي سبق وان احتلت في عهد مدحت باشا فتركوا المنطقة للبريطانيين الذين كانوا يتقدمون بخطى ثابته ومدروسة للسيطرة على المناطق التي انسحب منها العثمانيون حتى اصبحت بريطانيا سيدة المنطقة بدون منازع.
مصادر
عدل- ^ "من تاريخ الأوبئة في البحرين والمنطقة".
- ^ "مطالبة ناصر بن مبارك بحكم البحرين".
- ^ "حملة مدحت باشا علي الأحساء في الأرشيف العثماني".
- ^ "البوشوكة: النعيميون المهجرون من الزبارة قسرًا يحق لأحفادهم المطالبة بالتعويضات".
- ^ "التسلسل الزمني للأحداث الرئيسية في البحرين".
- ^ "عيسى أمين: «الهند البريطانـــــية» وقعت اتفاقية مع عيسى بن علي لحماية مصالحها".