نقاش المستخدم:عبد الفتّاح القرقني/ملعب
عبد الفتّاح القرقني/ملعب | |
---|---|
معلومات شخصية | |
اسم الولادة | عبد الفتّاح |
الميلاد | 1 سبتمبر 1954 تونس |
الجنسية | تونسي |
الحياة العملية | |
المهنة | معلّم |
بوابة الأدب | |
تعديل مصدري - تعديل |
السّيرة الذّاتيّة
عدلتصغير|منزل تقليديتصغير|المعلّم عبد الفتّاح القرقني مع زميله رياض العسّاس
ولد عبد الفتّاح القرقني فجر يوم الأربعاء في غرّة سبتمبر سنة 1954 الموافق لـ 3 محرم1374 هـ بقرية غيزن ، جزيرة جربة ،الجمهورية التونسية .عاش داخل أسرة قليلة ذات اليد محدودة الموارد الفلاحيّة.. في الرّابعة من عمره، توفّي أبوه سالم بن أحمد القرقني و تكفّلت أمّه منى دوس بتربيته مع إخوته عروسي النّاجــح و أحمـــد و فاطمة و عروسيّة والإنفاق عليهم من كدّ يمينها في كفاح مسترسل من الفجر إلى الغروب :( غزل الصّوف - خدمة الأرض - تربية الدّجاج و الأغنام... ) . لديه أيضا ثلاث أخوات أخريات لم يتربين معه ، تزوّجن قبل ولادته لمّا كان أبوهنّ على قيد الحياة و هنّ ياسمينة و زبيدة و زهرة.
السّيّد عبد الفتّاح بن سالم القرقني رجل ثقافة ،عربيّ ، مسلم ، مولع بالأدب بقضّي جزءا كبيرا من أوقات فراغه في المطالعة و تحرير الأقاصيص . اشتغل معلّما طيلة 35 سنة و نيف : من 28 سبتمبر1978 إلى 15 نوفمبر2013 . تصغير|الحوش العربي الّذي ولدت فيه و تربّيت فيه و أعيش فيه الآن تصغير|عبد الفتّاح القرقني أمام بيتهتصغير|القاصّ عبد الفتّاح القرقني
المدارس الّتي درّس بها
عدل( سنة واحدة هي سنة التّربّص بمدرسة ترشيح المعلّمين ببطحاء الخيل القرجاني تونس ).
- مدرسة المنجم أم العرائس قفصة :
من سنة 1979 إلى سنة 1985 (6 سنوات )
- المدرسة الابتدائيّة بفاتو، قرية فاتو جزيرة جربة :
من سنة 1985 إلى سنة 2005(20 سنة ).
- المدرسة الابتدائيّة بغيزن، قريةغيزن جزيرة جربة :
من سنة 2005 إلى سنة 2013 (8 سنوات )
المعلّم الموفّق و مزاياه
عدل- قدوة في الخير لطلاّبه، وأسوة حسنة لتلاميذه محبب إليهم، عزيز عليهم.
- محضِّر لمادّته العلميّة، حريص على نفع الطّلاب والارتقاء بهم في سلّم العلم والمعرفة.
- سليم من الجفاء والبذاء والغلظة والفظاظة، يألف طلابه ويألفونه.
- عاكف على تخصّصه، متميّز في فنّه، ملمّ بأطراف موضوعه.
- كثير الاطّلاع، موسوعيّ المعرفة، عارف بثقافات عصره وقضايا أمّته.
- متوقّد النّفس بما يقول، ملهب لطلاّبه، متحمّس في إلقائه وطرحه، بعيد عن البرود والجفاف.
- مواظب على دوامه، دقيق في مواعيده، منتظم في عمله.
- بعيد عن الشّبه وكل ما يريب، هاجر كل خلق رذيل، متّصف بكلّ وصف جميل.
- لا ينهمك في المزاح واللّغو والسّفه والفحش في القول، بل هو ليّن القول، عذب الكلمة، طاهر اللّسان.
تهنئة بالحصول على التقاعد من طرف الأديب إبراهيم درغوثي
عدلتصغير|الأديب إبراهيم درغوثي التّاريخ : 15 نوفمبر 2013 ما زالت البركة عزيزي عبدالفتاح . أذكرك وأنت الشّابّ القادم حديثا للعمل في أمّ العرائس في ثمانينات القرن الماضي زمن الجمر عندما كنّا نناضل من أجل رفعة المعلم والتّعليم . أذكر أنّك كنت معنا في ثورة الخبز عندما كان الرّصاص يلعلع فوق رؤوسنا ونحن نشارك شعبنا في الدّفاع عن الخبزة التي أراد المستكرشون سرقتها من أفواه الجياع ولم نخف سطوة الجلاّد ولا سجونه وعشنا كراما . اليوم وأنت تتقاعد من التّدريس معافى كريما تبقى دائما ذاك المجاهد الذي أعطى أجمل أيّام عمره لأبنائه وبناته تلاميذ وتلميذات تونس الّذين سيذكرونك دائما بخير كما يذكرك الآن كل من مرّوا أمامك من تلاميذ أم العرائس وهم يذكرونك دائما بخير. دم بصحّة وسعادة لكلّ أحبابك يا صديقي.
قصيد حيّ المعلّم للشّاعر محمّد برهومي
عدلالشّاعر الرّائع محمّد برهومي درس عندي في التّعليم الابتدائيّ بمدرسة المنجم في أمّ العرائس / ولاية قفصة . أهدي له و لخلاّنه بتلك المدرسة العتيدة تحيّات عطرة تحملها لهم نسائم البحر المنعشة في جزيرة جربة الحالمة . أهدي أيضا أشذى التّحايا في وفــــــــاء و إجلال و تقدير لكلّ الزّملاء بتلك الرّبوع المنجميّة الفيحاء فهم كانوا أكاليل من الورود تجمّل روحي و لاتشرد عن ذاكرتي كلّما استحضرت تلك الحقبة النيّرة الّتي جمعتني بهم . بدون مجاملة هم كانوا في ذلك الزّمن الغالي ، الصّعب مصابيح الدّجى فهم من أناروا العقول بالعلم وهم من شحـــذوا الهمــــم بالوطنيّـــة و الحرية و الكرامة و إلى غير ذلك من المبادئ الّتي لا يجب أن نفرّط فيها كلّفنا ذلك ما كلّفنا .
القصيد : حيّ المعلّم
لو أنّ أقطابَ القريض توافدوا
زمرا لنظم نفائــــس الأقــوالِ
في مدح من جعل الجهالة خصمه
وأحبّ أهل العلم دون تعالي
لأعاقت الأنوار نطق شفاههم
فضياؤه كجواهر و لآلي
فخر لنا حني الجباه تواضعا
و تودّدا لمدرّس الأطــــفالِ
إنّا نهيب بدوره كمؤسّس
لبناء صرح حضارة الأجيال
نثني عليه لأنّ أنجم فكره
وسط الظّلام تشعّ كل مجالِ
" قم للمعلّم " حيّه لوقاره
فهو المشيع لسؤدد ومعالي
وهو المرشد للفضائل والهدى
بنباهة و بفضل نبل خصال
فمحمّد صلّى عليه إلاهنا
قد خصّه بالشّكر والإجلالِتصغيرحتى سما شرفا فكدت تخاله
كفءا له من رفعة و كمالِ
آرَاء ابن سينا في التّربية
عدللقد أسهم ابن سينا من خلال كتابه السّياسة في وضع قواعد التّربية الإسلاميّة، وله في ذلك آراء فلسفية وتربويّة هامّة يجب التّنويه بها وعدم إغفالها.
- « ينبغي البدء بتعلّم القرآن بمجرّد تهيّئ الطفل للتّلقين جسميّا وعقليّا، وفي الوقت نفسه يتعلّم حروف الهجاء ويلقّن معالم الدّين، ثم يروي الصّبي الشّعر مبتدئا بالرّجز ثم بالقصيدة، لأن رواية الرّجز وحفظه أيسر إذ أن بيوته أصغر ووزنه أخفّ ، على أن يختار من الشّعر ما قيل في فضل الأدب ومدح العلم وذمّ الجهل وما حث ّعلى برّ الوالدين واصطناع المعروف وإكرام الضيف. فإذا فرغ الصّبي من حفظ القرآن وألمّ بأصول اللغة ينظر عند ذلك في توجيهه إلى ما يلائم طبيعته واستعداده»
- « بنبغي أن يكون مؤدّب الصّبيّ عاقلا ذا دين، بصيرا برياضة الأخلاق ، حاذقا بتخريج الصّبيان، وقورا ، رزينا ،غير كزّ ولا جامد، حلوا، لبيبا ذا مروءة ونظافة ونزاهة »
- «الصّبيّ عن الصّبيّ ألقن، وهو عنه آخذ وبه آنس » « المحادثة بين الأطفال تفيد انشراح العقل، وتحل منعقد الفهم، لأن كل واحد من أولئك إنّما يتحدّث بأعذب ما رأى وأغرب ما سمع فتكون غرابة الحديث سببا للتعجّب منه وسببا لحفظه وداعيا إلى التّحدّث، ثم إنّهم يتوافقون ويتعارضون ويتقارضون الحقوق، كلّ ذلك من أسباب المباراة والمباهاة والمساجلة والمحاكاة، وفي ذلك تهذيب لأخلاقهم وتحريك لهممهم وتمرين لعاداتهم»
- « إنّه من الضّروري البدء بتهذيب الطّفل وتعويده الخصال من النّظام قبل أن ترسخ فيه العادات المذمومة التي يصعب إزالتها إذا ما تمكّنت في نفس الطّفل. أما إذا اقتضت الضّرورة الالتجاء إلى العقاب، فإنه ينبغي مراعاة منتهى الحيطة والحذر، فلا يؤخذ الوليد أوّلا بالعنف، وإنما بالتّلطف ثم تمزج الرّغبة بالرّهبة، وتارة يستخدم العبوس أو ما يستدعيه التّأنيب، وتارة يكون المديح والتّشجيع أجدى من التّأنيب وذلك وفق كل حالة. ولكن إذا أصبح من الضّروري الالتجاء إلى الضّرب، ينبغي أن لا يتردد المربي على أن تكون الضّربات الأولى موجعة، فإنّ الصّبيّ يعدّ الضّربات كلّها هيّنة، وينظر إلى العقاب نظرة استخفاف، ولكن الالتجاء إلى الضّرب لا يكون إلا بعد التّهديد والوعيد وتوسّط الشّفعاء لإحداث الأثر المطلوب ».
مدرسة غيزن الّتي في خاطري
عدلالأداء التّربويّ
عدلتصغير|التّلميذة سارّة طرابلسي أمضيت في مدرسة غيزن ثماني سنوات و شهرين من 15 سبتمبر 2005 إلى 15 نوفمبر 2013 انقضت بعجالة كسابقتها و تقشّعت تقشّع سحب الصّيف ، مشعرة إيّاي بأنّ عمر الإنسان قصير مهما طال .
تقاسمت مع تلاميذي خلال هذه الحقبة الزّمنيّـــة ذكريات عذبة لا تغشّيهــا ســـوى بعـــض غمامات الجراح. سنـوات لا يستهان بها كلّها بذل و عطاء في ترسيخ العلــوم و المعارف و القيم و محاربة الجهـــل والعادات السّقيمــة و الكسل بأساليب متطوّرة ، حديثة ، راقية تستند إلى الحوار البنّاء و الحجج الدّامغة .
لا داعــــــي إلى التّرهيـــــــب و التعنيف و إلى إعماء البصائر بالخوف
و الارتباك و التسلّط فنفوس الأطفال سلسة ، طيّعة تنسجم بسرعة فائقة مع الدّروس الّتي تراعـــي قدراــتهم الذّهنيّة و طاقاتهم الفكريّة و وجدانهم المرهف و حركيّتهم المسترسلة و طفولتهم الحالمة و ميولاتهم المتنوّعة. حنّكتني التّجارب فأكسبتني خبرة متينة يسّرت مهمّتـــي و أذكت حماسي وجوّدت نتائجي و أثرت إبداعي بشهادة رفاقي الّذين يباركون كفاءتي في التّبليغ بيسر دون تكلّف أو عناء و هو ما يطلق عليه عبارة السّهل الممتنع . تصغير|ريّان يامون
ها أنا قد أدّيت الأمانة الّتي أنيطت بعهدتي على أفضل وجه بضمير صاح ، متوقّد ، صعب الشّكيمة ، مرضيا الله ، وفيّا لمبادئي و عروبتي و وطني تونس الخضراء .
أحمد الله أنّني كنت عطوفا على التّلاميذ محبّا لهم ، صبورا على صخبهم و هفواتهم و خمولهم و تقصيرهم في أداء فروضهم.. أنا دائم الابتسامة ، طلق المحيّا مع الأطفال فقلّ و ندر أن حنقت أو صحت في وجوههم أو سلّطت عليهم عقابا بالضّّرب أو بالشتم أو السّباب . كنت لهم خير صديق أتحاور معهم في هدوء تامّ دون تشنّج بأسلوب مرح ، عقلانيّ يرتكز على الإقناع و التّروّي فما يؤخذ باللّين لا يؤخذ بالشدّّة .
الحصول على التّقاعــد
عدليوم السّبت 15 نوفمبر 2013
صباح يوم شتويّ قارس ، كئيب ، متجهّم سماؤه ملبّدة بالغيوم أنبأني مدير المدرسة السّيّد لطفي كمّون بحصولي على التّقاعد ثمّ سلّمني وثيقة من المندوبية الجهوية للتّربية بمدنين تثبت ذلك و تؤكّد الخبر الّذي باغتني به الزّميل رياض في السّاحة قبيل تحيّة العلم و دخول الأقسام .
بموجب هذا النّبإ سأكون متقاعدا منذ هذا اليوم بعيدا عن المدرسة و أقسامها و ساحتها و مربّيهـا و تلاميذها الّذين تربطني بهم علاقات طيّبة فأنا واثق من أنّهم يحبّونني حبّا جمّا و يثمّنون أدائي التّربويّ و يكبرون ثباتي على المبدإ و عدم تزحزحي عنه و لو قيد أنملة .
ستنطفئ شعلتي المتوهّجــة بهذه المدرســة النّيّرة الّتي ولّيت وجهي شطرهــا أيّاما و أيّامـــا في همّـــة و عزم غير مكترث لا بطول مسافة و لا بطقس عابس و لا بثقل محفظتي الجلديّــة المرصّفـــــة كتبا و دفــاتر و كرّاسات و ملفّات إذ كنت أرجحها متوهّما أنّها خاوية ..
ممّا لا ريب فيه هي لحظات مثقّلة بالأسى و الانكسار تنهك جسدي إنهاكا و تهدّه هدّا . كيف سأعتاد على هذا الوضع الجديد ؟ كيف سأستثمر أوقات الفراغ في البيت ؟ كيف ... كيف ...يا إلاهي كيف ... يا خالقي كيف ... لا جواب ... لا جواب في ذهني المشوّش ، المخبّل كالشّراك ، الهائم . أنا بكلّ تواضع معلّم حـازم وفيّ لمهنتـــي ، محــــبّ لهؤلاء الصّبيــــة الّذين أودعتهـــم ودّي و صبري و ثقتــي و جمال روحي و هم أودعوني صراحتهم وعفويتهـــــــــم و نقاءهـــــم و طهرهم . تعوّدت المرح معهم بين الفينة و الأخرى و رويت لهم قصصا طريفــــــة و نوادر مسليّة و ألفت تشويشهم و أصغيت إلى مشاكلهم و ساعدتهم على تحقيق نصيب من آمالهم و تطلّعاتهم . أليسوا أكسيجينا لحياتي ؟ أليسوا قنديلا يضيء كهوفي الدّامسة ؟ أليسوا جيلا صاعدا في مقتبل العمر تعوّل عليه بلادنا في البناء و التّشييد من أجل رقيّها ؟ أليسوا ورودا فاتنة ، عطرة تضفي على روحي و على هذا الوطن الغالي رونقا و جمالا ؟
ما إن أقفلت محفظتي عن مضض حتّى طفرت على خديّ دموع متدفّقة ، حامية كأنها الجمـر و أنا لا أبالي بمن كانوا حولي فكأنّي فقدت عزيزا عليّ . أجهشت بالبكاء فخنقتني العبرات و الآهات و الزّفـــرات و ران على نفسي المختلجــــة كابوس على غايـــة من القتامـــــة و الوحشة .
ضيــــــــــــــق جثم على صدري كجلمود صخر حطّه السّيل من الأعالي فندبت حظّي المنكــــود و مادت بي الأرض و سرعان ما اختلّ توازني و انهارت معنوياتي بصورة ملحوظة تدعو للغرابة حتى أضحـــــــــت فـي الحضيض .
لمّا أبصرني التّلاميذ على هذه الحال رأفوا بي و التفّوا حولي يواسونني مهدّئين من كمدي و الدّموع الرّقراقة ملتمعة في مقلهم ، منسابة على وجناتهم الورديّة ، البضّة ، النّاعمة .
دنا منّي أحدهم و هو فتى وسيم ، فارع القامة، قمحيّ البشرة فمسح بمنديل أبيض دمـــــعي المدرار و طبع على جبيني قبلة حلوة بشفتيه المعسولتين برحيق الحياة و لسان حاله يقول في تأثّر شديد بدا من خلال الكلمات المتهدّجة التي غصّ بها حلقه :
« لا تبك يا سيّدي فأنت رجل عظيم ، شهــــم و لكلّ بداية نهاية . آن الأوان للظّفر بالرّاحة بعد سنوات من النّضال فأنت قمت بواجبك معنا دون تقصير فحسن تربيتنا و العلم الّذي بثثته في صدورنا لأبلغ دليل على ذلك . نحن فداك ... نحن فداك ».
ربّ ابتسامة حالمة كابتسامة هذا الفتى الوديع زوّقت لعيني مشاهد العيش و أرتني جمال الحياة و أذكت في نفسي تفاؤلا فتيــّا فما أضيق العيش لولا فسحة الأمل . ما هي إلاّ دقائق معدودة حتّى أشرق وجهي بعد اكفهــراره و عبوسه و اطمأنّ قلبي بعد انزعاجه الشّديد و افترّ ثغري عن بسمة عذبة كابتسامة الوليد و حلّقت روحي في سمــــــاء السّعــادة و الحبور الّتي يعجز الخيال عن تصوّرها و القلم عن وصفها مهما كان أوج البلاغة و فصاحة البيان .
ها قد استعادت النّفوس غبطتها المسلوبة فصفت أمزجتهم و انشرحت صدورهم و اضمحلّ تكدّرهم ما أروع أن تتفرّس في وجوه الأطفال الطّافحة بشرا و في عيونهم الملتمعة بومضات البهجة . هذه البسمات المتألّقة ، المتدفّقة كمياه النّبع أنعشتنــي و محـــت أتعابي و أشجاني محوا فهي كالشّمس إشراقا في خلجان روحــي التي دأبت أنسهـــــم و ألفتهم .
قضّيت معهم زهاء ساعتين في حديث ممتع اتّسم بنعومة البـــــال و نقاء العفويّة و جمال الصّراحة فيه بحر من الخواطـــــــر و النّصائح و النّوادر الحكايات و النّكت و الاعتراف بالجميل فكأنّ السّنة الدّراسيّة شارفت علــى نهايتها و حان وقت المرح و اللّعب على الشّواطئ الرّمليّة .
عندما دوّى صليل الجرس معلنا عن نهاية الحصّة الثّانية هرعت إلى ساحة المدرسة متلفّعا ببرنسي المجلوب من جهة الجريد فالتقطت لتلاميذي و لزملائي صورا تذكاريّة و فيديوهات رائعة قرب الحديقة المكسوّة بحلّة سندسيّة اللون ، مخضرّة ، بديعة قد زانها الطلّ بأفواف عذاب .
و في نهاية المطاف ، ودّعتهم توديعا حارّا و أنا لا أنفكّ أعدهم و وعد الحرّ دين بالتّواصل معهم بكلّ الوسائل العصريّة المتاحة كلّما برّح بي الشّوق إليهـــم ثمّ سلكت طريقا مؤديّة إلى منزلــــي بخطــــو ثقيــــــــــل يتنازعني الفرح و الانكسار و الأسف على فراقهم و قد سرت في بدني قشعريرة غريبة كدبيب النّمل .
لن أستسلم للبكاء و لن أقف على أطلال الماضي التّليد منكسرا، متحسّرا فنجمه قد أفل بدون رجعة و إن كانت ذكرياته الكثيرة ، المتتالية مازالت تطوف في نفسي كأسراب الحمام . بالرّغم من تقدّمي في السنّ ستبقى حياتي بمشيئة الله متجدّدة ، يانعة ، خضراء ، ناعمة في عنفوان شبابها طالما أنّ عقلي سليم و جسمي معافى و بين أضلعي قلب ينضح بالحبّ و الأمل و الإصرار على مواصلة الكفاح بخطوات ثابتة لا تعرف الانهزام و التّقهقر.
أومن إيمانا جازما أنّ الحركة بركة و الرّكون إلى الكسل لا يخلّف لصاحبه إلاّ الهوان و الخصاصة.العديد من الأنشطة هي بمثابة هوايات لي تحافظ على لياقتي النّفسيّة و الجسديّة
- الرّياضة
- الفلاحة ( العناية بالحديقة / غراسة أشجار مثمرة / عزق / زراعة / حصاد ...)
- صيد بحريّ
- أدب
- بناء و ترميم
- رحلات
سأعمل لدنياي كأنّي أعيش أبدا و سأعمل لآخرتي كأنّي أموت غدا بالتّكثيف من العبادات سائلا الله أن يغفر لي ذنوبي و ينعم عليّ بالصّحّة و بالمال لأحجّ و أعتمر .
قنديل الذّكريات
عدلتصغير|من قنديل الذكرياتكلّما اختليت بنفسي داخل غرفتي في سكون الليل فكّرت في أيّامي الجميلة الضّائعة و في أيّامي البشعة الّتي كفّنتها الدّموع و الأحزان .ها أنا أنظر فأرمق صورا واضحة تتحرّك حولي كنسيم الصّباح و تتعاقب حول قلبي كأوراد الجبال . ما تلك الصّور إلاّ أطياف أنيقة ، مزدانة كقوس قزح تمرّ أمامي جذلانة ، راقصة ، ثمّ تختفي في غيابات هوّة سحيقة ، دامسة . و على نقيض تلك الرّسوم الشّفافة ، المستحبّة أبصر رسوما ضبابيّة ، ذميمة ، متقلّبة كأمواج البحر الهادرة هي أسوء ما في ذاكرتي مازالت تؤسّرني و تلاحقني ثمّ تستقرّ في رمس عميق مهجورفي لون اللّيل إذا عسعس .تصغير|ذكريات بمدرسة غيزن
يا أيّتها المدرسة الحبيبة إلى قلبي أنت جمال أزليّ انصبغ في خاطري انصباغ الألوان الزّيتيّة على لوحة الموناليزا للرّسّام العالمي ليوناردو دا فينشي . أنت منارة شامخة ضممت إلى صدرك الدّافئ أطفالا و أطفالا منذ انبعاثك في 15 فيفري سنة 1939 فتسلّحوا بنور العلم و مكارم الأخلاق . أهدي إليك في فخر و اعتزاز تحيّاتي الزّكيّة و رياحين قلبي و أسمى عبارات التّقديرو الإجلال .
شاءت الأقدار أن أكون فيك تلميذا في السّنة الأولى ابتدائي بائسا ، مرقّع الثّوب محفظتي كالمخلاة خاطتها لي أمّي من قماش أزرق ، متين ثمّ ها أنا معلّــم أعترف بجميلك عليّ مكبرا مجهودات من درّسوني و بذلوا ما في وسعهم في سبيل نجاحي . بين جدرانك الكلسيّة تذوّقت الذّكريات حلوها و مرّها فهي تارة أعذب من الماء الزّلال و طورا في طعم العلقم لا تحتمل لأنّها تلقي بثقلها على عاتقي كالجبال الرّواسي . تلاميذ أوفياء و زملاء طيّبون مازالت بسماتـــهم و نوادرهم تشعّ في نفسي غبطة عظيمة وأملا نيّرا و استقرارا منشيا . تصغير|ريّان المرعوشهذا قسم السّنة الخامســـــة شاهد علـــى جدّي و مثابرتـــي فأنا أنشّط الدّروس داخلـــه في حيويّة دائبــــة و منهجيّة حديثة و اقتدارتامّ واقفا دون جلوس على الكرســيّ فكنـــت تارة أسجّل القواعـــــــد بالطّباشيـــــر الملـــــــوّن على السّبّورة الخضراء و طورا أمرّ بين المقاعد مسرورا لمراقبة التّمارين المنجزة أو الرّسوم الهندسيّة أو الخطوط حتّى تكون حسنة ...
و تلك السّاحة الفسيحة نستهويني بحديقتها الجميلة و بترابها المسكيّ و بأشجارها الباسقة . نحن الأطفال تطأ أقدامنا كلّ شبر منها فنحن نذرعها دون أن يدركنا الفتور جريا و عدوا و وثبا. لعبة الغمّيضة هي أفضل ألعابنا فعندما نمارسها نستمتع و نحدث جلبة و نكركر بضحكاتنا الرّنّانة و نعيش أحرارا في عالمنا الطّفوليّ المتميّز ، المحفوف بالمحبّة و المغامرة . تصغير|الفسّاطويلمّا صرت معلّما كانت السّاحة بالنّسبـــــــــــة لي فضاء للرّاحــــة و الاستجمام بعـد دروس مضنيـــة ففيها أتلاقى بزملائي و زميلاتي فنكوّن حلقة و ننبري في الحديـــــث عن مشاغلنا دون أن تغيب عنّا لا فكاهــــــــــة و لا نـــــادرة و لا قهقهات صاخبة تترجم حبورنا و انشراحنا . في فصل الرّبيع أمتّع نظري بجمال الحديقة مصغيا إلى أهازيج أطيارها الرّخيمة ، الطّروب . أمّا عند اشتداد القيظ في شهر جوان أتفيّأ ظلال أشجارها الباسقة أين يكون الهواء لطيفا ، رخوا فأخلد للرّاحة بضعة دقائق فأنا لا أتحمّل لا شدّة الحرّ و لا العرق.
ها هو المدير السّيّد لطفي بوجهه الباسم الضّحوك وفي كسوته الأنيقة حريص على احترام الوقت يحملق في ساعته اليدويّة من خلال زجاج نظّارته و يضغط على زرّ الجرس فيدوّي رنينه الحادّ في الأفق إيذانا بالجــدّ و الاجتهاد في الدّراسة . و ها هي إلاّ برهة حتّى يصطفّ التّلاميذ أمام أقسامهم في صفوف مستقيمة ، متوازيّة لتحيّة العلم المفدّى على أنغام النّشيد الوطنيّ . و الويل لمن يتخلّف عن تحيّة العلم فهو سيحدج بنظرات ارتياب و عتاب هي أشدّ أثرا من الكلام الجارح.
ها هو معلّم فظّ ، غليظ القلب يوصد باب القسم في ثورة وجنون و الشّرر يتطاير من عينيه و يمسك عصا غليظة سمّاها مسعودة ثمّ ينهال ضربا مبرّحا على قدمي صبيّ شقيّ في التّاسعة من عمره لأنّه اختلس اللّوز الأخضر من أحد البساتين . مسكين هذا الفتى فهو من شدّة الألم أطلق عقيرته للصّياح مستغيثا ، طالبا العفو :
« تائب يا سيّدي ، تائب يا سيّدي و الله قد أغراني اللّوز المتدلّي في الأفنان كعناقيد العنب و بسبب الجوع الشّديد الّذي ينهش أمعائي حصل ما حصل . لن أعيد صنيعي فكن واثقا من قولي ».
الزّعيم هو تلميذ مشاكس ، مديد القامّة ، ضخم الجثّة ، عريض المنكبين ، بليد ، ركيك لا يسلم أحد من أذاه ، يدرس في السنة الخامسة . بينما كانت معلّمته تنسخ نصّا على السّبّورة تحيّن عبثا غفلتها لصفع صديقه صفعة أرته النجوم ظهرا فانفرط عقد القسم و خيّمت على القسم ضروب من الصّخب و الضّحك و الاستهتار. استغربت المعلّمة من عجرفة الزّعيم و انتهاكه الصّارخ لحرمة القسم فكانت فاغرة الفم لا تنبس ببنت شفة ثمّ أطلقت العنان للسانها توبّخه و تؤدّبه عساه يعود إلى رشده :
« ويحك ... ويحك ... كيف تجرؤ على تعنيف صديقك تعنيفا شديدا و تترك له أثر يدك الغليظة على خدّه . ينطبق عليك المثل القائل لا يصلح العقار ما أفسده الدّهر .الانحراف سيّئ العواقب فلا تجنح إليه و الاستقامة حسنة العواقب فبواسطتها ستنجح في دراستك و تفلح في حياتك فيرضى عنك الله و أسرتك و رفاقك . ربّي يهديك و يصلح رأيك و يبعد عنك مكائد الشّيطان ».
ما إن أصغى الزّعيم إلى نصائح معلّمته حتّى دسّ رأسه بين يديه كالنّعامة من شدّة الخجل ثمّ غمغم بكلام متهدّج يكبته
البــكاء الشّديد :
« أع أعتتذر لك يا سيّدتي و لر ر رفيقي الّذي ظلمته و اع اعتديت عليه بال الباطل و بدون مو مو موجب . نصائحك الثّمينة وقرت في قلبي وق وقرا شديدا و لذلك سأع سأعدك أمام أص أصدقائي و الشّاهد عليّ هو الله بأن أبتعد عن السّلوكات السيّئة و أكون مستقيما ، مهذّبا أحترم الجميع و بالخصوص أقراني الّذين يتضايقون من مشا مشاكساتي »
ها هم الأطفال في رحلة شيّقة لمدينة سبيطلة يتنقّلون بين آثارها الرّومانيّة الخلاّبة في خفّة و رشاقة تحدوهم لذّة الاكتشاف و نشوة الفضول في سماء من الطّلاقة و الحريّة دون حياد عن النّظام و الاحترام .
تحتوي مدينة سفيطلة حسب اسمها الرّومانيّ على عدد هامّ من المعالم أهمّها الفوروم بقوسه المهيب و ساحته المعبّدة و الكابتول المبنيّ من الحجارة الصفراء كلون الشّمس و هو مكوّن من ثلاث معابد متلاصقة ، معدّة لآلهة رومانيّة. و يمكن الاطّلاع كذلك على المعالم الأخرى مثل الحمّامات و المسرح و قوس النّصر و مساكن الأثرياء المطرّزة بلوحات الفسيفساء الرّائعة . ها هم الرّحّالة الصّغار يركضون من معلم إلى آخر رفقة معلّميهم فحينا كانوا يسألون الدّليل عن اسم المعلم و تاريخه فيظفرون بالجواب الشّافي و حينا آخر كانوا يلتقطون صورا تذكاريّة و حينا آخر كانوا يترنّمون بأغانيهم البريئة الطّاهرة . و عند الوصول إلى المسرح ، خطر ببالهم تمثيل مسرحيّة الأسد و الأرنب من كتاب كليلة و دمنة فأجادوا أدوارهم فحظوا بشكري و علا هتاف الحاضرين و التهبت أكفّهم بالتّصفيق الحادّ .
لم أنس أيضا السّيّد محمّد شبوح ذاك المنظّف المشرق البسمات ، الهاشّ الباشّ الّذي لا يتوانى في الحفاظ على نظافة المدرسة و العناية بحديقتها . في الصّباح الباكر يفتح الأقسام و مكتب المدير لتهوئته ثمّ يشرع في تنظيف السّاحة متسّلحا بالصّبر و الإخلاص في العمل فهي فسيحة و هو مصرّ على أن لا يترك فيها لا قشّة و لا ورقة و لا أعقاب سجائر . في المساء على السّاعة 5 و 30 دق ، يكنس الأقســـام و يرتّب المقاعد و لا يعود إلى بيته إلاّ و هو واثق من أنّه كان أمينا ، متقنا شغله قد أوفاه حقّه من الوقت و العناية .
بدون مدح و إطراء يا سي محمّد أنت محلّ ثقتي و ثقة الجميع ، محلّ احترامي و احترام الجميع فكلّ تلميذ بالمدرسة يناديك بعبارة سي محمّد و يلتجئ إليك كلّما دعت الحاجة إلى ذلك فأنت بمثابة أبيه تحسّ بما يحسّ ، مؤتمن على أسراره تساعده و لا ترفض له طلبا إلاّ إذا كان مستحيل التّنفيذ .
كم أنت شهم يا سيّدي محمّد ! كم أنت مثاليّ ! كم أنت طيّب ! خدماتك و بصماتك في المدرسة جليّة ، واضحة لا غبار عليها يعرفها القاصي و الدّاني ، الكبير و الصّغير . واصل عملك على نفس الوتيرة و بنفس الحماس فالله سيجازيك خيرا و أهالي غيزن سيباركون سعيك ، المثمر ، الدّؤوب و الأطفال سيكونون مثلك نظفاء ، محافظين على سلامة البيئة و المحيط ، مستحضرين في أذهانهم الصّقيلة الحكمة المأثورة : « النّظافة من الإيمان و الوسخ من الشّيطان »
أتذكّرمليّا أنّي في يوم من الأيّام صحت في وجهك في انفعال شديد حاد بي عن صوابي لأنّي وجدت قسم الإعلاميّة مقفلا . شكرا على لطفك فأنت واجهت عبوسي ببسمات عفوية و جواب هادئ ، رصين :
« يا سي عبد الفتّاح ، لا تغضـــب و انتظرني وقتا قصيرا فأنا سأفتحها حالاّ بعد الإتيان بمفتاحها من مكتـــب المديـر. و رحمة والديّ كنت أظنّ أنّك لست في حاجة إليها و أنت تعرف قيمـــــة الحواسيب و الأثاث الموجود فيها »
لضيق الوقت ، اكتفيت بالقول على عجل و أنا مطرق الرّأس ، أفرك يديّ ندما و أسفا على الخطإ الّذي اقترفته في شأنه بسبب تسرّعي :
« اعف عنّي متقبّلا اعتذاري عن طيب خاطر فالمسامح كريم »
- لا تشغل بالك وانصرف إلى عملك فأنت في مقام أخي و الله هو الأعلم بذلك .
ماضي بدون ذكريات لا معنى له و لا تجذّر له فهو سيكون منبتّا ، لقيطا ليس له قرار . على أيّة حال هذه ومضات لبعض الذّكريات الّتي تزيّن حاضري و تنمّقه و تبعث فيه روحا خلاّقة ترفرف فيه طليقة فيكون النّجاح و التّألّق و الإبداع على أرض خضراء تتلحّف بسماء الأمـــــل و النّور و الحريّة و الكرامة
تكريــــــــــــــــم
عدلتصغير|Kerkeni abdelfattah jerba
يوم الجمعة 26 جوان 2014 النّهار جميل ، صحو كأيّام فصل الرّبيع : الطّقس معتدل ... الشّمس مشرقة ، سافرة ...السّماء زرقاء ، مجلوّة كعين الطّفل صفاء تغمرها أشعّة ذهبيّة ، منعشة تستهوي المشاعر فتشتاق النّفوس المفتونة بالمناظر البريّة السّاحرة و بالبحر الجميل إلى النّزهة كاشتياقي إلى حفل التّكريم .تصغير|Maitre Kerkeni abdelfattahرافقتني عائلتي الكريمة إلى مدرسة غيزن على متن سيّارتي و هي على غاية من الابتهاج . كان رواق المدرسة مزدحما لا تجد فيه موطئ قدم ، يكاد يكون هادئا لولا بعض الوشوشات الخفيّة و الضّحكات الخفيفة الّتي تشوبه بين الآونة و الأخرى . منضدة كبيرة ، مغلّفة بسماط مزدان برسوم لزهور جميلة رصّفت عليه ترصيفا محكما جوائز قيّمة تحمل أسماء مستحقيها على لافتات مستطيلة خطوطها ملوّنة و بارزة . وفي إحدى حواشيها بالقات ورود و موسوعة دينيّة عنوانها رقيق لم يظهر لي بوضوح . على يمين هذه المنضدة جلس المعلّمون و المعلّمات في وقار و أدب و على يسارها جلس الآباء و الأمّهات و أبناؤهم في نظام ينتظرون في لهفة حفل توزيع الجوائز .
استهلّ المديرالسّيّد لطغي كمّون هذا الحفل البهيج بكلمة ترحيب طويلة لم تخل من عبارات الشّكر أعلن فيها بإسهاب شديد عن نتائج السّنة الدّراسيّة لكلّ الأقسام محدّدا النّسب المائويّة للنّجاح و النّسب المائويّة للرّسوب . بعد هذه الكلمة البليغة تمّ توزيع الجوائز من لدن المربّين على التّلاميذ النّجباء فالتهبت الأكفّ بالتّصفيق و انهمرت عبارات الشّكر و الثّناء من هذا و ذاك و تلك .
و ما إن ألقى المدير كلمة ترحيب ثانية بي و بأسرتي عدّد فيها مناقبي و تضحياتي في حقل التّربيّة حتّى وقف الحاضـــــــــــرون إجلالا و احتراما لي فالجميع يدركون جيّدا أنّني ساهمت في النّهوض بمدرسة غيزن و ما توانيت يوما في بثّ العلوم في صدور أبنائها مع الاهتمام بالجوهر الّذي هو التّربية .
بعد ذلك تهاطلت عليّ الهدايا و باقات الزّهور و كانت التّهاني العطرة المفعمة بالودّ و التّقدير مع الدّعاء بالصحّة الوافرة و طول العمر.
استحسنت ذلك التّكريم استحسانا عظيما لأنّه تزامن مع تكريم التّلاميذ النّجباء ففرحتي امتزجت بفرحتهم امتزاجا. ها هي الوجوه طلقة ، مسفرة ، ضاحكة ، مستبشرة فالابتسامات متألّقة على الثّغور تألّق الحجارة الكريمة على تاج الملك . كم وددت أن تكون والدتي على قيد الحياة حتّى تشاركني بهجتي رفقة أسرتي الفاضلة زوجتي نزيهة و ابنتي إيمان و ابني سالم و حفيدتي رتاج و صهري فوزي !
كما يقول الشّاعر أبو الطّيّب المتنبّي :
« ما كلّ ما يتمنّى المرء يدركه *** تجري الرّياح بما لا تشتهي السّفن »
أمّي رحمها الله هي الّتي حبّبتني في مهنة التّدريس و غرست في نفسي المبادئ السّمحاء و القيم النبيلة بالرغم من أنها أميّة لا نحفظ سوى سور قصيرة من القرآن الكريم لقّنها لها جدّها محمّد دوس ذلك الضّرير البصير كما روت لي ذلك في إحدى سهرات الشّتاء الممتعة بدفئها العائلي و بحكاياتها الرّائعة . سلام عليك يا والدتي العزيزة يوم ولدت و يوم متّ و يوم تبعثين حيّة و رحم الله عزّ و جلّ روحك الطّاهرة بين الأرواح الكريمة و أنعم عليك بفراديس جنانه .
يا أمّي الحنون ، مازالت نصائحك الذهبية تدوّي في أذنيّ و أنا أدرك مليّا صلتها الوطيدة بفقرنا لعلّه يتزحزح و يزول بلا رجعة فهو وحش كاسر ، عدوّ خناجره مدمية ، موجعة :
« يا فرحتي و يا هناي وقت الي تولّيلي معلّم باهي كيف الهادي بورقو و إلاّ مصطفى التّليلي و إلاّ علي الدلاّل الّذي تبيع له كلّ صباح لترا من حليب معزاتنا المالطيّة و هو بدوره يسلّمك دقلة قبلّي اللّذيذة ، المعسولة » . تصغير|أمّي منى دوس
إنّ هؤلاء هم من خيرة معلّيمـــيّ على الإطلاق أتباهى بهم و أعتزّ . كانوا أجلاّء تمرّ الحصص عندهم ممتعة ،مثمرة، في رمشة عين .
مازالت أصواتهم تتناهى إلى مسمعي جهوريّة،عذبة و مازالت صورهم تتراقص في مخيّلتي جليّة، بهيّة و مازالت خطوطهم المنمّقة ، الجميلة مثالا أحاكيه و أطنب في تقليده . ما أروع الخطّ العربيّ !و ما أروع من اهتمّ به إجلالا للغتنا العربيّة رمز هويّتنا و انتمائنا الإسلاميّ.
شهادة اعتراف و تقدير
عدلوزارة التّربية
المندوبية الجهويّة بمدنينتصغير|CERTICAT D'HONNEURمدرسة غيزن
قدّمت هذه الشّهادة إلى المربّي الفاضل عبد الفتّـــاح القرقني اعترافا لما قدّمه من تضحيات و تقديرا لما بذله من مجهودات لصالح التّربيـة و التّعليم عموما و لتلاميذ مدرسة غيزن خصوصا
المدير : السيّد لطفي كمّون
حفل اختتام السّنة الدّراسيّة 2013 / 2014 / يوم الجمعة 26 جوان على السّاعة 8
المؤلّفـــــــات
عدلأقصوصــــــــة إلى النّور فالنّور عذب جميل
عدلتصغير|صورة تذكارية بدار الشباب بسدويكش
بقلم عبد الفتّاح القرقني من قرية غيزن / جزيرة جربة / تونس الخضراء
http://akihrmarfaa.blogspot.com/2015/03/2015.html?spref=fb
ذات يوم شتويّ على السّاعة الثّانية بعد الزّوال ، أزاح نزار الغطاء عن جسمه المنهـــــــــــوك و استوى قائما يفرك بكلتي يديه عينيه الذّابلتين فركا خفيفا من كثرة النّوم على السّرير الأبيض و من حدّة الضّجر الذي يعصف به فالنّهار في المستشفى يعادل فصلا من فصول السّنة .
نزار كهل مديد القامة، نحيف الجسم ، ليمونيّ الوجه ، غائر العينين ، زائغ النّظرات ، وئيد الخطوات ، هدّه المرض هدّا و أفناه إفناء . إنّه مقيم بالمستشفى منذ أسبوع لأنّه يعاني من نزلة صدريّة: نوبات من السّعال ينخلع لها صدره انخلاعا و ضيق في التّنفّس و حمّى شديدة مصحوبة بارتعاش عنيـــــــف و شلاّل من العرق في هذا الفصل القارس، الممطر
الحمد لله ربّ العالمين فخلال هذا اليوم هو أفضل حالا من ذي قبــــــــل : سعال ضنيـــــن و تنفّس يسير و تدرّج ملحوظ نحو الشّفاء ترجمته حركيّته المذهلـــــة و إشراقة
وجهــــــه و بريق عينيه العسليّتين و بسماته الرّقراقة ، المنبلجة كالفلق على ثغره . ها هو يمسح بكفّه الأيمن بلّور النّافذة و يلقي من خلاله نظرات فاحصة بعيدة الغور لعلّـه يجلي عن نفسه ضباب الملل المخيّم عليها منذ ولوجه هذه الحجــــــــرة المفتقرة لوسائل التّدفئـــة و التّسليّة و التّثقيف : التّلفاز معطّب عليه ركام مــن الغبـــــار و المكيّف مقطّــع الأوصال و الكتب و المجلاّت و الجرائد لا أثر لها على المناضد و في الحقائب على ما يبدو ما عدى حقيبته فعدد الرّوايـات المجلاّت فيها تجاوز عدد قطع الملابس . للطّبيعة وجه عابس عار من الأزهار و البسمات : الشّمس احتجبت خلف فسيفساء من الغمام الرّماديّ حينا الأسود حينا آخر ... رذاذ تقاطر قطرة قطرة في وقع متناوب ، رتيب تشمئزّ منه روحه السّجينة في محبسه الّذي فرضته عليه العلّة فرضا لا مفرّ منه ... أوراق بعض الأشجار تركت أغصانا ألفت عناقها و تناثرت فوق أديم الأرض كتناثر العبرات. هي أوراق مضطربة، ذابلة، بين اخضرار و اصفرار، خفيفة سرعان ما لهت بها يد الهواء البارد هنيهة ثمّ أعادت جمعها بعد شتات.
أصغى إلى الأطيار كي يسمع شدوها فإذا هي سكتت مكتئبة و حلّقت في سماء الحديقة باحثة عن الدّفء بين أحضان الصّنوبر و السّنديان الدّائم الاخضرار.
ما إن لسع البرد القارص المتسلّل من زجاج النّوافذ المهشم نزارا لسعات مؤذية كلسعات العقارب الشّامتة حتّى هرع إلى فراشه و أسدل الغطاء على جسمه المقرور و هو يلتمـــــس الدّفء و الطّمأنينة في قوقعته الحلزونيّة بعيدا عن عواصف الشّتاء و كدر العلّة و أدران الحياة .
********
على حين غرّة، في نفس الغرفة دار حوار مستفيض بين شيخ عليل في عقده السّــادس و ابنه مراد لفت انتباه نزار فتابعه جملة جملة ، فكرة فكرة دون تغافل و هو يفتل شعره الطّويل، الّذي نقره شيب ضئيل بأصابعه الرّقيقة .
- يا أبتاه هل تحسّنت حالك اليوم ؟
- في هذا اليوم بالذّات ، استفحلت أوجاعي فهي لا تحتمل : وهن في الحركة و آلام حاّدة في كامل بدني و عجز عن تناول الغداء و شرب الماء .
- هل زارتك الطبيبة و أعلمتها بذلك ؟؟
- كانت زيارتها خاطفة فهي ما أصغت إلى كلامي و توسّلاتي و تنهّداتــــي و آهاتي . بصريح العبارة لم تعرني أدنى اهتمام » طفّتني ، طفّتني مكتفية بابتسامة صفراء شنّجت أعصابي ، لم ترحني ، لم ترحني ...
- أين الفحوص المتأنّية ؟ أين المتابعة الصحّيّة ؟ أين العناية المركّزة ؟ أين الإنعاش المسترسل في حالات الشدّة ؟ أين الوفاء للطّبّ هذا القطاع الإنسانيّ بالدّرجة الأولى ؟ أين الوطنيّة الصّادقة ؟ أين ... أين ... أين ...
مات الضّمير المهنيّ عند بعض الأطبّاء و الممرّضين و أقبر في هوّة سحيقة لا صدى لها بأرض منسيّة، مجهولة النّسب و الهويّة. سأزعق في وجوه هؤلاء الكسالى و أفضحهم أمام الجميع فالسّاكت عن حقوقه شيطان أخرس.
- إنّهم أساؤوا فهم الثّورة فهم لا يميّزون بين حقوقهم و واجباتهـــــــــم ، بين الحريّـــة و التّسيّب ، بين الجدّ و التّهاون . حافظ على هدوئـــك فلا داعي للتّوتّر و الانفعـــال و عجّل بتدارك الأمر قبل فوات الأوان لأنّ وضعي الصّحيّ صعب يتطلّب اليقظة الطبيّة في كلّ حين و آن.
- هل أنقلك على متن سيّارة الإسعاف إلى مصحّة ذائعة الصّيت ؟
- البؤس حليفي و التّعاسة ظلّي فأنا لا أملك مالا يخوّل لي العلاج هنـــــــــاك و أنت عامل يوميّ تكدح لتأمين القوت لعائلتنا فمن أين ستوفّر مصاريف العلاج الباهظة الّتي لا يقدر على تسديدها إلاّ الأثرياء أو الأشقّاء الوافدون من ليبيا بأعداد كبيرة .
- من طلب العلى سهر الليالي هي حكمة عملت بها فأفنيت طفولتـي و شبابي في طلب العلم و في النهاية و يا للأسف تبخّرت أحلامي و صارت نسيا منسيّا بالرّغم من حصولي على شهادة الأستاذيّة .
- تذرّع بالجلد فهو جميل و بحول الله الأيّام القادمة هي طلائع بشر و يمن بالنّسبة لك ما دمت راضيا عنكفما رضاء الله إلاّ برضاء الوالدين
- أقترح أن تبيع أمّي حليّها في سبيل علاجك و عندما أشتغل أستاذا سأتكفّل بتجديده لها .
- نعم الرّأي .
- لا تشغل بالك فأنا سأستشيرها في ذلك فما خاب من استشار. إن وافقت سأقوم بالتّرتيبات اللاّزمة لنقلك إلى أفضل مصحّة .
- على جناح الرّيح فخير البرّ عاجله . يا إله الكون يا سندي . أنت يا رباه معتمدي . أسألك متذرّعا حسن الخاتمة و جعل علّتي تمحيصا لا تنغيصا ، تذكيرا لا تنكيرا ، أدبا لا غضبا .
- إلى اللّقاء يا أبتي الفاضل .
- في أمان الله ، رافقتك السّلامة .
لمّا كشف نزار الغطاء عن وجهه تفرّس في محيّا العمّ يحي المصفرّ كالورس و يده اليمنى المعروقة ، المرتجفة ، الممتـــدّة إلى كأس قهـــوة دون بلوغه و سمعه يردّد بصوت خافت ، متهدّج يكاد لا يسمع : هل من قهوة دافئة تسدّ رمقي و تخفّف من أوجاع بطني ؟
آنذاك ، قفز نزار من سريره الدّافئ و ارتدى معطفه و قدّم لجــاره المسكين ، المستغيث قهوة ساخنة دخانها الرّماديّ متصاعد في شكل لولبيّ و لسان حاله يقول في منتهى الطّلاقة و الرّقّة : تفضّل يا سيّدي الكريم لك ما أردت و أنا رهن إشارتك إبّان احتياجك للمؤازرة .
احتسى شيخنا قهوته على مهــــــل و وضع الكأس الفارغة في تؤدة على الطّاولـــــة و على شفتيه المتورّمتين، المتدليّتين أنّات مسحوقة و باقات من الكلام الطّيّب تفوح بعبير الحمد لربّ العالمين.
أثناء آذان العصر، طلب من منه في أدب أن يسلّمه صعيدا طيّبا هو عبارة عن حجارة ملساء محفوظة في سلّة من سعف النّخيـــل مع مصحف كريم و سجّادة خضــراء فلبّى طلبه عن طيب خاطر و دون تراخ.
ها هو يتيمّم و يؤدّي صلاة العصر خاشعا و هو جالس ثمّ يتمدّد على فراشه لنيل نصيب من الرّاحة بعد إحساسه بسكينة تغمر قلبه .
أمّا نزار فقد تلهّى بمطالعة قصّة السّندباد البحريّ الطّريفة إلى أن استرخت أعضاؤه و غلبه النّعاس فنام و علا شخيره و طفق يحلم و قد رأى فيما رأى رخّا عظيم الخلقة ، عريض الأجنحة يربض قرب سريره . لهذا الطّائر الخرافيّ جسم عملاق قادر على حمل فيل و منقار معقّف كالخنجر المسنون و ريش أبيض في طول جريد النّخــــل و مخالب صفراء ، فاقع لونها شبيهة في شكلها بالصّوارم البتّارة .
أوجس في نفسه خيفة فدبّ في قلبه الرّعب ، وطار عـــقله ، و اقشعرّ بدنــــــه ، و جفّ ريقه ، و عقل لسانه ، وانتابته حيرة فتاه في بحر من الهواجس عاتي الأمواج ، مترامي الأطراف يزبد و يزمجر . عندئذ استعاذ بالله من كلّ شيطان ليستمدّ منه الاطمئنان و العون ثمّ بادره بالحديث في صوت مرتجّ ، ضعيف :
- من أنت أيّها الطّائر الموحش ؟
- غاق غاق غاق ... غاق غاق غاق
- الّتي تنعق هي الغربان
- أنا طائر الرخّ ورد ذكري في رحلات السّندباد البحريّ بكتاب ألف ليلـــة و ليلة .
- من أين دخلت و أنت كالطّود الأشمّ ؟
- دخلت إلى المستشفى في هيئة شيخ مسنّ محدودب للظّهر، وئيد الخطــــى و عند بلوغي هذه الحجرة في لمح البصر تحوّلت إلى رخّ .
- هل أنت ساحر ؟
- ما أنا بساحر أنا ملاك كسائر ملايين الملائكة أسكن في السّماوات العلى .
- لماذا جئت إلى هذا المكان ؟
- كي أنقلك إلى جزيرة الواق واق فهي تزخر بأطبّاء عرب بارعين في الطّب طبّق صيتهم الآفاق ، هم أحفاد ابن سينـــا و ابن الجزّار و ابن النّفيس . ستعالج مجانا هناك خلال يومين و تقضّي فترة نقاهة بين أحضان الطبيعة الفائقة الجمال في فندق فاخر ثمّ تعود إلى بيتك في صحّة جيّدة لا يتطرّق إليك أيّ مرض طيلة حياتك بمشيئة الله .
- شكرا جزيلا لك فصحّتي في تحسّن مطّرد و لا تسترعي كلّ هذا الاهتمام .
- أيّها الرّجل الوسيم ألا تذكّرني باسمك.
- أنا نزار، أنا نزار.
- عفوا فأنا قد أخطأت العنوان ، أنا جئت لإنقاذ السّيّد يحي
- ها هو بجانبي يغطّ في نوم عميق لكن لن أسمح لك باختطافه . أ تجهل أنّه أنيسي في هذا البيت ؟.
- القصص و الرّوايات الّتي بجانبك خير جليس لك في هذا الزّمان.
- بم سأجيب أفراد عائلته لمّا يسألونني عنه؟.
- اطمئنّوا عليه فلا داعي للحيرة و اعلموا علم اليقين أنّه يعالج عند خيرة الأطبّاء في جزيرة الواق واق و سيعود إليكم فور شفائه .
- سيعتبرونني معتوها و لذلك سأنهرك و أطردك بهذه المكنسة المتّكئة على هذا الجدار فهي سلاحي الوحيد.
- سألوي عنقك ليّا و أكسّر عظامك تكسيرا و تكون فريسة صائغة للنّسور. لن أهابك فأنا يمكن أن أحطـّم هذا البيت في ثوان معدودة بمخالبي فتكون بين أنقاضه.
- لا ، لا تتصرّف تصرّفا أرعن ، أهوج .
- عليك أن لا تثير غضبي و تعترض سبيلي حتّى تسلم من أذائي . أنا طيّب مع الطّيّبين و شرس مع الشّرسين .
- كن هادئا، رصينا و ما العمّ يحي إلاّ أمانة في رقبتك.
- المؤمن إذا عاهد وفى و إذا صاحب صفا.
- كلامك مطمئن للغاية لكن من أخبرك بمرضه.
- أصخت له من جزيرة الواق واق الفاتنة ، الغنّاء و هو يئنّ أنينا مؤلما دون انقطاع و يدعو الله بقلب منيب أن يشفيه فاستجبت لندائه إشفاقا عليه في طرفة عين .
- أين تقع جزيرة الواق واق ؟.
- في بحر الصّين على بعد آلاف الكيلومترات .
- لماذا سمّيت هذه الجزيرة النّائيّة بهذا الاسم المدهش .
- إنّ سبب إطلاق هذا الاسم الغريب عليها هو وجود ثمار بها على هيئة رؤوس نساء تتدلـّى بشعور طويلة معلـّقة بأغصان أشجارها إذا نضجت هوت فيمرّ الهواء بتجاويفها محدثا صوتا يقول واق واق
- كيف اهتديت إلى هذه الغرفة الذّابلة الأضواء ؟
- استعنت بهذا المنظار العجيب فهو قد يسّر لي إبصاركمـــــــا بدقّة متناهية و أنتما على سريريكما الأبيضين.
بقي نزار بضعة دقائق و هو فاغر فاه من شدّة الذّهول دون أن ينبس بكلمة واحدة ثمّ قال وقد فاضت على وجهه ابتسامة هادئة :
- هل يمكن أن تسلّمني هذا المنظار السّحريّ ؟
- نعم يا سيّدي الفاضل فأنا واثق من شدّة فضولك فها هو بين يديه «.
ما إن وجّه نزار عدسة المنظار في اتّجاه منزله حتّى رأى بشفافيّة مذهلة كلّ أفرد عائلته فركّز اهتمامه على ابنه الرّضيع لعظمة شوقه إليه ثمّ أهداه قبلتين طائرتين في الهواء آملا أن تنطبعا على وجنتيه المتورّدتين دون أن تعكّرا صفو بسمته الملائكيّة.
بعد هنيهة، أعاد الأمانة إلى صاحبها متمنيّا أن يكون له منظار سحريّ يكشف به ما يدور حوله في وطنه أو في أيّ مكان قصيّ من العالم ثمّ واصل حواره الشيّق دون ملل مع هذا الرّخّ العجيب .
- كيف ستنقل جاري إلى تلك الجزيرة النّائية ؟
- سأضعه في تؤدة و هو نائم على سريره فوق رقبتي بين طيّات ريشي النّاعم ، الطّويل حيث الدّفء و الأمان و أرحل به إلى تلك الرّبوع الفيحـــاء ، المتحضّرة قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ دون أن يهوي أو يستفيق من غفوته.
- رحلة ميمونة و عودة آمنة للسّيّد يحي فأنا سأشتاق إليه اشتياقا جارفا طوال غيابه عنّي
- مع السّلامــــــــة و أسأل الله إعانتي في أداء المهمّة .
انغمس نزار في تفكير عميق ذي صلة بهذه الرّحلة العجيبة و بما سيخبر به مرادا فهو يعرف أنّه لن يصدّقه و سيعتبره مجنونا يهذي ، كلامه هراء لا أساس له من الصّواب .
و بينما كان شارد الذهن يعضّ بنانه أسفا و تحسّرا على فراق رفيقه إذ أقلع الرّخّ و مازال يعلــــــــو و يرتفع حتّى ظنّ أنّه بلغ عنان السّماء .شبّ في الحجرة عويل شديد مزّق جدار الصّمت، قزّم الرّتابة المألوفة فيه فهبّ نزار من نومه مذعورا، يرتجف كالقصبة في مهبّ الرّيح . استطلع جليّة الأمــــر ملهوفا و في نفســــه انقباض صارخ و شجن متعال و جواد متمرّد ، ثائر على الوضع المزري بالمستشفى فهو سينسف أرخبيلا من بيوت العنكبوت عشّشت في ذهنـه و سيكسر إهرامات من القيود كبّلته تكبيلا مقيتا و أسّرت حريّتــــــــــــه تأسيرا مذلاّ .
مشهد فضيع تنفطر لهوله القلوب و تشخص العيون و تخرس الألسنـــــــة و تشيب الولدان : امرأة مربوعة القامة ، ملتحفة بسفساري أناف سنّها عن الخمسيــــــن في ثـــــــــــــــــورة و جنون : كانت تلطم وجهها و تنتف شعرها و تشقّ ثوبها و تنوح بصوت عال و قد جرت دمعات سخينة ، سخيّة على خدّيها :» زوجي مات ... زوجي مات ... مسكين عانى سكرات الموت و لفظ أنفاسه الأخيرة دون أن أجرّعه جرعا من الماء و ألقّنه الشّهادة . يا له من خبر مفزع ! يا له من يــوم نحس ! عشرة سنين نسفها الموت فتبّــــا و سحقا له تركني و أبنائي نصارع الفقـــــــــر و نقرع أبواب المستقبل الموصدة في وجل و اضطراب «.
صاح في وجهها ممرّض ظانّا أنّها ستهدأ :
- اسكتي و لا تعكّري راحة المرضى بعويلك و لا تنسي أنّ الموت حقّ فهو يترصّد كلّ إنسان جاء أجله المحتوم.
- أنت و أمثالك أهملتم زوجي و لم تعتنوا به العناية اللاّزمة فكان الموت حليفه . عند الكثير منكم المريض لا قيمة له هو مجرّد رقم من الأرقام.
- المريض هو إنسان مبجّل و مكرّم نتابع علاجه بدقّة فتفـــرح عند شفائــــه و نحزن عند تعكّر صحّته.
- هذا الصّباح كان زوجي يتنقّل في يسر داخل هذه الغرفة و يحكي معي عن شؤون عائلنا و أوجاعه فحسبت أنّ حاله ستتحسّن و الآن فوجئت بما حصل له . لن أسامحكم ... لن أسامحكم
- نحن في هذا المستشفى نداوي و الفرج على الله و زوجك يا سيدتي عنده عدّة أمراض لم يتدرّج نحو الشفاء قيد أنملة.
- لماذا لم تتفطّن إلى وفاته فانطفأ كالفتيلة في القنديل الزّيتيّ ؟ كان عليك أن تبقى بجواره و تسهر على راحته و تقدّم له الدّواء النّاجع في مواعيده . كان عليك أن تعلم الطّبيب باشتداد مرضه حتّى ينقل إلى بيت الإنعاش .
- كان موته مباغتا و لله يعلم أنّني ما تهاونت في تمريضه و لكن لا يمكن أن أكون بجانبه وقتا طويلا فأنا أتنقّل من مريض إلى مريض و من غرفة إلى أخرى .
- وضع هذا المستشفى محرج غير مطمئن فهو ينطبق عليه المثل العاميّ الاسم العالي و المربض الخالي.
- إنّك أدميت قلبي بهذا الكلام الجارح فهو ينزف و يكاد أن ينفجر.
- اتّقوا الله في هؤلاء المرضــى فهم أمانة ملقاة على عواتقكم فأيّ تقصير في علاجهم يمكن أن يتسبّب لهم في إعاقات مزمنة أو في وفاة مفاجئة. وفّروا التجهيزات الحديثة و اجتهدوا في علاجهم إن كانت لكم شعرة من الإيمـان و ضمائر يقظة و حبّ لأبناء هذا الوطن الغالي.
- رسالتك وصلت و إن شاء الله تجد آذانا صاغية و عقولا نيّرة و قلوبا رحيمة.
من شدّة الكمـــــد ذرف نزار دمعا سخينا انسكب كالسّيل على خدّيه النّاتئين فجفّفه بمنديل أبيض و خاطب تلك المرأة الملتاعة في رصانة و جرأة :
- الواقع مرّ كالصّبّار تماما فدار لقمان بقيت على حالها. هذا المستشفى بالرّغم من فساحته و كثرة مبانيه يعاني من رداءة الخدمات للمرضى . نقص فادح في الإطار الطّبيّ . الأدوية تكاد تكون مفقودة. افتقار صارخ إلى أهمّ التّجهيزات
الطّبيّة .
- كلامك على غاية من الصحّة و أنا سأردف إليه ما يجول في خاطري و بضيق له صدري : انعدام الضمير عند بعض الأطبّاء و الممرّضين فهم يجرون لاهثين وراء المال من مصحّة إلى المصحّة دون أن تعنيهم كثيرا حالة المرضى هنا .
- حبّ المال من أجل الثّراء وأد الجانب الإنسانيّ عند الكثير من هؤلاء بحيث صار ينطبق عليهم المثل التّونسيّ العاميّ " عجوزة ما يهمّها قـــرص "
- الإخلال بالواجب أدّى إلى وفاة زوجي و إن كنت أومن بالقضاء و القدر .
- لا يجب أن نسكت عنه فلا بدّ من المطالبة بالإحاطة الصّحيّة للمرضــــى و توفير وسائل التّسليـــة و المعدّات الحديثـــة المسايرة للتقــــدّم العلمــــيّ و التكنولوجيّ .
- أشاطرك الرّأي فلا بدّ من أن نكون عمليّين نثمّن مجهودات الكادحين القلائل في المستشفى و نعبّر عن العديد من النّقائص فيه ليقع تلافيها خدمة للشّعب الكريم .
- اطمئنّي سأحرّر رسالة في ذلك و سأتكفّل بتسليمها مباشرة إلى مدير المستشفى ضمانا لوصولها و أنت عليك أن تردّدي بصفة مسترسلة إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ حتّى تهدأ نفسك و تزدان بصبر جميل كصبر سيّدنا أيّوب عليه السلام .
- أنا واثقة من أنّني أطلقت عقيرتي للنّواح نتيجة هذا الخطب الجلل الّذي مزّق صدري و قصم بالأرزاء ظهري و أبقاني مرضوضة الفؤاد أجرّ أجنحتي المنكسرة في أسى حادّ.
- كان الله في عونك و إنّ العين لتدمع وإنّ القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا بفراقك يا يحي لمحزونون.
هدأت هذه الأرملة في إذعان للأجل الّذي هو من قضاء الله و قـــدره لا مفرّ منــــــه و لكن كانت تحمل بين ضلوعها كرها شديدا لأولئك الّذين تقاعسوا في الاهتمام بزوجها العليل . ها قد رفعت الغطاء الأبيض عن وجهه القمحيّ بيدها اليمنى المرتعشة و قبّلته على جبينه البارد قبلات حارّة تنبض بالحبّ و الإخلاص و في أجفانها عبرات الأسى : » اطمئنّ أيّها الطّاهر النقيّ فأبنائي سأحفظهم بين أحضاني النّاعمة ، الدّافئة وأسهر على تربيتهم على النّحو الّذي ربّيتهم عليه و سأناضل في سبيل توفير القوت لهم و كلّ متطلّبات الحياة حتّى يعيشوا سعداء « .
تدخّل مراد و هو دامع المقلتين ، شديد التّأثّر فأبعد أمّه في كنف الهدوء عن أبيـــــــه و أسدل الغطاء على وجهه المنير و هو يردّد : »
يا موت فجعتني في من أحبّه و أبثّه سرّي و أعدّه فجري الجميل إذا ادلهمّ عليّ دهري . عليك رحمة الله يا أبي . نم قرير العين ، مرتاح البال في مثواك الأخير فأنا سأتحمّل مسؤولية هذه العائلة باقتدار ، باذلا ما في وسعي من تضحيات في سبيل استقرارها و تماسكــــها و هنائها « .
جـــاء رجل عملاق ، قويّ البنية ، فضّ ، غليظ القلب ، له بسمة شيطانيّة ، صفراء و طلب من مراد و أسرته في قسوة أن يفسحوا له المجال لنقل أبيه إلى غرفة الأموات على سرير ذي عجلات مطّاطيّة و نصحه بالإسراع في إجراء التّرتيبات اللاّزمة بإدارة المستشفى للعودة بجثمان أبيه الطّاهر إلى منزله .
*********
و بعد جدال صريح و صاخب ، انصرف الجميع إلى شؤونهم فأمست الغرفة شبه خاوية يرين عليها وحشــــة و ملال : أهل يحي عادوا أدراجهم إلى منزلهم مطرقي الرّؤوس يجرّون أذيال الخيبة ، خطواتهم مكبّلة بأصفاد الشّجن . الممرّضون واصلوا أعمالهم مصرّين أن يكون أداؤهم أفضل من ذي قبل. و ما إن جنّ اللّيل و لفّ الكون بجلبابه الأسود حتّى شعر نزار أكثر من ذي قبل بمرارة الأســى و ظلمة العزلة فهو قد اختلى بنفسه مضطربا ، متستّرا بغطاء صوفيّ يلوك ذكريات يومه العسيرة الهضم فهي مسيطرة على مخيّلته تكاد تتلف عقلـــــته و تحشره في مستشفى الرّازي بمنّوبة مع المجانين . كم تمنّى أن يشفى رفيقه فيستبشر بذلك استبشارا و يتهلّل وجهه بعد تقطّبه ويطفح قلبه بالغبطة بعد حزنه !
حان موعد العشاء فجاءت عاملة باسمة الثّغر ، رشيقة القوام ، أنيقة المظهر بطبق به أكلات متنوّعة دغدغت رائحتها الشهيّة أنفه . تناول لقيمات من الأرز لدفع غائلة الجوع ثمّ اندسّ في فراشه الدّافئ و انبرى في قراءة الرّحلة الخامسة للسّندباد للبحريّ فأبحر معه على متن قارب كبير من جزيرة إلى جزيرة و من بلد إلى بلد متجشّمين الصّعــاب و الأهوال في عزيمة و إصرار هذا مارس التّجارة و ذاك أطفأ في نهم ما به من شوق جارف إلى معرفة أحوال الشّعوب و عاداتهم و تقاليدهم و فنونهم .
في نهاية المطاف ، عاد السّندبـــاد إلى مدينة بغــــداد و معـــه ثروة طائلة من المـــــال و اللّؤلؤ فلقيه أهله و أصحابه مبتهجين بعودته سالما غانما وعاد نزار إلى غرفته و هو قد أحسّ بسكينة غمرت قلبه و افترّ ثغره عن ابتسامة عذبة كابتسامة الوليد. ها هو يناجي نفسه في جوف ليل بهيم ، مغمض العينين ، سابحا على أمواج الخيال :
» قلبك يا حبيبي ليس رمسا للمآسي و الأشجان
قلبك يا حبيبي ربيع شكّلته عبقريّة فنّان
بريشة و أصباغ تموج بطيف من الألوان
فيه أطيار طليقة تشدو بأعذب الألحان
فيه ورود باسمة ، متألّقة على الأفنان
لها عبير يحاكي مسك الجنان
لا تحزن و لا تبتئس و ابتسم للحياة فإنّ بعد اللّيل الدّاجن صبح يرتسم .
لا تيأس و لو شمل العالم المنكر و كن كفجر الحياة الوضيء يداعبه الأمل النّيّر .
يا حبيب روحي آن الأوان أن ترقـص. و أنت جذلان ، نشوان ، طروب على أنغام هذين البيتين الرّائعين للشّاعر أبي القاسم الشّابّي :
ألا انهـضْ وسـرْ فـي سـبيلِ الحيـاةِ
فمــن نــامَ لـم تَنتَظِـرْهُ الحيــــــــاهْ
إلـى النُّـور فـالنور عـذْبٌ جـميــــل
إلــى النــور فـالنور ظِـلُّ الإلــــهْ « .
أقصوصة طارق
عدلالإهداء : أهدي هذه القصّة المتواضعة إلى ابني و إلى الشّباب الّذين يعانون من البطالة رغم مساعيهم الحثيثة للظّفر بشغـــــــــل لائق يتلاءم مع مؤهّلاتهم العلميّـــــــة و طموحاتهم العريضة .إنّي أنصح هؤلاء جميعا بأن لا يستكينوا و أن لا يحزنـوا و أن لا يستسلموا لعواصف اليأس بل عليهـــــــــــم أن يناضلــــــــــــوا فرادى و جماعات متحلّين بالصّبر و الثّبات و العزيمـة و الإصرار في سبيل الحصول على عمل يحقّق لهم الحرية و الكرامــة و الأمـــــــــــــن و الاستقرار و يدحر عنهم دحرا الفقر و الخصاصــــة و الالتجـــــــــاء إلى دروب اليــــأس و الضّلال .
ما هذا الأرق البغيض الّذي ينتابني ناشبا مخالبه الشّرسة في روحي الّتي هي أعزّ ما أملك في هذا الوجود ؟ ما هذا السّهــاد الّذي يرهق ذهني و يوتّر أعصابـــــــي و يشتّــــت أفكـــــــــــاري و يغرّبني فأهيم في سراب يغشّيه غمام من الضباب ؟
سأسرد عليكم أيّها القرّاء الأوفياء حكاية طريفة من رحم المجتمع التّونسيّ بعد ثورة 17 ديسمبر 2010 الّتي بشّرت بالحريّة و الكرامة و العدالة الاجتماعيّة. هي حكاية غريبة الأطوار تجيش بالمآسي فتصوّر أروع تصوير نضال شابّ تونسيّ في سبيل حياة كريمـــة تسودهـــا العدالـة الاجتماعيّــــة و الاستقــــرار حيـــــــث لا مجــــال للبـــؤس و البطالـــــة و التهميش و الاحتقــــار و الإهانة و الإذلال في وطن أخضر هو ملك للجميـــع لا بدّ من التّعايش السّلميّ فوق ترابه العزيز دون الإحساس بالحيف و الاستبداد و القهر ، و لا بدّ من المساهمة في رقيّــــــــه و ازدهاره بعقول نيرة و أنامل مبدعة ، خلاّقـــة و سواعد مفتولة .
و نظرا لشدّة وطأة الأرق على نفسي و لهول الحرّ في شهر أوت أسندت رأسي إلى مخــدّة عالية و تمدّدت على حشيّة وثيرة في فناء مسكني التّقليديّ و أنا ساهم ، شارد الذّهن ، متأمّل الكون البهيم ، سابح في كهوف نفسي دون أن تأخذني سنة من النّوم .
منذ ساعتين توارت الشّمس خلف الشّفق الأحمر كأنّها سئمت من متاعب البشـــر و نفرت من جورهم و جبروتهم و استبدادهم و لاحت في السّماء نجوم ترسل سهاما مشرقة و قمر ينثر نوره الباهت في الفضاء فترتسم على مقربة منّي ظلال رماديّة كأنّها أشباح متمرّدة . أمّا في ذهني فقد تراقصت صور راوحت بين الشّفافية و الضّبابيّة ، جنحت تارة إلى الواقعيّة و طورا إلى الخيال الخصب الّذي يعدّ دررا برّاقة ترصّـــــع تاج الفكـــر و الأدب . تحيّنت الفرصة للبوح بما يختلج في صدري فتناولت على عجل قلمي و رحت أسرد على ورق أبيض هذه الحكاية العجيبة بكلّ تفاصيلـها و تجلّياتها من بدايتها إلى نهايتها و أنا غارق في تفكير عميق لا تفوتني شاردة و لا واردة .
كان الوقت أصيلا فاتر الحرارة مغريا بالنّزهة بعد قيظ شديد أثناء الزّوال ألهب عطشي و نزّ فيه عرقي بغزارة. مشيت الهوينى على مسلك صحيّ محــــاذ للشّاطئ و أنا منتعش بنسمات عليلـــــــــة و مسرّح الطّرف في جمال بحر ساكن ، ساكت يحاكي زرقة السّماء في لونه ، خفتت أمواجــــــــــه و حلّقت في أجوائه الرّحبة قرب السّفن الرّاسية نوارس رشيقة ، رخيمة الأغاريد تبحث عن سمكات تســـــــدّ رمقها . و حينما تتأكّد من موضعها تنزل إلى سطح الماء في طرفة عين باسطة أجنحتها كلّ البسط للانقضاض عليهـــــــــا و التهامها بشراهة .
على حين غرّة ، تناهي إلى سمعي أنين خافـــت نغّص جولتي تنغيصــا و عكّر مزاجي تعكيرا و أنساني رونق الأصيل و نفحاته و شاعريّته .
وما إن بحثت عن مصدر الأنين حتّى لمحت على بعد بضعة أمتار منّي شابّا فارع القامة يطلق من أعماقه أنّات و زفرات و آهات مسترسلة فكأنّ جبالا من الهموم ترزح فوق صدره فيجد مشقّة في زحزحتها . كان جالسا تحت نخلة باسقة ، وارفة الظّلال و على مقربة منه أطمار داخل كيس من اللّدائن و حشيّة ملفوفة في شكل كعكة بداخلها مخدّة و غطاء صوفيّ ناصع البياض في طرفيه خطوط سود . ما أشدّ لهاثه فهو يخرج لسانه و يبتلع ريقه الجافّ في عسر! . يا له من مسكين قد أدركه من التّعـــــــــــب و الإعياء و من الظّمإ و الجوع ما كاد يأتي عليه !. ها هو يستردّ أنفاسه أثناء هذه الاستراحة رويدا رويدا ثمّ يمسح بكمّ قميصه البنيّ، المرقّع في حركات رتيبة كرتابة أيّامه المفلسة عرقا غزيرا تفصّد من جبينه العابس، المقطّب. كان قمحيّ البشرة ، نحيف الجسم ، أشعث الشّعر ، غائر العينين ، زائغ النّظرات لا يحفل بي و لا يهتمّ بما يدور حوله فهو متقوقع على نفسه ، متبرّم من الحياة يبحث عن سبيل للنّجاة من ذلك القلق الّذي يســـــــــــاوره و الكآبة الّذي تنتابه . أشفقت لحاله إشفــــــــــاقا و حفّزني الفضول تحفيزا على التعرّف عليه حتّى أقدّم له يد العون قدر المستطاع تخفيفا لأوجاعه و درءا لانكساره فالْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ.
عندما دنوت منه تربّعت في جلســـــــــتي على التّراب قبالتــــــــه وجها لوجـــــــه و بادرته بالتحيّة و قد تهلل وجهي غبطة و بهجة :
- « السّلام عليك يا سيّدي ».
رفع رأسه المثقّل بالهموم رفعا ذليلا و نظر إليّ نظرات تجمع بين الاندهـــــــــاش و التعجّب ثمّ ردّ على تحيّتي بأحســـن منها :
- « و عليك السّلام و رحمة الله و بركاته » .
- « ما هذا الحزن الشّديد الّذي يستبدّ بك فـينسف آمالك و يئد ابتسامتك في صحراء شقتيك ؟ ما هذه الكآبة المعانقة نفسك ؟ ما هذه الغيوم المتلبّدة في سماء وجهك ؟ هل هي نذير شؤم تنبئ بإعصار يغرق سفن أحلامــك و يقذف بك في متاهات مظلمة داخل هوّة سحيقة ليس لها آخر أم هي تباشير خير لمطر مدرار يخصب الأرض بعد همودها فتهتّز و تربــــــــــو و تنبت من كلّ زوج بهيج ؟ »
- « لمّا مللت البطالة وضجرت من السّكون و شقّ عليّ و على أهلي الحرمـــــــــان و الخصاصة سعيت ألتمس الرّزق و أبتغي من فضل الله فشددت الرّحال إلى جزيرة الأحلام جربة . منذ الصّباح الباكر و أنا أتنقّل من حظيرة بناء إلى أخرى و من نزل إلى آخر حتّى أضناني المشـي و تورّمت قدمـــــــــــاي و تمزّق حذائي دون أن أظفر بشغل فما زالت تطنّ في أذنيّ عبارة ربّي يفتح » .
- « البطالة معضلة كبرى فهي كأفعى رقطاء تنفث سمومها في نسيج المجتمع فأغلب العائلات التّونسيّة بها شابّ بطّال له شهادة علميّة جامعيّة علّقها على الجـدار و بقي ينظر إليها في حســرة بقلب باك يكاد ينفطر فهي لم تنتشله من وضعه الاجتماعيّ المتردّي و لم تجنّبه الفاقـــة و الاحتياج . هل يمكن أن تحكي لي بإسهاب عن ظروفك الّتي تبدو ضنكة من خلال ملامحك الكالحة ؟ »
قال و على ثغره بريق ابتسامة فيها كثير من الجرأة و العفويّة و الحياء و الألم :
- « بكلّ تأكيد دون أيّ مجال للشكّ سأعرّفك بنفسي و ما عليك إلاّ أن لا تسأم من هذري فهو يمكن أن يكون مزعجا لك و لكنّه لي مثمر فهو تنفيس عن كربي و تخفيف من حدّة الملل الّذي يتملّكني »
- « هيّا فضفض و نفّس غن نفسك فأنا مصغ إليك باهتمام بالغ ».
- « اسمي طارق أصيل ولاية سيدي بوزيد . أنا شابّ متحصّل على شهادة الأستاذيّة في اللّغة العربيّة منذ أربعة أعوام . شاركت في مناظرة «الكاباس » العديد من المرّات دون أن يحالفني الحظّ . أنا واثق من أنّ تلك المناظرة هي ذرّ للرّماد في العيون ، خالية من الشّفافيّة و يشوبها كثير من الغموض و الالتباس و قد راجت أخبار مفادها أنّها تبــــــاع و تشترى بأثمان خياليّة حسب مسالك سريّة لا يفقهــــــها إلاّ الرّاشـــــــون و المرتشون و هم كثيرون في هذه البلاد الّتي تفشّى فيها الفساد .
أنتمي إلى عائلة قليلة ذات اليد متألّفة من خمسة أفراد . أبي مقعد حبيس في إحدى زوايا بيتنا الحقير يصارع مرضا عضالا فهو لا يملك إلاّ وجه الله و صبرا جميلا كصبر أيّوب يعينه على تحمّل أوجاعه . هو من المهمّشين في هذا الوطن الغالي لا يملك دفتر علاج وعاجز عن شراء الأدوية و كرسيّ متحرّك يتنقّل عليه في أرجاء الدّار أو خارجها . أمّي معينة منزليّة تشقى من طلوع الفجر إلى غروب الشّمس مقابل أجر زهيد لا يسمن و لا يغني من جوع .هو أجر متدنّ وضيع غير كاف لتأمين حاجاتنا الضّروريّة من الغذاء و اللباس . نحن نأكل ما يسدّ الرّمق دون أن نشبع و نرتدي أثواب (الفريب ) فترانا نحافظ عليها من الاتساخ و التّمزّق فكأنّها جلبت من أفخر المغازات . أختي فاطمة تقــــوم بشؤون بيتنــــا و تتكفّل بالعناية بأبي فهي اضطرّت للانفصال عن الدّراسة في سنّ مبكّــــــرة على الرّغم من نبوغـــــها و فطنتها .
أطرق طارق لحظات قصيرة و قد امتدّ شحوب وجهه و لاحت في عينيه الذّابلتين نظرة حزن عميق و يأس سحيق ثمّ استدرك قائلا و قد تحشرجت نبرات صوته :
- « لي أخ صغير يبلغ من العمر عشر سنوات يقضّي أغلب أوقاته في البكـــــــاء و النّحيب لا في الفــــــرح و الانشراح و المرح مثل أنداده . أليس من حقّه أن يبتهــج و ينشرح و يمرح حتّى الانتشاء فيطرب و تطرب نفسه ؟ هل تعرف لماذا ينتحب يا سيّدي الكريم ؟ »
ابتسمت ابتسامة صفراء ، ذابلة و حاولت الإجابة بصوت مبحوح قد امتلأ شجنا و كمدا :
- « أظنّ أنّه يشكو علّة من العلل و عائلتك لا تملك مالا لتسديد نفقات علاجه ».
- « عليّ في صحّة جيّدة لا يعاني من أيّ مرض . هو يجهش بالبكاء إذا كان لا يملك ثمن كرّاس أو ثمن الطّباشير الّذي يكتب به على لوحته... هو يبكي بكاء مرّا لأنّ محفظته هي أسوء المحافظ على الإطلاق فهي متهرّئة قد نصل لونها و داهمتها الفتوق فكان مصير أغلب أقلامه الضّياع ... يبكي بحرقة إلى أن تحمرّ مدامعه و تخنقه العبرات لأنّ لمجته في وقت الرّاحة هي مجرّد خبز و زيتون و لمج أصدقائه متنوّعة و لذيذة : ياغــــــــــــــــرت و جبــــــــن و شكلاطة و بسكويت و قشطـــة و أنواع شتّى من الأرغفة و الألبــــــــــان و العصائر» .
انهملت على خديّ دموع منسجمة سخيّة سخينة كأنّها الجمر فقلت مستفسرا :
- « الحمد لله الّذي متّعه بصحّة وافرة لكن هل كان عليّ متفوّقا في دراسته ؟ ».
- « نعم هو تلميذ نجيب و مهذّب يظفر في كل عام دراسيّ بالجائزة الأولـــى و جائزة السّلوك المثالي » .
إنّ هذا الخبر السّارّ أثلج صــدري فتهلّل وجهي بشرا و رقص قلبي ابتهاجا.
و استرسلنا في الحديث بأكثر عفويّة و صراحة لا نحفل لا بشمس الأصيل الّتي ذهّبت مياه البحـــر و سعف النّخيل و لا نكترث بالجوع و العطش اللّذين ينهكان جسمينا. ربّتت على كتفه تربيتا مريحا إشفاقا عليه و تخفيفا لمعاناته و لسان حالي يقول - « أهلا و سهلا بك في هذه الجزيرة الخلاّبة فأنت لست غريبا فيها بل ضيف معزّز مكرّم بين أهلك و ذويك و رفاقك يحفّ بك الأنس و ترافقك السّلامة و تغشاك الرّحمة . لي نصيحة يتيمة سأوجّهها إليك و هي أن تعلم أنّ أوّل الغيث قطر ثمّ ينهمر فما عليك إلاّ أن ترضى بأيّ عمل يعرض عليك المهمّ أن يكون شريفا ينتشلك من براثن البطالـة و يغيّر مجرى حياتك المتعثّرة رأسا على عقب » .
استوى طارق واقفا و همّ بالانصراف و هو يقول بصوت خافت مختلج و شبه ابتسامة مرتسمة على ثغره و بريق أمل يلوح في عينيه النّجلاوين:
- « سأناضل إلى آخر رمق من حياتي و سأبقى هازئا من العواصف و السّحــــب و الأنواء، صامدا كالطود الأشمّ لا أتقهقر و لا أنهزم و لا يدركني الفتور ».
أسند جسمه المنهك إلى جذع نخلة سامقة و أمعن النّظر في الأفق الرّحــــــــــب و كأنّه يلتمس العون من ربّ العالمين ثمّ استطرد داعيا الله في ورع :
- « يا ربّ العالمين اجعل من عسري يسرا و من حيرتي اهتداء و من ضعفي قوّة و من ضيقي فرجا و لا تخيّب رجائي فعليك التوكّل و الاعتماد فأنت المعين و أنت السّند و أنت المدد في السّرّاء و الضرّاء » .
- « ما هي وجهتك الآن لو سمحت ؟ »
- « ابن عمّي فهو يقطن بالسّواني الحارة الكبيرة سابقا ».
- « ما رأيك في الإقامة عندي هذه اللّيلة ؟ »
- « المعذرة فابن عمّي محمّد في انتظاري و إنّي لا أرى مانعا في أن أحلّ ضيفا ببيتك في يوم من الأيّام إن شاء الله » .
- « هل عندك رقم هاتفه الجوّال ؟ »
سرعان ما تذكّر وقوفه في أحد أسواق سيدي بوزيد لساعات طويلة تحت شجرة وارفة الظّلال إلى أن أقبلت فتاة في ربيع عمرها فقلّبت هاتفه الجوّال المعروض على قفا صندوق من الكرتون فساومته في ثمنه ثمّ ابتاعته مقابل أربعين دينارا هي كل ما تملك في حافظة نقودها. إنّه لاك هذه الذّكريات المريرة و اختزلها في ثوان و هو يحدّق إليّ بأجفان هامدة في صمت ثمّ نطق بكلام ينوء بالأوجاع و الأحزان:
- « اضطرّني الفقر المدقع لبيع هاتفي الجوّال و الانتفاع بثمنـه في توفيــــــــر معلوم الرّكـــــــوب و مصروف الجيب و فيما يخصّ رقم هاتف ابن عمّي فهو محفوظ في الشّفرة مع بقيّة الأرقام الّتي أحتاج إليها كلّما دعت الحاجة إلى ذلك ».
تأثّرت بكلامه تأثّرا بالغا و شعرت بجانب خفيّ يدنيني إليه فهل هو الإشفاق الّذي أودعه الله في القلوب الرّحيمة أم هو الاطمئنان الّذي يستقرّ في النّفوس النقيّة كما يستقرّ العصفور في وكره النّاعم قبيل مجيء العاصفة ؟» .
لم أتوان عن إهدائه هاتفا جوّالا و مساعدته بما تيسّر من المال ثمّ ودّعته توديعا حارّا بالأحضان بعد ساعة مرّت بين الأحاديث المجدية و الذّكريات المؤلمة مرور ظلّ الأغصان على الأعشاب الخضراء ، النّضرة . ها قد مضى كلّ واحد منّا إلى حال سبيله قبل أن يباغته الغروب معلنا أنّ موعد الإفطار قد أزف : طارق ركب سيّارة تاكسي صفراء فاقع لونها و انصرف إلى مسكن ابن عمّه فرحا ، مرحا ، محبورا تشوبه بين الفينة و الأخرى مسحة من الأسى أمّا أنا فقد عدت أدراجي إلى البيت حائرا ، كئيبا أسير بخطوات متثاقلة و أنا أعلم علم اليقين أنّ الشّمس مشرفة على الغروب إذ لم يعد يفصلنا عن الإفطار سوى ربع ساعة أو أقلّ من ذلك ببضعة دقائق ..
ها هي الشّمس تتهادي إلى المغيب كعروس في يوم زفافها : قرص أحمر كبير امتصّ المجهول قوّته الجبّارة و حيرته الباطشة فرنت إليه الأعين في انبهار كما ترنو أعين التّائهين في الفلاة إلى عين جارية و كسرة من الخبز .
و عندما دوّى مدفع الإفطار صاح الأطفال في جلبة تعبّر عن استبشارهـــــــــــم و سرورهـــــم و هتف المؤذّن لله أكبر ... الله أكبر... » فأجبت في صوت مسموع طافح بالتّقوى و الورع : « لا إله ‘لاّ الله محمّد رسول الله » .
و في ثوان معدودة ، التأم جمع أسرتي حول مائدة الإفطار فغيّرنـــــــا ريقنا على مــاء زلال و لبــــــن طريّ و تمر كالعسل حلاوة و طلاوة و نحن نردّد في الســـــــــرّ و العلن هذا الدّعاء المأثور : : « ذَهَبَ الظَّمأ، وابتلَّت العُروقُ، وثبت الأجرُ إن شاءَ اللهُ » . و بعد أداء صلاة المغرب جماعة ، أقبل إخوتي و أبواي على الأطعمة الشّهيّة و الغلال الطّازجة بشراهة : شربة فريـــــــك و سلطة خسّ و بريك بالتنّ و سمك مشويّ و عنب و تين . إنّهم صالوا و جالوا في الصّحون حتّى تركوها بيضاء من غير سوء . أمّا أنا اكتفيت بتناول الشّربة و الغلال للتّخفيف من حـــــــدّة الجوع و انغمست أفكّر في حال طارق و قد ازدحمت في رأسي خواطر بشعة لا تبعــث على الاطمئنـــان و راحة البال . من هذه الخواطر أنّ طارقا نام على حصير بال منهكا بعد أن بلّل ريقه بجرعات ماء و أكل لقيمات من الملثوث . و من هذه الخواطر أيضا أنّ عائلة طارق التهمت عند الإفطار كسكسا في لون رمال البحر لا لحم عليه و لا خضر . كيف سأهنأ و أتّكئ على أريكتي الوثيرة ناعم البــال و غيري يتضوّر من شدّة غائلة الجوع ؟ كيف يتباهى الأغنياء بتصنيف أطعمة يلقون البعض منها في المزابــــل و ينسون العديد من المعدمين الّذين لم يجدوا ما يأكلون ؟ أليسوا من المبذّرين و المبذّرون هو إخوان الشّياطين ؟ أليسوا متكبّرين قد أعمى التّكبّـــــــــــــر و الجشع بصائرهم ؟ أليسوا عصاة قساة لا تنفذ الرّحمة إلى قلوبهم ؟ كم أودّ أن يكون المسلم للمسلم رحمة يطعم الجائعين و يكسو العارين و يكثر من الصّدقات على المحتاجين بالخصوص في هذا الشّهر الفضيل ! كيف سأنام ناعم البال ممتلئ البطن حتّى التّخمة و غيري يبيت على الطّوى دون أن ينال كريم المأكل ؟ .
مسكين طارق فهو على الرّغم من كرم الضّيافة و حسن الاستقبال من طرف ابن عمّه كان حزينا ، مبتئسا ، منهكا . تناول الأطعمة العديدة على عجل دون أن يستصيغها لسانه و شرب كأسا من الشّاي الأخضر بالنّعناع ثمّ خلد إلى النّوم على حشيّته بعد أن بسطها و سوّاها في ركن من أركان الغرفة الضّيّقة غير بعيد عن مائدة الطّعام الّتي تفصله عن سرير ابن عمّه محمّد .
أمّا أهل طارق قد جلسوا القرفصاء على حصير من الحلفاء تتوسّطهم مائدة خشبيّة زرقاء نصل لونها عليها جفنة ملأى بالكسكس و كوز لبن طريّ تحيط به أربع كؤوس و تمر و خبزة طابونة فائحة تدغدغ رائحتها الأنوف . و ما إن حان موعد الإفطار حتّى تناولوا طعامهم و شربوا لبنهم ثمّ حمدوا الله على فيض عطائه فهم لم يذوقوا لحم الخروف منذ شهر فطعام هذه اللّيلة كان فاخرا ، مختلفا عن الأطعمة السابقة من حيث الدّسامة و النّكهة . الفضل في ذلك إلى الله و إلى جارهم عبد الكريم الّذي تصدّق عليهم بفخذ خـــروف و نصيب من المال. لم تعمّر فرحة هذه العائلة و سعادتها طويلا فها هو عليّ يطلق عقيرته للصّياح ثمّ يلحّ في طلباته الّتي ليس لها آخر بنبرة حزن و قد تأرجح صوته بين خفوت و علوّ و بيـــــــــــــن غمغمــــــــــــــــــــة و صفاء :
- « أين هو البريك ؟ أين هي الشّربة ؟ أين هي المرطّبات ؟ ...»
ابتسمت أخته فاطمة ابتسامة لا لون لها لتداري أسى مباغتا عصف بها و طأطأت رأسهــــــــــا و خفضت عينيها حتّى لا يقرأ عليّ فيهما توتّرها و ضيقها الشّديد ثمّ قالت بصوت متهدّج تخنقه العبرات و هي تضمّه إلى صدرها ضمّا خفيفا و تكفكف دمعه بمنديل مثنيّ ، نظيف :
- « يا شقيقي العزيز ما هكذا تطالبنا بما يستحيل توفيره ! كفاك دلالا أيّها الأبله فأنت تعرف أنّ عائلتنا قليلة ذات اليد و أنّ الأطعمة الرّمضانيّة تكلّفنا نفقات باهظة » .
- « العفو فكلّ ما في الأمر أنّ الهواء حمل إليّ رواح التّقلية و نشيش المفليّات من ديار الجيران فرغبت في أن تكون بين يديّ بريكة لذيذة أقضمها على مهل و قد تحلّب ريقي و تأجّج لهيب جــــــــوعي » .
- « لا عليك ففي الليلة القادمة بحول الله سأعدّ لك ما اشتهيت من المأكولات و لو أدّى بنا الأمر إلى مزيد من الإنفاق و التّعب فهل أنت راض ؟»
انصرف عليّ إلى فراشه مبتهجا محبورا قد ابتسمت أسارير وجهه و التمعت في عينيه الدجاوين فرحة طافرة ، ظافرة تترجم رضاءه و صبره و حبّه الجمّ لأخته فاطمة . ها هي أمّه تجلس بجانبه على السّريــــــر و تدسّ في جيب سرواله صاعا من الحلوى ثمّ تنبري في هدهدته بصوت شجيّ رخيم و هي تقبّله في جبهته الغرّاء و خدّيه الحمراوين « ننّي ننّي جاك النّوم أمّك قمر و أبوك نجوم »
خلال السّحور ، تناول طارق و محمّد حليبا دافئا و خبزا و حفنة من التّمر و ارتويا بالمــــــاء و بقيا يتحدّثان بإطناب عن مشاغلهما فاتّفقا أن يسدّدا معلوم الكراء مناصفة و أن يقيما مع بعضهما في هذا المسكن الصّغير المتألّف من حجرة و مطبخ و بيت خلاء . كما اتفقا أيضا أن يشتغل طارق في إحدى حظائر البناء عاملا يوميّا من السّاعة السّادسة صباحا إلى السّاعة الواحدة بعد الزّوال مقابل أجرة يوميّة تقدّر بثلاثين دينارا تسلّم إليه يوم الجمعة الّذي يعدّ يوم الرّاحة الأسبوعيّة
كان طارق يعمل بجدّ و كدّ تحت سياط الشّمس الحارقة فخلط الملاط متعب و تنجير الحجارة الكلسيّة بالفأس و حملها إلى البنّاء محمّد أشقى و أشقى فالمجهود مضاعف و مضاعف .كان كلّما يتصبّب جبينه عرقا يمسحه بكمّ قميصه غير آبه به فالّذي يعنيه هو الوفاء إلى العمـــــــــــــــــــــــل و كسب مال حلال يبارك له فيه الله . و عند اشتداد القيظ كان بين الحين و الحين يبلّل مظلّته السّعفيّة بالماء لتلطيف الحرارة أو يقف في ظلال زيتونة عريقة مستندا إلى رفشه عساه ينتعش بنسائم عليلة يجود بها البحر الّذي يظهر له مخضرّا عن بعد .
هكذا كانت تنقضي كلّ أيامه في النّضال المضني من أجل كسب القوت بطريقة لم يكن راضيا عنها تمام الرّضاء فظروف الحياة القاسية هي الّتي اضطرّته إلى هذه الأشغال الشّاقّة فكما يقال مكره أخاك لا بطل.
ذات يوم قائظ لا ينسى لمّا اشتدّ حرّ الهاجرة و لفحت رياح الشّهيلي الوجوه و امتنعت الأرض على الحافــــــــــــــــــــــي و المنتعل التجأ طارق إلى زيتونة فجلس القرفصاء قرب جذعها ليبترد في ظلّها القصير بعض الوقت فجسمه يغلي غليان المرجل . ساورته هواجس غريبة و حامت في ذهنه أسئلة محيّرة أجّجت نقمته على وضعه المتردّي و على القضاء و القدر اللّذين لم ينصفاه و تركاه كالرّيشة في مهبّ الرّيح لا حول لها و لا قوّة : « هذا العمل شاقّ لن أبقى فيه طويلا فهو سيهدّ جسمي هدّا و سيفنيه إفناء ... حرارة الشّمس كانت كنار الله الموقدة تؤجّج عطشي و تلهب جسدي بسياطها المؤذية فأستحمّ في بركة من العرق و لولا رضاء أبويّ عنّي لأصبت بحمّى شديدة يعجز أمهر الأطبّاء عن علاجها و القضاء عليها . إلى متى سيتواصل وضعي المزري على هذا النّحو ؟ لو يراني أبي سابحا في هذا العرق تحت بارود الشّمس هل سيرحمني و يدعوني إلى البحث عن عمل آخر أقلّ تعبا و أقلّ مجهودا أم سيقول لي اصبر صبرا جميلا فبعد العسر يسر و بعد الشدّة فرج ؟ سبعة عشرة سنة من الدّراسة لم تفدني في شيء بل ازدادت حالي سوءا فها أنا تعيس ، شقيّ قد جفّ الرّيق في حلقي و تصبّبت عرقــــــا غزيرا مــــــــن فرط الإعياء و شدّة الحرّ فمن سيرحمني و يخلّصني من هذا العذاب البغيض و هذا الانتحار البطيء ؟ . عند القيلولة الكثير من الشّبّان المترفين الّذين يعيشون في بحبوحة من العيش نائمون على أسرّة هزّازة داخل حجرات مكيّفة فهم لا يشعرون لا بعطش و لا بشدّة حرّ و لا بإعياء فأنا أحسدهم على هذه الحياة الوديعة المترفّهة . لم يتركني البنّاء أستسلم تمام الاستسلام إلى حديثي الباطنيّ بل استحثّني على عدم التّراخي و مواصلة العمل و على ثغره ابتسامة مرّة خير منها العبوس :
- « هيّا أسرع في مدّي بسطل من الملاط فلم هذا الترنّح و التّباطؤ في العمل ؟»
- « كلّ ما في الأمر أنّني تعبت فأنا كسائر البشر من دم و لحم فقد شقّت عليّ مواصلة العمل في هذا الحر اللافح المحرق ».
- « هل قريبا سينفد الملاط »
أجبته باقتضاب شديد و بسرعة مذهلة :
- « في العجينة ما يملأ ثلاث أسطل »
- « بعد دفائق معدودة سنستوفي هذا العمل المضني و نعود إلى بيتنا على متن درّاجتي النّاريّة لنيل نصيب من الرّاحة »
- « ما رأيك أن نعمل في الغد من السّاعة الخامسة صباحا إلى الزّوال ؟ »
- « نعم الرّأي فأنا لا أرى مانعا في ذلك فالمهمّ سلامتنا و تفاهمنا ثمّ إنّ الله لا يكلّف نفسا إلاّ وسعـــــها »
عاد ابنا العمّ إلى بيتهما ظهرا و قد أنهكهما التّعب و أضناهما العطش فاستلقيا على فراشيهما الحقيريـــــــن و طفقا يغطّان في نوم عميق صحوا منه عند آذان العصر .
إثر الإفطار ، بقي محمّد يتفرّج على المسلسلات التّلفزيّة في انتباه و تركيز مشدودا إلى أحداثها الدّراميّة أما طارق فقد غادر البيت قبيل صلاة العشاء بعد غسل ملابسه و أواني الأكل القذرة فاجتمع بالخلاّن الّذين يألفهم و يألفونــــــــــــه و راحوا يسمرون و يحتسون الشّاي و القهوة في جوّ مفعم بالمحبّــة و الصّفاء تسوده تارة ضحكات صاخبــــــــــــة ، رنّانــــــة و نوادر طريفة و ظريفة و طورا دمع ثخين و شجن بليــغ و زفرات تعجّ بالآهـــــــــــــــات . و دار الحديث حـــول الصّيام و كيف أنّ البعض من الشّباب لا يؤدّونه رغم أنّهم في صحّة جيّدة ليســت لهم أعذار شرعيّة .
قال طارق بحرقة و هو يصلح من جلسته بعد أن سحق أعقاب سيجارته في النّافضة الخزفيّة سحقا عنيفا خلّف الكثير من الرّماد :
- « الصّيام صعب في فصل الصّيف بالنّسبة للفلاّحين و العمّال لكن عليهم أن يؤدّوا هذه الفريضة على الوجه الأكمل متحمّلين العطش و العرق و الحرّ و الجوع ».
ضحك سليم ضحكة داعرة و قال دون أن يتلعثم أو يتورّد وجهه خجلا :
- « عليكم بالصّبر ففي الجنّة باب يقال له الريّان لا يدخل منه إلاّ الصّائمون » .
حينئذ تدخّل نجيب و هو شابّ معروف بين الجميع بالتّقوى و الصّدق و المواقف الحاسمة :
- « أمّا أنت أيّها الزّنديق فلن تدخل من باب الرّيّان و سوف تحاسب حسابا عسيرا على أعمالك الدّنيئة الّتي تقشعرّ منها الأبدان ».
لم يتوان هؤلاء الثّلّة من الخلّان عن القهقهة ملء أشداقهم و الهمس و الغمز و اللّمز ثمّ حدجوا سليما بنظرات ارتيــاب و عتاب و هم يشيرون إليه بأصابعهم و كأنّهم يضعونه في قفص الاتّهام أو في موقف محرج مهين .
نزل كلام نجيب على نفس سليم نزول الصّاعقة على الهشيم فاسودّ وجهه و هو كظيم و تقطّب جبينــه و اصطكّت أسنانه كالمحموم و قال بصوت متهدّج مخنوق يكاد لا يسمع :
- « اتّق الله يا رجل فهل أنا مجنون حتّى أفطر في رمضان ؟ »
- « المعتوه ليس عليه حرج فهو يأكل متى شاء أو أراد دون أن يحاسبه أحد أو أن يكون عرضـة للسّخريّة أو القيل و القال أمّا أنت ....»
لاذ نجيب بالصمت هنيهة فلعلّه كان يستجمــــــــــع معلوماته للتّشهير بنجيب و يتوثّب للانقضـاض و التحدّي ثم استطرد قائلا و هو يبتسم ابتسامة ساخرة :
- « أنت أيّها الصّديق الشّقيّ أبصرتك بالأمس في كوخ على حافة الشّاطئ تلتهم شطيرة و على مقربة منك قارورة ماء معدنيّ و علبة سجائر »
- « أنا حرّ في اعتقادي فالصّوم لا يعني لي أيّ شيء و الدّين كذلك ».
- « نسيت أنّك ملحد شيوعي غارق في وحل الماركسيّة من أعلى رأسك إلى أخمص قدمك فالدّين بالنّسبة إليك و إلى أمثالك هو أفيون الشّعوب » .
- « ثب إلى رشدك و كن رصينا و اعلم أنّه لا طائل من التّشهير بي و لا داعي من السّجال الفلسفي في مقهى شعبيّ يرتاده عامّة النّاس » .
- « أنت واحد من صعاليك هذا الزمان ... أه لو يعلم أبوك ذاك الرّجل المحافظ ، التّقيّ أنّك مفطر في رمضان سيفور فائره و يثور ثائره و تتطاير سهام الحنق في عينيه فيقدم على طردك من البيت في قسوة دون رحمة أو شفقة » .
حينما احتدم النّقاش و حمي وطيسه خشي طارق من أن تسوء العلاقات بين الصّديقين و ينشب خصام مجهول العواقب بينهما فقال قوله الفصل و قد اضطرب في قلبه فرح ضئيل لاحت من خلاله ابتسامة شاحبة ارتسمت على ثغره و بريق نور متهالك في عينيه :
- « صلّوا على النّبيّ الطّاهر الكريم فخير الخصال حفظ اللّسان فالثّرثرة تؤجّج الفتن و تثير النّعــــــــــــرات و تدنّس الأعراض فنحن ما جئنا إلى هنا للحوارات العقيمة الّتي لا طائل منها . هيّا ننغمس في لعب الورق لننسى ما فات فما أضيق العيش بدون ضحكات مجلجلة و تسلية تطرب النّفـــــــــــــــــس و تنعشها »
و في سمر آخر على غير ما كان مألوفا و بأحد زوايا المقهى ، انطوى طارق على نفسـه حزينا ، دامي القلب ، مكيلا التّهم جزافا لسوء الحظّ الّذي لم يسعفه و لم يبشّره بيوم مشرق . قبض على ذقنه العريض و عكست عيناه المتّسعتان نظرة باردة ، شاردة ليس لها آخر فلعلّه كان ينعى الأعوام الضّائعة في البطالة أو يؤبّن شهادة الأستاذيّة قبل وأدها بين وثائقه و سجلاّته داخل محفظة جلديّة بالية تذكّره بسنوات الدّراسة الجميلة في الجامعة . و ما يدريك لعلّه قد أدّى زيارة خاطفة إلى أهله على براق خياله قبل أن يرتدّ إليه طرفه متحديّا الزّمان و المكان فالمهمّ بالنّسبة إليه أن يطمئنّ على حال والده المقعد و أن يسرّي عن أمّه الكادحة و يمرح مع أخيه و أخته في بهجة يعجز القلم عن الإفصاح عنها .و هكذا ظلّ الفتى في مكانه واجما ، ساهما كأنّه صنم لا يحفل بما يدور حوله على أنّه لم يلبث أن انتحب غير جاهر بنحيبه فتقاطر على وجنتيه المستديرتين دمع شحيح . أحاط به رفاقه لمواساته و هم في دهشة من أمره فشهيق شابّ في سنّه أمر محيّر ، مثير للاستغراب . ها هو خالد يربّت على كتفه الأيمن و يكفكف دموعه في إشفاق ثمّ يهتف في أذنيه مستفسرا و شبه ابتسامة تلوح على ثغره و تكشف عن أسنان بيضاء ، نضيدة ، مرصّعة كاللّؤلؤ فوق تاج الأميرة :
- « أفق يا طارق... أفق يا طارق. ما بك لطف الله عليك ؟»
شخصت عينا طارق وانعقد لسانه لوعة و انحبس الكلام في حلقه انحباس الغيث في سنوات القحـــــــــــــــط و الجدب و انهلّ دمعه مدرارا فسارع صديقه سليم إلى سكب الماء البارد على وجهه فانتعش و قـــــــــال و هو متجهّم السّحنة ، ممعن النّظر فينا و كأنّه لا يعرفنا :
- « تذكّرت والدي المقعد منذ سنين فهو قد ضاق ذرعا من الحياة و الحياة ضاقــــــــــــــــــت ذرعا به فالدّولة لم تهتمّ به و بأمثاله من المعدمين . لا جراية و لا إعانات و لا دفتر علاج يمكّنه من التّداوي مجانا في المستشفيات فصحّته تتداعى يوما بعد يوم »
هدّأ رفيقه سليم من روعه و هو يبتسم ابتسامة عريضة :
- « من الحمق أن لا تواسي الدّولة أباك و أمثاله من المقعدين حتّى يعيشوا عيشا هنيئا يحفظ لهم كرامتهم فمن حقّ هؤلاء أن ينعموا بالحياة » .
- « رحل العدل مع الخليفة عمر بن الخطّاب فالفقير في بلادنا يزداد فقرا و الغنيّ يزداد غنى »
تدخّل نجيب لإثراء الحوار فقال بحماس :
- « ليس من باب الإنصاف أن يكون السّواد الأعظم من الشّعب فقيرا و محتاجا و حفنة من أصحاب الملايين يتحكّمون في قوته و مصيره. لست أدري كيف تطيب الحياة لساسة البلاد و أثريائها و هم يعلمون علم اليقين أنّ أغلبيّة أبناء الشّعب فقراء في حاجة إلى العزّة و الكرامة و ما يحفظ ماء الوجه فالإذلال يمكن أن يؤديّ بهم إلى التمرّد و الانتفاضة من جديد فالثّورة مازالت لم تخمد نارها و لن تخمد إلاّ بعد القضاء على منظومة الفساد و الاستبداد و الرّجعيّة »
قال طارق و هو يبتسم ابتسامة سرور و استعطاف :
- « ليس هنالك أسوء من نظام يقضي على النّاس بالانحدار إلى منزلة الحيوان و ليس يوجد أتعس من سلطة لا تضمن لي الشّغل حسب اختصاصي فأنا أستاذ عربيّة و الله يعلم بحالي كم شرّدتني البطالة المقيتة و كم أفناني التعب و الحرّ عندما رضيت أن أكون عاملا يوميّا أكسب قوتي بكدّ يميني و عرق جبيني »
- « ربّي يقدّر الخير لك و لأمثالك من أصحاب الشّهائد العليا . أنصحك بأن لا تستسلم لعواصف اليأس فعليك أن تكون كفجر الحياةِ الوضيء يداعبُه الأملُ النيرُ و أنصحك أيضا بأن لا تكلّف نفسك إلاّ وسعها فلا تحمّلها ما لا طاقة لها كالثّور الّذي يقولون عنه في الأساطير القديمة أنّه يحمل الكرة الأرضيّة على قرنه »
الحمد لله فها فقد علت وجه طارق ابتسامة حلوة و إشراق رائق و غبطة لا سبيل إلى وصفها كانت تنطق من قلبه بما لا تستطيع الألسنة أن تنطق به أو يصوّره البيان المبين. و لمّا تهلّلت الوجوه و اطمأنّت النفوس بعد اضطرابها و كلّت الألسن من الحديث انبرى الأصدقاء للعب الورق في زهــــــو و طرب .
على السّاعة العاشرة ليلا، آب طارق إلى مسكنه حثيث الخطى فحرّر العديد من مطالب الشّغل و أرفقها بنسخ مطابقة للأصل من شهادة الأستاذية ثمّ استلقى على فراشه لينصت إلى أغنية شجيّة فإذا الألحان تنساب بين خفق عود و ترنّم شاد . يا لها من أنغام صقيلة تتعالى و تتماهى لتستقرّ في عمق وجدانه و أقصى روحه ! وقع الإنشاد في نفسه أحسن وقع فاهتزّ طربا و سرح بأفكاره بعيدا : « شوقي إلى التّدريس حتّى يردّ الاعتبار إلى شهادتــــــي و أكون مطمئنّا ، سعيدا ، راضيا عن نفسي تمام الرضا فأنا منذ سنوات بطّال مضطهد ذو عبقريّة مقبورة و حظّ متعثّر ... شوقي إلى العيش الكريم الّذي بدونه لا طعم و لا معنى للحياة ... شوقي إلى الحريّة الّتي لا يحدّها حدّ و لا تنقلب إلى عبث أو فوضى أو استهتار بالقيم ... شوقي إلى الكرامة الّتي ترفــــــــــــع من همّتـــــي و شهامتـــــــــــــي و رجولتي ». و ما هي إلاّ دقائق معدودة حتّى ران الكرى في عينيه فاستسلم إلى نوم عميق .
في الغد و عند الأصيل ، تهاطلت الهدايا و الهبات الماليّة على طارق من أهل البرّ و الإحسان فمنهم من يعرفه و منهم من لا يعرفه . فما أعظم الصداقات إذا كانت في سبيل الله لا يتبعها منّ و لا أذى ! ما أنبل الصّدقات إذا أدخلت الفرحة على الفقراء و المساكين و خفّفـــــــــت من معاناتهم ! : كرسيّ متحرّك و شاشيّة قرمزيّة اللّون للأب ... فستـــــــــان و لحاف من الحرير للأمّ ... سروال و حذاء أسود لمّاع لفاطمة ... كسوة أنيقة و محفظة جلديّة و صندوق به طائرة مفكّكة للشّقيق عليّ ... أصناف من الحلويّات اللّذيذة المرشوشة بماء الورد فمنها الكعــــــــــــك و المقروض و البقلاوة . و عندما أرخى اللّيل سدوله حائكا من خيوط الظّــــــــــــــــــــــــلام جلبابا قاتما كثيفا ترشّف طارق قهوته السّوداء على مهل مستصيغا طعم ماء الزّهر فيها و من حين لآخر كان يجذب نفسا عميقا من سيجارته ثمّ يزفره سحابة رماديّة من الدّخان . و بعد نيل نصيب من الرّاحة ، هاتف طارق أفراد أسرته الواحد تلو الآخر ليستفســـــــــــــــــر عن أحوالهم و يزفّ إليهم في بهجة خبر عودته قبيل العيد بيومين ثمّ رصّف رفقة ابن عمّه محمّد الملابس في حقيبة جديدة و هما ينشدان في طرب و حنين أغنيات قرويّة شجيّة حفظاها في عهد الطّفولة.
ما القضاء إلاّ قضاء الله سبحانه و تعالى فكل أمر بمشيئته و قدرته يصبو و يتطلّع إلى تحقيق باقة من أمانيه لكنّه لن يحقّق إلاّ البعض منها فكما يقول الشّاعر العربيّ المقتدر و العظيم أبو الطيّب المتنبّي :
« ما كلّ ما يتمنى المرء يدركـــــــه
تجري الرّياح بما لا تشتهي السّفن »
و في الخامس و العشرين من شهر رمضان ، أسفر الصّبح شاحبا كئيبا و أشرقت الشّمس بنور ربّها فأرسلت أشعّة فاترة، خائرة، متهالكة خلّفت على عباب البحر خطوطا أرجوانيّة متعرّجة تنفتح حينا و تنغلق حينا آخر و حلّقت في الجوّ طيور ضخمة لها أصوات موحشــة كنعيق الغــربان . على حين غرّة ، أبصر أحد أعوان الحماية المدنيّة على الشّاطئ الرّمليّ كوما من الملابـــس و حذاء رياضيّا فوجف قلبه و اقشعرّ بدنــــه و توجّس في نفسه خيفة من أن يكون هنالك حادث غرق راح ضحيّته شخص لا يعرف السّباحة . في الحين ، أولج يده المرتعشة في جيب سروال الدّجين فعثر بداخله على قطع نقديّة ليست ذات بال و بطاقة تعريف وطنيّة تحمـــــل اســـــم الشّابّ طــــــــارق و هو أصيل سيدي بوزيد .
على جناح السّرعة، انطلق التّمشيط على قدم و ساق في أعراض البحر على متن زوارق حثيثة . و بعد جهد جهيد و تعب شديد اهتدى فريق من الغطّاسين إلى الهالك الّذي استحال جثّة هامدة في أعماق البحر تنهش لحمها الأسماك فأخرجوه بواسطــــة عوّامة سريعة إلى الشّاطــــــــئ و أفرغوا ما بجوفه من ماء و تيقّنوا من خلال الصّورة المثبّتة ببطاقة التّعريف الوطنيّة من أنّ الغريق هو طارق .
يا له من مسكين فهو قد امتدّت له يد المنون و هو في مقتبل العمر و في أوج النّضال في سبيل تحقيق أمانيه المتعثّرة ! اللّيلة البّارحة ، بدل أن يولّي وجهه شطر المقهى خطر بباله أن يؤمّ البحر للاستحمام فيه و الابتراد بمائه المنعش فالحرّ الشّديد قد حرق جسده و هيّج عرقه فانبعثت من إبطيه روائح كريهة عجز عن التّخلّص منها بأرقى أنواع العطور .
كان الشّاطئ مقفرا على غاية من السّكون فلا تسمع إلاّ حفيف جريد تغازله نسائم رقراقة أو همس عباب ينكسر على الرّمل الذّهبيّ مخلّفا زبدا أبيــض و أصدافا مختلفة الأشكال و الألوان . سرعان ما ولج البحر الجميل و توغّل فيه دون أن يتفطّن إلى ذلك فالانتشاء خدّر روحه و أنساه في كلّ خطر يمكن أن يحدّق به و هو في غفلة من أمره . يا لها من ورطة لا سبيل للخلاص منها ! ها هو يصارع الأمــــــــــواج و الأمواج تصارعه و يغالـب القضــــــــــاء و القضاء يغالبه. يطفو تارة مستغيثا النّجدة ... النّجدة فلا يجد يدا تمتدّ إليه ، و يرسب أخرى في قاع البحر حتّــــــــــى تظنّه من الهالكيــــــن. و مازال يظهر ثمّ يتوارى ، يصيح ثمّ يخرس ، يتحرّك ثمّ يسكن حتّى كلّ ساعده و وهنت قواه و ابيضّت عيناه و لم يبق منه إلاّ يد تختلـــــــــــــــج و رأس يضطرب ينبئ بأنّه على وشك لفظه أنفاسه الأخيـــــرة . و ما هي إلاّ صرخة هائلة تنمّ عن فزع شديد حتّى رأى خيال الموت وجها لوجه ثمّ انطفأ انطفاء الشّمعة في مهبّ الرّيح و انجرف مع تيّار عنيد إلى قاع البحر .
و بعد أن قامت الشّرطة بالإجراءات القانونيّة ، استرشدت عن دار ابن عمّه فاهتدت إليه فسلّمته جثمان الفقيد . من شدّة وقع الصّدمة تزلزل قلب محمّد و غشيت الكآبة وجهه و تمايلت على سحنته المنقبضة أشباح الأحزان و انبعثت من عينيه المبلّلتين بالدّموع الغزيرة نظرات ذابلة تعبّر عن انسحاق قلبه و ظلمة صدره . إنّه في كمد شديد يتصرّف كالأبله تصرّفات مذهلة ليس له عليها سلطان : ينتف شعره و يلطم خدّيه و يقرع صدره و يصرخ بأعلى صوته : « طارق مات ... طارق مات ... زين الشّباب طارق لم يمتّع بالشباب ... كيف سأتجرّأ على إخبار أهله ؟ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ... إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ » و حينما ذاع نبأ الوفاة أقبل الرفـــــــــــاق فرادى و جماعات للتّعزية و توديع طارق الوداع الأخيــــــــــــر و المساهمة بما تيسّر من المال في تأمين نقله داخل سيارة إسعاف مكيّفة إلى موطنه .
انتظر الأهل و الأقارب و الجيران قدوم الجثمان في لوعة بالغة على أحرّ من الجمر. لا أعتقد أنّ عائلته ستعرف أسى أشدّ وقعا من هذا الأسى الّذي ألمّ بها و أفقدها توازنها و صوابها فهي ستودّع فتاها في وقت قصير و تفارقه إلى الأبد بعد مواراته التّراب في رمس مظلم و موحش داخل مقبرة القرية . ما أتعس الزّهور الّتي تنبت في الصّخر و تحرم من الظّروف الملائمة للنّموّ فهي ستذبل و تفنى دون أن تحتفل بالرّبيع أو يحتفل الرّبيع بها ! . هذا أب قد انعقد لسانه فانسكبت دموعه مدرارا متكلّمة عن عواطفه الجيّاشة فالخطب جليل لا يحتمل... و هذه أمّ تنظر إلى السّماء بعينين غارقتين في البكاء مكحّلتين بإثمد الأسى و هي تقول باستعطاف : « يا إله الكون أنعم علي قرّة عيني برحمتك و جنّتك و أنزل عليّ صبرا جميلا كصبر أيّوب » و تلك أخت صابرة على قضاء الله مؤمنة بأنّ الأجل محتوم و الرّزق مقسوم فهي كانت تخفّف من حزن والديها مستدلّة بآيات من القرآن الكريم و بأحاديث نبويّة شريفة . أمّا عليّ فقد أحسّ بقلبه ينتحب في أعماق صدره فعضّ على شفتيه متوجّعا متحسّرا ثمّ قال كلاما تزلزلت له الأرض و من عليها : « مات الّذي كان يواسيني عند البكاء بكلام لطيف رقراق و قبلات مفعمة بالودّ و المحبّة و قطع من الشّكلاطة اللّذيذة و لكنّ روحه مازالت حاضرة ، حيّة ترفرف أمامي في الأفق كالحمائم البيض . اطمئنّ يا شقيقي فأنا سأطالع ما بمكتبتك من كتب و مجلاّت و سوف أكون بمشيئة الله أستاذ عربيّة أنيق المظهر لي كسوة جديدة و محفظة جلديّة و سيّارة فاخرة رصاصيّة اللّـــــون »
لا أظنّ أنّ عائلة طارق ستفرح بهدايا العيد حتّى و لو كانت نفيسة فهي بالنّسبة إليهم حقيرة خسيسة لا قيمة لها إذا لم يسلّمها طارق إليهم بنفسه و هو في قمّة فرحه متهلّل الوجه، منبسط الأسارير.
كيف سينقضي عيد الفطر بالنّسبة لهذه العائلة المنكوبة الّتي قوّض الموت أخد أعمدتها و خلّف في مهجتها أسى و حسرة و سعيرا متأجّج النّيران لا ينطفئ لهيبه ؟ هل سيضطرّ الأب للعمل في الأيّام القادمة متناسيا مرضه العضال فلعلّ الكرسيّ المتحرّك سيشجّعه على ذلك ؟ سيكون الأب بين المطرقة و السّندان في وضع لا يحسد عليه : الاستسلام إلى المرض سيذلّــــــــــه و يذلّ من معه و سيزيد في هوّة الفقر و الخصاصة و يحرمه من متعة العيش . أمّا العمل حتّى و إن كان يسيرا سينهك جسمه العليل و يهدّه هدّا و لكن سيمكّنه من الإنفاق على عائلته و هو موفور الكرامة، مرفوع الهامة ، شامخ شموخ الجبال الرّواسي . هل ستحتفظ الأمّ بشهادة الأستاذيّة في اللّغة العربيّة الّتي تركها ابنها في محفظته ؟ قد تمزّقها إربا إربا كما مزّق الموت قلبها و تلقي بها في مزبلة التّاريخ فهي لم تنقذ ابنها في أحلك الظّروف و ظلّت مجرّد حبر على ورق لا حول لها و لا قوّة فكم تمنّى طارق أن يكون أستاذا أنيقا له كسوة جديدة و محفظــــة جلديّة و سيّارة فاخرة رصاصيّة اللّـــــون و لكن طاله الموت و هو في غفلة من أمره فهو بعد بضعة ساعات سيكون في كفن أبيض مسجّى على حصير من الحلفاء فوق نعش من الخشب ينتظر عمليّة التّأبين و الدّفن في جنازة حاشدة . من الأفضل أن تحتفظ أمّ طارق بهذه الشّهادة النّفيسة في مكان لافت للنّظر بالمكتبة لأنّها تعدّ مفخرة لهذه العائلة الفقيرة و كنزا لها لا تعادله كنوز الأرض فهي رمز للاجتهاد و المثابرة و التّضحية في سبيل طلب العلــــم و الرّقيّ بالإنسان إلى أعلى مراتب المعرفة . سعى طارق سعيا حثيثا أن تكون له وظيفة تنسيه في شبح الفقر و وحشيّة البطالة لكن الدّولة لم تقم بتشغيله شأنه شأن العديد من أصحاب الشّهائد العليا الّذين يعدّون بالآلاف . أيّها الشّباب الغُيُرُ على الحرية و الكرامة و التّشغيل احملوا مشعل النّضال و سيروا على درب المجد ، على درب الثّورة منتصبي القامات مرفوعي الهمم منشدين الأبيات التّالية لشاعر الثّورة أبي القاسم الشّابي :
« رُوَيدَكَ! لا يخدعنْك الربيــــــعُ
وصحوُ الفَضاءِ، وضوءُ الصباحْ
ففي الأفُق الرحب هولُ الظــــلام
وقصفُ الرُّعودِ، وعَصْفُ الرِّياحْ
حذارِ! فتحت الرّمادِ اللهيــــــــبُ
ومَن يَبْذُرِ الشَّوكَ يَجْنِ الجـــراحْ »
أقصوصة و من الحبّ ما يسكر
عدلhttp://sadabaghdad.blogspot.com/2016/08/7-2016_1
الإهداء
- إلى صديقي الحميم شاعر الجزيرة نور الدّين فارس ( 1953- 2016)تصغير|الشّاعر نور الدّين فارسالحبّ هو جوهر الفرد الّذي منه الكون ، و به يقوم . إنّه الجمال فوق كلّ جمــال ، و الحقّ قبل كلّ حقّ ، و القوّة الّتي منها كلّ قوّة ، على أن لا تشوبه شائبة و لا تستأثر به شهوة عابرة .
الأديب ميخائيل نعيمــــــة ( كتاب سبعون )
تعلّق قلب نجيب ذاك التّاجر الشّابّ بفتاة عربيّة منذ النّظرة الأولى فأطلق عليها من الأسماء أجودها و هو اسم ريحانة لأنّه يجهل اسمها . إنّها تبدو في نحو العشرين ، وجهها ناعم كالحرير ، مستدير كالبدر لا أثر فيه لأيّ مساحيـق و لا شيء فيه تشمئزّ منه العين . إنّه جميل و لعلّ أجمل ما فيه هو الفم بشفتيه الدّقيقتين ، القرمزيّتين ثمّ المقلتان الزّرقاوان اللّتان لم تفقدا بعد حلاوة الحيـــــــاة و بهجتها .
هل سيكون حبّه لريحانة عذريّا كحبّ قيس بن الملوّح لليلى أو إباحيّا ، قائما على المجون و اللهو يستبيح فيه الشّهوات الجنسيّة بكلّ ألوانـــها و أشكالها ؟تصغير|ريحانةفي أمسية من أمسيات شهر ماي القائظة ، كلّف السيّد حسين ابنته شيماء البالغة من العمر تسع سنوات باقتناء ما ذكره من مشتريات بقلمه الجافّ الأزرق على ورقة بيضاء اجتثّها من كرّاسة مسودّات ملقاة فوق مكتبها الأنيق ذي الغطاء المزدان بأنواع شتّى من الزّهور و الطّيور.
انصاعت هذه البنيّة لطلب والدها عن طيبة خاطر فولّت وجهــها شطــــــر حانوت مجاور لمقهى القرية غير بعيد عن الشّاطئ و هي تــــــــارة تهـــــــرول و طورا تتمهّل مترنّحة في مشيتها نشوانة ، منتشية بأناشيد عذبة و بأشعار خالدة باح بها صوتها الرّخيم ، الشّجيّ فهي هزار غريّد يودّع ربيعا فتّانا ذبلت أزهاره و رياحينه و التوت أعناقها و تهاوت على أديم الأرض مسلّمة بفنائها .
ما إن ولجت شيماء المتجر العاجّ بالزّبائن حتّى حيّت التّاجر نجيبا تحيّة رقيقة و على شفتيها ابتسامة ورود عطرة و في بريق عينيها العسليّتيـــن طفولــــة حالمـــــــــة. هالـــــــــها امتداد الصّــــفّ و أشفقت على نفسها من طول الانتظار فحاولت أن تندسّ خلسة في أوّله دون أن يهتدي إليها أحد . آنذاك حدجها الحرفاء بنظرات استنكار و همّوا بالاحتجاج عليها احتجاجا صارخا فرقّ لحالها شيخ وقور ذو شاشيّة قرمزيّة و لحية حصيرة ، بيضاء فجذبها في ليـن و تؤدة من يدها اليمنى و أوقفها حيث انتهى الصّـــفّ و هو يهمس إليها في حبور و انشراح :« يا أيّتها الفتاة المهذّبة ، انتظري دورك في جلد فالصّبر مفتاح الفرج » . لم تنبس شيماء ببنت شفة و خيّرت السّكوت على الكـــــــــــلام و السّكوت عند الكثيرين هو علامة من علامات الرّضاء و عند هذه الفتاة علامة من علامات الخجل و الوجل.
استجابت لأوامر الشّيخ عن مضض و قد احمرّ وجهها المستدير و تفصّد جبينها عرقا فمسحته براحة يدها اليمنى البضّة النّاعمة . إنّها وقفت في نهاية الصّفّ في إذعان و بقيت تنتظر دورها في قلق شديد فهي تمقت الوقوف لعدّة دقائق متسمّرة في مكانها دون أن تمارس نشاطا يتلاءم مع حيويّتها المتّقــــــدة و ميولها المتعدّدة كالتسلّي بدميتها العجيبة أو مطالعة قصّة طريفة و التّفنّن في تلخيصها أو نثر الشعير و القمح لدجاجاتــها الجميلة و ديكها المزدان داخل قفص كبير أقيم في إحدى زوايا الحديقة قرب نخلة باسقة و شجرة توت عملاقة .
تلهّت بالنّظر إلى الزّبائن بعد أن جالت ببصرها في أرجاء الدّكّان فأَلِفَتْ البضائع مرصّفة على الرفوف ترصيفا فريدا من نوعه ، و في واجهـــة بلّورية قرب المدخـــــل تمّ حفظ الصّابون المعطّر و قٍنٍّينَاتٍ الطّيــــــب و مراهم معجون الأسنان و أدوات الحلاقة و التّجميل . كان بعض الحرفاء يتأفّفون من شدّة الحرّ و يتذمّرون من ضيـــــاع الوقت في الوقوف المملّ و كان بعضهم يُزْجُونَ الوقت في الحديث و المزاح و القهقهات أمّا بعضهم الآخر فكانوا يتابعـــــــــون حركات التّاجر المتّزنة في انبهار فهو حينا يزن السّكّــــــــــر و الشّاي و السّميد على ميزان أوتوماتيكـيّ و حينا ينشر البضائع في غير نظام على المصرف و حينا آخر يضبط ثمنها مستعينا بآلة حاسبة من صنع يابانيّ . مشهد آخر لفت انتباه شيماء فبقيت مشدودة إليه دون أن يحيد بصرها عنه قيد أنملة . الحريفة الّتي قدّامها هي فتاة آية في الحسن و الجمال ، فارعة القامة ، شقراء ، حديثة عهد بهذه القرية المتاخمة للبحر. كانت ترفل في ثوب رقيق شفّاف لم يستر جيّدا نهديها المهتزّيـــــــــن و فخذيها الأبيضين الأملدين . ها هي تسحب من حافظة نقودها البنيّة مقدارا من المــــال و تنقد التّاجر نجيبـــــــا و هي تعبّر له عن ارتياحها لخدماته من خلال كلامها المقتضـــب و ضحكاتها النيّرة كإشراقة الصّبح إذا تنفّس : « شكرا جزيلا يا سيّدي » ثمّ انبرت ترصّف ما ابتاعته من موادّ غذائيّة في سلّة من سعف النّخيل فانسدل شعرها الذّهبيّ ، السّبط على ركبتيهــا و سافر في كلّ أنحاء الدّنيا عبقا ، متموّجا متناغما مع انحنائها و خفّة روحها.
تلهّى نجيب بإيداع النّقود في صحاف معدنيّة بالدّرج حسب قيمتها و هو يزمّ شفتيه دهشة و يداري غمزة ساحرة كادت تنحرف به عن وقاره مائــــــــة و ثمانين درجــة و ترحل به إلى عالم الرّومانسيّة أو بالأحرى إلى عالم الهيام بعيدا عن الحصار داخل دكّانه بين أربعة جدران من الحجارة الكلسيّـــة و بعيدا عن الحرمان الّذي يصهد روحه بنار شديدة اللّظــــــــــــى فهو في الخامســـــة و العشرين من عمــــره و مازال لم يملك نصف دينه فحتّى حديثه مع الفتيات وجها لوجه أو جنبا لجنب كان نادرا و لا يتمّ إلاّ في الأعياد و الأعراس و كذلك في البحر أثناء السّباحة أو الامتداد على رمال الشّاطئ الصّفراء التماسا للرّاحــــــــة و الاستجمام .
يا حسرتاه على زمن الدّراسة في التعليم الابتدائيّ عندما كان تلميذا في السّنة السّادسة يجلس في نفس المقعد بجانب فتاة جميلــــــة و يتبادل معها الحديث الممتع و الضّحكات الرّنّانة الصّاخبة فينهرهما المعلّـــــــــم و يدعوهما في لين إلى الهدوء و الانتباه ! لن ينسى على الإطلاق عبثه الصّبيانيّ معها فهو دوما ينحيّن غفلة معلّمه عند الكتابة على السّبّورة بالطّباشير الأبيض و الملوّن فيقرص فخذيها قرصا خفيفا و هي كانت لا تصدّه عن ذلك بل تبارك هذا الصّنيع و قد صفّق قلبها بهجة و طربا بين ضلوعها ثمّ لا تتوانى في ضمّ يدها إلى يده في تستّر و انتشــــــاء و تلذّذ و كأنّها تطلب المزيد مــــــــن القرص و الإثارة .
اكتنفت نجيبا كآبة لم يعش مثيلا لها من قبل فكأنّ أفعوانا ينهش قلبــــــــــه و يشلّ حركته : في العينين ضباب كثيف و في الحنجرة أنّات خافتة و في الصّدر ضيق من هذا العالم الغريب و حنق عليه و تبرّم منه فهل يعقل أن لا يجد رأسه المرهق متّكأ وثيرا يستند إليه فينسى آلام الحياة و متاعبها ؟
سرعان ما خلّصت شيماء التّاجر الشّابّ من شروده بقولها المعسول الرّاجـــــــح و هي ترمقه بنظرات حادة انسلّت برّاقة من عينيها النّجلاوين انسلال السّيف من غمده :
- « هيّا يا سيّدي الفاضل عجّل بقضاء حواجنا قبل أن يحين غروب الشّمــــس و كفاك بهتة »
- « حاضر و بكلّ سرور أيّتها الفتاة القمحيّة البشرة »
بعد ذهول ملفت للنّظر ، انبرى نجيب في عمله مضاعفا مجهوداته ، قاهرا صراعه الدّاخليّ إلى حين إذ لا بدّ من أن يكون متّزنا في سلوكياته ، يلبّي طلبات زبائنه في هشاشة و بشاشة و لا يستسلم إلى أهوائه فهي يمكن أن تغرقه في غيابات جبّ ليس لها آخر و تلك هي الطّامة الكبرى .
ها قد جاء دور صاحبة البشرة السّمراء و القامة الهيفاء فتنفّست الصّعداء و طفح وجهها المستدير بشرا بعد تغيّمه و اكفهراره . ما إن سلّمت شيماء التّاجر نجيبا قارورة بلّوريّة فارغـــــة و قائمة المشتريــــــــات و قطعة نقديّة من فئة خمسة دنانير حتّى مكّنها في وقت وجيز جدّا من المشروبات الغازيّة و علبة بسكويت و قطع من الحلوى و أصابع من الشوكولاتة و لفّ لها الباقي في قرطاس رماديّ ، متين حتّى لا تضيّعه في الطّريق . أثنت عليه ثناء عطـــــــرا و ودّعته بما هو له أهل من التّوديـــــــع و هي طلقة المحيّا تداعب ضفيرتين من شعرها الخرّوبيّ متدلّيتين على صدرها ثمّ أطلقت ساقيها للرّيح قبل أن يباغتها الظّلام فربّة البهاء قد عانقــــت الأفق غربــــــــا و وشّحته بقرص كبير أحمر يتدرّج بخطوات وئيدة نحو الأفول معلنا الغروب و للغروب رونق خاصّ في جزيرة الأحلام .
أثناء السّير بخطى حثيثة على الطّريق الرّمليّ المؤدّي إلى المنزل ، تعثّرت بحجارة صلبة ففقدت توازنها دون أن تسقط على الأرض لكنّ قارورة المشروبات الغازيّة هوت و ارتطمت ارتطاما هائلا بحصى مذبّب فتهشّمت محدثة صوتا كتوما و مخلّفة فتاتا من البلّور كفتات الخبز تناثرت هنا و هنالك و توارت في التراب بكيفيّة يستعصي فيها جمع شتاتها و تخلّص الأرجل الحافية من وخزها الدّامي .
واصلت هذه الفتاة الوديعة طريقها قبل أن يدركها الظّـــــــلام و هي زائغة العينين ، مرتجفة الأوصال ، مستكة الأسنان تحادث نفسها حديثا باطنيّا كتمته في صدرها دون أن تسمح لحنجرتها الملتهبة و لشفتيها القاحلتيــن للإدلاء بــــه : « دفع الله ما كان أعظم و اللّعنة إلى يوم الدّين على كلّ من حرمنا من تعبيد هذا الطريق هذا الشريان الحيويّ في الجزيرة . كيف سيعاملني أبي ؟ فهل سيكون متسامحا معي أو كعادته ذا طبع جافّ تبصر في وجه الفظاظة و الغلاظة و في عينيه تطاير الشّرر ؟» .
تسلّلت شيماء إلى المنزل خفية متستّرة بخيوط الظلام الفاترة ، تمشـي و قد أثقل الذّعر ممشاها على أطراف قدميها حتّى لا يهتدي إليها أبوها . كان حظّها منكودا و متعثّرا إلى أبعد الحدود فها هو كالطّود الأشمّ بقامته المديدة يسدّ منافذ الهرب أمامها فلا عاصم لها اليوم إلاّ رحمة الله أو ذود أمّها عنها إن تجرّأت على مواجهته و هو في صولة غضبه متحمّلة عربدته و شتمه و إهانتــه و من يدريك أن لا يتورّع عن ركلها و ضربها ضربا مبرّحا ، موجعا .
على حيــن غرّة ، صفعها على خدّها صفعة شديدة طرحتها أرضا ثمّ دهسها بقدميه الحافتين الخشنتين و هو يقول في غلظة و قد انطلقت الشّتائم من فمه انطلاق القذائف من المدفع :
- « أين كنت يا ابنة الكلب ؟ لماذا لم تعودي بسرعة من الدّكّان يا أيّتها البلهاء ، يا أيّتها الحمقاء ، يا أيّتها الحقيرة ؟»
- « أنت دوما تتعسّف عليّ دون أن أكون مذنبة . تأكّد من صدقي إن أجزمت لك أنّني لم أهدر الوقت هذا العشيّ في اللعب .كلّ ما في الأمر أنّ الدّكّان مزدحم فبقيت أنتظر دوري متحلّية بالصّبر و سعة البال »
لمّا أصغت الزّوجة إلى صراخ بعلها الحادّ هرعت إلي فناء المنزل كي تخلّص قرّة عينها من بطشه و تجبّره و هي تقول بصوت عال ، متهدّج اعترته غمغمة مبهمة و شابته صرخة مدويّة :
- « كن ليّنا و لا تعامل ابنتنا الوحيدة بقسوة حتّى لا تشبّ معقّدة ، نافرة من الحياة ».
- « عليها أن لا تشقّ عصا الطّاعة و أن لا تتمرّد عليّ مخالفة أوامري »
- « أمرا و طاعة يا حضرة الملك فما عليك إلاّ أن تعفو عنها متحاشيا دعسها فروحها كروح الذّبابة » .
- « بكلّ صراحة الجعة أذهبت عقلي و أفقدتني صوابي فتشنّعت أعصابي و قسا قلبي على ملاكي الطّاهر »
- « ثب إلى رشدك و اصح من سكرك و كن رصينا مع ابنتك فهل يعقل طرحها أرضا و رفسها غيظا و انتقاما ؟ اعلم علم اليقين أنّ العقاب اللّفظي و العقاب البدنيّ للأطفال يعاقب عليهما القانون ثمّ أنا واثقة من أنّها لم ترتكب أيّ هفوة »
- « ما أشدّ انفعالي و ما أفظع معاملتي لفلذة كبدي ! لا بدّ من أن أتوخّى اللّيـــــــن و اللّطف و الحوار كأساليب ناجعة في تربيتها حتّى أساهم في نحت شخصيّتها و استقرار توازنها العاطفيّ و الوجدانيّ .
استوت شيماء واقفة و هي تئنّ أنينا مسترسلا تنفطر له القلوب الرّحيمة فكفكف أبوها دموعها المنهمرة و ضمّها إلى صدره ضمّا رقيقا ثم أكبّ على وجهها المتهلّل يقبّله من كلّ الجهات قائلا عند كلّ قبلة : « دعيني أقبّلك قبلة أخـرى »
ما أجمل العفو عند المقدرة ! و ما أروع التفاهم و الوئام داخل الأسرة ! إنّ التّربية لن تكون مجدية إلاّ بالحوار البنّاء و النّقد الوجيه و معالجة الهفوات بعقل حصيف ، نيّر و صدر رحب بعيدا عن التّشنّج و الأحقاد و الضّغائن .
صفت نفس شيماء بعد تكدّرها و عاد إلى وجهها إشراقه و سروره و إلى عينيها ألقهما و إلى قلبها اطمئنانه فقالت لأبيها في منتهى العفويّة و قد انبلجت ابتسامة غرّاء على ثغرها :
- « عذرا يا والدي فقارورة المشروبات الغازيّة قد تهشّمت عن غير قصد
و استحالت حطاما فهل بإمكانك أن تعفو عنّي و تبتاع قارورة ثانية ؟ » .
- « عفا الله عمّا سلف و بداية من هذا الآن لن يطالك لساني بالسّبّ و لن تطالك يداي بالصفع و لا قدماي بالرّكل و الدّوس . من جديد المعذرة عمّا صدر منّي من عنف و قسوة و ما ذلك إلاّ سحابة صيف عابرة تقّشعت بعجالة فور انجلاء غضبي »
- « نحن في حاجة إلى مشروبات غازيّة باردة نخفّف بها من وطأة الحرّ و نجدّد بها أفراحنا »
- « على الرّحب و السّعة فأنا سآتيك بها قبل أن يرتدّ إليك طرفك »
استبشرت شيماء بمزاح أبيها فرقصت طربا و جذلا ثمّ دعت الله سرّا مخلصة النيّة و هي ترنو إلى السّماء المرصّعة بالنّجوم البراقة و من خلالها إلى خالق هذا الكون الرّحيب :
- « يا إلاهي يا مجيب الدّعوات تب على والدي حتّى يقلع عن معاقرة الخمرة فهي شنّجت أعصابه و أفقدته توازنه و كادت تتلف عقله . كم وددت أن لا يقبّلنـــــــي و لو قبلة واحدة لأنّ الخمرة خلّفت في فمه روائح كريهة لا تطاق !» أثناء السّمر ، أبحر نجيب في الفيس بوك هذا العالم الافتراضي السّاحر بواسطة هاتفه الجوّال فتواصل من شدّة الكبت و الحرمان مع العديد من الفتيـات و هو آنا يترشّف قهوته السّوداء و آونة يجذب أنفاسا عميقة من سيجارته ثم ينفخ دخانا قاتما من فمه الواسع فتنكشف أسنانه الصّفراء من آثر الإدمان على التّدخين . كان يعاكس هذه الفتاة بوقاحــــة و قلّة أدب ، و يحظر تلك ساخطا عليها لأنّها كانت تقرأ رسائله القصيرة و لا تردّ عليها و لو بملصق أو إشــارة ، و يغازل أخرى أعجبته صورتها بكلام معسول غاية في الرقّة و هو يقهقه ملء شدقيه مستهترا بالقيم ، ناسيا أنّه ليس بمفرده فبجانبه أفراد عائلته يتابعون في صمت مطبق مسلسلا تركيّا مدبلجا باللّهجة التّونسيّة . و عندما انتصف اللّيل ودّع أفراد أسرته بكلام خافت ، جميل : « نوم هنــــــــــيء و أحلام لذيذة للجميع » ثمّ أوى إلى فراشه و هو يتثاءب تثاؤبا مؤذيا رافقته دموع شحيحـــــة و احمرار طفيف في العينين .
امتدّ نجيب على سريره الوثير وحيدا في غرفته الصّامتة ، الدّامســـــــــة و أغمض عينيه دون أن تكحّلهما و لو سنة من النّوم بالرّغم من شدّة التّعب . تضوّر على فراشه ذات اليمين و ذات الشّمال و هو متأجّج المشاعر ، قد برّحت به حمّى الوجد فغرق في بركة من الأرق و العرق . لقد حامت في ذهنه عدّة أوهام ثائرة ثورة البراكين ، راتعة في خياله الخصب رتعان الخيول في البراري دون أن تكون له قدرة على كبح جماحها أو صدّها . ها هي ريحانة الّتي أنبتتها في سبيله أنامل الوجود تتأمّله بدقّة من قمّة رأسه إلى أخمص قدمه ثمّ تستدرجه في أريحيّة كبيرة و نشوة عارمة للاختلاء بها موظّفة في ذلك وجهها الضّحوك و إشارات يدها السّاحرة. كانت إيماءاتها تنمّ عن ذوق كبيــــر و إحساس عميق ، طاهر . و باستطاعته أن يجزم دون أيّ مجال للرّيبة بأنّها إيماءات عشيقة مسالمة تتقبّل الجروح من غيرها و لا تجرح أحدا . ضمّها إلى صدره بعنف لا يكاد يحتمل و هو برشف من شفتيها العسليّتين قبلا مسكرة مستلذّا شهد رضابها و منتشيا برحيق الحياة الكامن فيها . كانت قبلاته لهـــــــــــــا و قبلاتها له تعادل خطّ الاستواء بحرارتها و وهجها » .
من دوّامة أنفاس مختلطة همست في أذنه همسا كهمس السّوقي عذوبة و رقّة و خفرا :
- « انتبه يا حبيبي فأنت قد غوتك الشّهوات فبدأت تستسلم لها ! لتكن مشاعرك طاهرة و عفّتك أقوى من مراودتك و مغازلتك . » .
- « إنّك تثيريني حتّى الجنون . اسمحي لي أن ألثم خدّك المتورّد حتّى أرتوي من نبيذك فأنا متعطّش لجحيم من القبل و أنا بين أحضانك الدّافئة »
و تمضي أنامله المرتعشة تداعب و تتلمّس جيدها و نهديها و خصرها و كلّ مكان مثير في جسدها شبه العاري إذ لا يغطّيهما إلاّ لحاف أبيض . و أمام إصراره على ارتكاب الخطيئة كاد زمام نفسه الهشّة يفلت من يده لولا توسّلات ريحانة المتتاليـــــــة :
- « آه منك أيّها العربيد قد أسكرك الحبّ و كدت تدنّس شرفي الّذي هو تاج أنوثتي و أصالتي . لو لم أفكّر في طهري باتّخاذ مسافة الأمان بينا و عدم الانسياق مع عاطفتي إلى أبعد الحدود لوجدت نفسي في حال لا أحسد عليها مفتضّة البكارة ، في الدّرك الأسفل من الرّذيلة لا فرق بيني و بين البهائم ».
- « أنا شابّ ساقط ، حقير ، دنيء ، عبد لنزواتي و ملذّاتي و أنت ملاك طاهر غاية في النّقاء و العفّة ».
- « أنت أيضا عفيف و لن أحاسبك على الانفجار الشّديد لمشاعرك و انفعالاتك فهو ناجم عن الكبت الّذي كنت تعيشه في داخلك دون أن يجد متنفّسا يخفّف من وطأته » .
- « ما آمله هو أن أكون دوما محلّ ثقتك »
- « إذا أردت أن أكون صديقة حميمة لك لا تحاول اغتصابي و حملي على تعزية نفسي و بئس العزاء : ما أنا بالأولى و لا بالأخيرة »
- « أين اختفيت يا ريحانة ؟ مالي لا ألمح و لو بصيصا منك ؟ هل صرت ضريرا أم أنّك هاجرت إلى وطن آخر ساد فيه الأمن و الاطمئنان و لم يستشر فيه الفساد ؟ »
منذ تلك اللّيلة ، دأب نجيب على تنقبه نفسه و تطهيرها قدر المستطــــــــاع و رفعها من حمأة الرّذيلة الّتي كانت تتخبّط فيها . إنّه يحاول أن يكون كائنا جديدا لا يكون حبّه من جانب واحد في لحظة طيش و غباء بل يجب أن يكون حبّا مشتركا بين حبيب و حبيبته مبنيّا على العفّة و الوفاء و نقاء الصّرائر و صفاء القلوب .
أن الأوان أن يتخلّص بصورة نهائيّة من العـــــادات السّخيفة و التّقاليد البالية الّتي كانت تكبّله و تحدّ من حريته و تفتّحه على العالم الّذي صار قرية صغيرة بفضل الشّبكة العنكبوتيّة و الأقمار الصّناعيّة . مازال يخدش سمعــــــه المرهف و يعذّب روحه المتمرّدة مثل شعبيّ جربيّ هو غاية في السّفالــــــــــــة و الحقـــــــارة و الانغلاق على الذّات و التّقوقـع و قمّة في الطّاعة العمياء : « ملّس من طينك يفضلّك » . هذا هو المثل الّذي كانت تزوّده به والدته العزيزة و هو في سنّ المراهقة معتقدة أنّه من خيرة الأقوال المأثورة إذ لا مجال للطّعن فيـــه أو المساس من قدسيّته حتّى تتواصل المحافظة على صفاء المجتمع الجّربيّ و نقاوته . « ثقي يا أمّي من أنّني لا أومن بالأمثال الشّعبيّة الزّائفة فهي كخيوط العنكبوت الواهية و كالهباء المنثور في مهبّ الإعصار و كالزّبد الّذي يذهب جفاء . هذه التّرّهات السّخيفة ضلّلت الكثيريــــن و نأت بهم عن سبل الرّشاد فأعمت بصائرهم و بلّدت أذهانهم و بلبلت أفكارهــــــــــــــــــم و خبطت بهم خبط عشواء على غير هدى و لا رويّة في دياجير الجهالـــــــــة و الضّلالة فاستقرّوا في هوّة سحيقة أشدّ ظلمة و وحشة .من ظلمات القبور . أتوسّل إليك أن لا تؤاخذيني يا أمّي و لا تقسي عليّ إن لم أتزوّج بابنة عمّي الّتي تسمّيت عليها في عهد الطفولة فأنا أحبّها كما أحبّ أختــــــي و ليس لي أيّ ميل عاطفي نحوها . هل أنا عاقّ لمّا لا أومن إيمان العجائز ببعـــض العادات و التقاليد و كنت ممّن يحكّمون عقولهم فيها مسترشدين بدهائهم و دينهـــــــــــم و ثقافتهم الواسعة ؟ أنا سأتزوّج من فتاة عفيفة تبحر بي الى عالم العشق والغرام و تبادلني حبّا بحبّ منسجمة مع طباعي و لا يهمّني إن كانت جربيّة أو غير جربيّة فحتّى و إن كانت من كوكب المرّيخ فمرحبا بها . المهمّ بالنّسبة لي هو أن تكون مقبولة الجمال ، كريمة الخلق ، أصيلة النّسب ، هادئة الطّبع تواسيني في السّرّاء و الضّــــــــــــرّاء و تكتـــــم أسراري و تصبر على زلاّتــــــي و تناضل معي جنبا إلى جنب من أجل عيش كريم و حياة فاضلة آمنــة داخل أسرة متماسكة كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضا. . فيما يخصّ اللباس القصير الصبّييا أمّي الحنون لا تشغلي بالك فأنا سأقنع ريحانة فتاة أحلامي بارتداء لباس محترم يستر مفاتنهــا و يحجب عنها أطماع أصحاب الشّهوات الّذين لا يغضّون أبصارهم و يستوي عندهم الحـــلال و الحرام و كذلك الفضيلــــــــة و الرّذيلة » .
و مع تباشير الفجر الضّحوك تسلّلت من النّافذة نسائم عليلــــــــــة و أنوار باهتة كسرت أغلال الظّلام فانتعش نجيب بالرّغم من الأرق الّذي أصابه و سكنت جراحه و تبدّدت شجونه و سُيِّرَت جبال همومه فكانت سرابا فطفق ينشد أبياتا شعريّة تنبض إلهاما وهياما و عشقا لشاعر جزيرة جربة نور الدّين فارس :
يَا ذات عَيْنَيْـــنِ زَرْقَاوَيـْـنِ بسمتها
هَلَّتْ لِتُؤْنِسَ لِي قَلْبًـا وَ وِجْدَانَـــــا
كَمْ كُنْتُ بَيْنَ ثَنَايَا الْغَيْمِ أَرْصُدُهَــا
حِينًا وَ عِنْدَ اكْتِمَالِ الْبَدْرِ أَحْيَانَــا
هَلْ مِنْ بَدٍ مِنْكِ قَدْ تَمْتَدُّ نَحْوَ يَدِي
إِنِّـــي تَرَقَّبْتُهَـــا دَهْرًا وَ أَزْمَانَـــا
وَ لَيْسَ عندي سوى عينيك بَارِقَـــةً
فِي عُنْفِ لَيْلِ اغْتِرَابِ زَادَ طـُغْيَانَا
كُونِي على نفس موجات الهُيَامِ مَعِي
أَنَّى وَطِئْتُ مَطَارَاتِ و َأَوْطَانَا
مَهْمَا النَّوَى بَيْنَنَا جَنّتْ دَيَاجِــــرُهُ
لَا بُدَ تَبْتَهِـــــجُ الدُّنْيَــــــا بِلـُقْيَانَــا
من الأدب الرّوسي
عدلالصّبيّ الشّرير
عدلهبط إيفان إيفانيتش لابكين، الشاب اللطيف الهيئة وأنا سيميونوفنا زامبليسكايا، الشابة ذات الأنف الصغير المقعي، على الشاطئ المنحدر، وجلسا على أريكة . وكانت هذه الأريكة تقوم قرب الماء تماما، وسط خمائل الصفصاف اليافعة الكثيفة . مكان ساحر ! ما إن تجلس هنا حتى تختفي عن العالم، فلا تراك إلا الأسماك والعناكب المائية الراكضة كالبرق فوق صفحة المياه . وكان الشاب والشابة مزودين بالسنانير والشباك وعلب ديدان الطعم وغيرها من أدوات الصيد . وما إن جلسا حتى شرعا على الفور في صيد السمك . وبدأ لابكين يقول وهو يتلفت : - كم أنا سعيد بأننا أخيرا أصبحنا وحدنا..أريد ان أقول لك الكثير يا آنا سيميونوفنا..الكثير جدا..عندما رأيتك أول مرة..سنارتك تغمز..أدركت عندها لأري غرض أحيا، أدركت أين معبودي الذي ينبغي أن أكرس له كل حياتي الكادحة الشريفة .. يبدو أنها سمكة كبيرة تغمز .. ما إن رأيتك حتى أحببتك، لأول مرة، أحببتك حبا جارفا ! انتظري لا تجذبي، دعيها تغمز.. خبريني يا عزيزتي، استحلفك، هل أستطيع أن آمل – لا بأن تبادليني الحب، كلا فأنا لا استحق، أنا حتى لا أجرؤ على التفكير في ذلك، هل أستطيع أن أطمع في...اسحبي!
رفعت آنا سيميونوفنا يدها عاليا بالسنارة وشدتها وصرخت . ولمعت في الهواء سمكة فضية خضراء . - يا إلهي ، فرخ ! آي ، آه .. أسرع ! أفلتت ! أفلتت السمكة من السنارة، وتلوت على العشب قافزة نحو محيطها و .. غاصت في الماء ! .
وبينما كان لابكين يطارد السمكة أمسك عفوا بذراع آنا سيميونوفيا بدلا من السمكة، عفوا ضمها إلى شفتيه ...وشدت هي ذراعها، ولكن بعد فوات الآوان : فقد انطبقت الشفتان عفوا في قبلة.
حدث ذلك عفوا . وتلت القبلة قبلة أخرى، ثم الإيمان والتأكيدات .. يا لها من لحظات سعيدة ! ولكن ليس هناك شيء سعيد بصورة مطلقة في هذه الحياة الدنيوية، فالشيء السعيد عادة يحمل في طياته السم، أو يسممه شيء ما خارجي . وهذا ما كان في هذه المرة أيضا . فبينما كان الشاب والشابة يتبادلان القبلات سمعا فجأة ضحكا . نظرا إلى النهر وأصابهما الذهول :
فقد كان هناك صبي يقف في الماء عاريا مغمورا حتى وسطه . كان ذاك هو التلميذ كوليا شقيق آنا سيميونوفنا، كان واقفا في الماء ينظر إلى الشاب والشابة وهو يبتسم بخبث، وقال : -أه .. تتبادلان القبل ؟ طيب ! سأقول لماما.
فدمدم لابكين وهو يتضرج بالحمرة .
- آمل بأنك إنسان شريف .. إن التلصص شيء وضيع، والوشاية شيء منحط، كريه .. أعتقد أنك إنسان شريف ونبيل.
فقال الإنسان النبيل : - هات روبلا وعندئذ لن أقول ! وإلا فسأقول.
وأخرج لابكين من جيبه روبلا وأعطاه لكوليا، وضم هذا قبضته المبللة على الروبل، وصفر ثم سبح مبتعدا.
ولم يعد العاشقان الشابان إلى تبادل القبلات بعد ذلك في هذا اليوم .
وفي اليوم التالي جلب لابكين أصباغا وكرة من المدينة لكوليا، وأهدته أخته كل علب الأدوية الفارغة التي كانت تمتلكها . ثم اضطرا إلى إهدائه أزرار أكمام قميص بوجوه كلاب . ويبدو أن هذا كله أعجب الصبي الشرير، ولكي يحصل على المزيد مضى يراقبهما . وأينما ذهب لابكين وآنا سيميونوفيا كان يذهب . ولم يتركها دقيقة واحدة .
وصر لابكين على أسنانه وقال : - وغد ! ما أصغره ومع ذلك فياله من وغد كبير !
- ترى كيف سيصبح فيما بعد ؟!
وطوال شهر يونيو نغص كوليا على العاشقين المسكينين حياتهما . كان يهددهما بالوشاية، ويراقبطالب بالهدايا. ولم يكن يكفيه ما يحصل عليه، وفي آخر الأمر بدأ يتحدث عن ساعة جيب .. فماذا ؟.. اضطرا أن يعداه بساعة .
وذات مرة ، أثناء الغداء عندما قدموا البسكوت المحشو بالحلوى قهقه كوليا فجأة وغمز بعينه وسأل لابكين : - أقول ؟ هه؟
واحمر لابكين بشدة؛ وبدلا من البسكوت راح يمضغ الفوطة، وهبت آمنا سيميونوفيا واقفة من أمام المائدة وركضت إلى غرفة أخرى .
وظل العاشقان في هذا الوضع حتى آخر أغسطس، حتى ذلك اليوم الذي طلب فيه لابكين، أخيرا، يد آنا سيميونوفنا .
أوه كم كان يوما سعيدا فبعد أن تحدث لابكين مع والدي العروس وحصل على موافقتهما، كان أول ما فعله أن انطلق إلى الحديقة ومضى يبحث عن كوليا، وعندما وجده كاد يبكي من الفرحة وأمسك بهذا الولد الشرير من أذنه . وجاءت آنا سيميونوفنا ركضا . فقد كانت هي الأخرى تبحث عن كوليا، وأمسكت بأذنه الثانية .. كان ينبغي أن تروا أية متعة ارتسمت على وجهي العاشقين عندما راح كوليا يبكي ويضرع إليهما : - يا أحبائي، يا أعزائي، لن أعود إلى ذلك . آي، آي، سامحاني .
وبعد ذلك اعترافا بأنهما لم يشعرا أبدا طوال فترة حبهما بمثل هذه السعادة، بمثل هذه المتعة الغامرة، التي أحسا بها عندما كانا يشدان أذني هذا الولد الشرير .
أنطون بافلوفيتش تشيكوف 1883
فــانـــــــــكــا
عدلفي ليلة عيد الميلاد لم ينم الصبي " فانكا جوكوف" ابن الأعوام التسعة والذي أعطوه منذ ثلاثة أشهر للاسكافي "الياخين" ليعمل صبياً لديه. وانتظر حتى انصرف أصحاب البيت والاسطوات إلي الصلاة فاخرج من صوان الاسكافي محبرة وقلماً بسن مصدي، وفرش أمامه ورقة مجعدة وراح يكتب. وقبل أن يخط أول حرف نظر إلي الباب والنوافذ بحذر، وتطلع بطرف عينه إلي الأيقونة الداكنة التي امتدت على جانبيها أرفف محملة بالنعال، وزفر زفيراً متقطعاً. كانت الورقة مبسوطة علي الأريكة، أما هو فقد جثا علي ركبتيه أمامها. وكتب:
" جدي العزيز " قسطنطين مكاريتش" ! أنا اكتب إليك خطاباً. أهنئكم بعيد الميلاد وأرجو لك من الله كل الخير. أنا ليس لدي أب أو أم، ولم يبق لي غيرك وحدك".
وحول " فانكا" بصره إلي النافذة المظلمة التي عكست ضوء شمعته المتذبذب، وتخيل بوضوح جده " قسطنطين مكاريتش" الذي يعمل حارساً ليلياً لدي السادة لدي " آل جيفارف ". و هو عجوز صغير نحيل إلا انه خفيف الحركة بصورة غير عادية، في حوالي الخامسة والستين، ذو وجه باسم دائماً وعينين ثملتين. كان نهاراً ينام في مطبخ الخدم أو يثرثر مع الطاهيات، أما في الليل فيطوف حول بيت السادة متدثراً بمعطف فضفاض من جلد الحمل ويدق علي صفيحة. ومن خلفه يسير مطأطأ الرأسين مع الكلبة العجوز "كاشتانكا" والكلب "فيون" الذي سمي هكذا للونه الأسود وجسده الطويل كالنمس.
كان هذا الـ " فيون " مهذباً ورقيقاً بصورة غير عادية، وكان ينظر بنفس الدرجة من التأثر سواء لأصحابه أم للغرباء، ولكنه لم يكن يحظى بالثقة. كان يخفي تحت تهذيبه واستكانته خبثاً غادراً إلي أقصي حد. فلم يكن هناك من هو أحسن منه في التلصص في الوقت المناسب ليعض الساق، أو التسلل إلي المخزن، أو سرقة دجاجة من بيت فلاح. وقد حطموا له ساقيه الخلفيتين غير مرة، وعلقوه مرتين، وكانوا يضربونه كل أسبوع حتى الموت، ولكنه كان يبعث من جديد.
وربما يقف الجد الآن أمام البوابة ويزر عينيه وهو يتطلع إلي نوافذ كنيسة القرية الساطعة الحمرة، ويثرثر مع الخدم وهو يدق الأرض بحذائه اللباد. والصفيحة التي يدق عليها معلقة إلي خصره،. ويشيح بيديه ثم يتململ من البرد، ويضحك ضحكة عجوز ويقرص الخادم تارة والطاهية تارة أخري.
ويقول وهو يقدم للفلاحات كيس تبغه:
- ألا ترغبن في استنشاق التبغ؟
وتستنشق الفلاحات ويعطسن، ويستولي علي الجد إعجاب لا يوصف ويقهقه بمرح ويصيح:
- بقوة و إلا لزقت!
ويقدمون التبغ للكلاب لتشمه. وتعطس "كاشتانكا" و تلوي بوزها، وتبتعد مغضبة. أما " فيون" فلا يعطس تأدبا، بل يهز ذيله. والجو رائع. الهواء هادئ، وشفاف ومنعش.
والليل حالك ومع ذلك تلوح القرية كلها بأسقف منازلها البيضاء وأعمدة الدخان المنبعثة من المداخن، والأشجار وقد كساها الثلج ثوباً فضياً، وأكوام الثلج. والسماء كلها مرصعة بنجوم تتراقص بمرح، ويبدو درب التبانة واضحاً وكأنما غسلوه قبل العيد ودعكوه بالثلج.. وتنهد " فانكا" ، وغمس الريشة في الحبر ومضي يكتب:
" بالأمس ضربوني علقة، شدني المعلم من شعري إلي الحوش وضربني بقالب الأحذية لأني كنت أهز ابنه في المهد فنعست غصباً عني. وفي هذا الأسبوع أمرتني المعلمة أن أقشر فسيخة، فبدأت أقشرها من ذيلها، فشدت مني الفسيخة وأخذت تحك رأسها في وجهي. والاسطوات يسخرون مني ويرسلونني إلي الخمارة لشراء "الفودكا" ويأمرونني أن اسرق الخيار من بيت المعلم، والمعلم يضربني بكل ما يقع في يده. وليس هناك أي طعام، في الصباح يعطونني خبزاً، وفي الغداء عصيدة، وفي المساء أيضا خبزاً، أما الشاي أو الحساء فالسادة وحدهم يشربونه. ويأمرونني أن أنام في المدخل، وعندما يبكي ابنهم لا أنام أبداً وأهز المهد. يا جدي العزيز، اعمل معروفاً لله وخذني من هنا إلي البيت في القرية. لم اعد احتمل أبداً... أتوسل إليك وسوف اصلي لله دائماً، خذني من هنا و إلا سأموت..
وقلص " فانكا" شفتيه ومسح عينيه بقبضته السوداء وأجهش بالبكاء. ومضي يكتب: " سأطحن لك التبغ، واصلي لله، وإذا بدر مني شيء اضربني كما يُضرب الكلب. وإذا كنت تظن أنه ليس لي عمل فسأرجو الخولي بحق المسيح أن يأخذني ولو لتنظيف حذائه، أو أعمل راعياً بدلاً من " فيدكا" . يا جدي العزيز، لم اعد احتمل أبداً، لا شيء سوي الموت. أردت أن اهرب إلي القرية ماشياً ولكن ليس لدي حذاء واخشي الصقيع، وعندما أصبح كبيراً فسوف أطعمك مقابل هذا ولن اسمح لأحد أن يمسك، وإذا مت يا جدي فسأصلي من أجل روحك كما أصلي من أجل أمي " بيلاجيا". وموسكو مدينة كبيرة.. والبيوت كلها بيوت أكابر، والخيول كثيرة، وليس هناك غنم، والكلاب ليست شريرة. والأولاد في العيد لا يطوفون بالبيوت منشدين ولا يسمح لأحد بالذهاب للترتيل في الكنيسة. ومرة رأيت في أحد الدكاكين، في الشباك، صنانير تباع بخيوطها لصيد كل أنواع السمك، عظيمة جداً، بل وتوجد صنارة تتحمل قرموطاً وزنه "بوذ". ورأيت دكاكين فيها مختلف أنواع البنادق التي تشبه بنادق السادة، ويمكن الواحدة منها تساوي مائة روبل.. وفي دكاكين اللحوم يوجد دجاج الغابة وأرانب، ولكن الباعة لا يقولون أين يصطادونها. يا جدي العزيز، عندما يقيم السادة شجرة عيد الميلاد خذ لي جوزة مذهبة وخبئها في الصندوق. قل للآنسة " أولجا اجناتيفنا" أنها من أجل "فانكا".
وتنهد " فانكا" وسمر عينيه في النافذة من جديد. وتذكر أن جده كان دائماً يذهب للغابة لإحضار شجرة عيد الميلاد ويصحب معه حفيده. يا له من عهد سعيد! كان الجد يتنحنح والثلج يتنحنح و"فانكا" يتنحنح مثلهم. وكان يحدث أن الجد، قبل أن يقطع الشجرة، يجلس ليدخن الغليون، ويشم التبغ طويلاً وهو يضحك من "فانكا" المقرور.. وشجيرات عيد الميلاد الشابة تقف متلفعة بالثلج وساكنة وهي تنتظر أيها التي ستموت؟ وفجأة يمرق أرنب كالسهم عبر أكوام الثلج.. ولا يستطيع الجد أن يمسك نفسه عن الصياح:
- امسك، امسك.. امسك!
آه، يا شيطان يا ملعون، ثم يسحب الجد الشجرة المقطوعة إلي منزل السادة، حيث يشرعون في تزيينها.. وكانت الآنسة "اولجا اجتاتيفنا" التي يحبها "فانكا"، هي التي تشغله أكثر من الجميع، وعندما كانت أم "فانكا" "بيلاجيا" علي قيد الحياة كانت تعمل خادمة لدي السادة، كانت " اولجا اجتناتيفنا" تعطي " لفانكا " الحلوى، ولما لم يكن لديها ما تعمله فقد علمته القراءة والكتابة والعد حتى مئة، بل وحتى رقصة "الكادريل"، ولما ماتت" بيلاجيا"، أرسلوا "فانكا" اليتيم إلي جده في المطبخ مع الخدم، ومن المطبخ إلي موسكو عند الاسكافي "الياخين"...
ومضي فانكا يكتب: " احضر يا جدي العزيز، استحلفك بالمسيح الرب أن تأخذني من هنا. أشفق علي أنا اليتيم المسكين، لان الجميع يضربونني، وأنا جوعان جداً، ولا أستطيع أن أصف لك وحشتي، وابكي طول الوقت. ومن مدة ضربني المعلم بالنعل علي رأسي حتى وقعت ولم أفق إلا بالعافية. ما أضيع حياتي، أسوأ من حياة أي كلب.. تحياتي " لاليونا و "يجوركا الأحول" ، والحوذي، ولا تعط "الهارمونيكا" لأحد. حفيدك دائماً " ايفان جوكوف"، احضر يا جدي العزيز".
وطوي " فانكا" الورقة المكتوبة أربع مرات ووضعها في مظروف كان قد اشتراه من قبل " بكوبيك".. وفكر قليلاً ثم غمس الريشة وكتب العنوان:
إلي قرية جدي
وحك رأسه وفكر، ثم أضاف " قسطنطين مكاريتش". وارتدي غطاء الرأس وهو سعيد لأن أحداً لم يعطله عن الكتابة، ولم يضع المعطف علي كتفيه، بل انطلق إلي الخارج بالقميص فقط...
كان الباعة في دكان الجزار الذين سألهم من قبل قد اخبروه أن الرسائل تلقي في صناديق البريد، ومن الصناديق تنقل إلي جميع أنحاء الأرض علي عربات بريد بحوذية سكاري وأجرس رنانة.
وركض " فانكا" إلي أول صندوق بريد صادفه، ودس الرسالة الغالية في فتحة الصندوق.
وبعد ساعة كان يغط في نوم عميق وقد هدهدت الآمال الحلوة روحه.. وحلم بالفرن. كان جده جالساً علي الفرن مدلياً ساقيه العريانتين وهو يقرأ الرسالة للطاهيات.. وبجوار الفرن يسير " فيون " ويهز ذيله...
أنطون بافلوفيتش تشيكوف 1886
لمن أشكو كآبتي؟
عدلغسق المساء.. ندف الثلج الكبيرة الرطبة تدور بكسل حول مصابيح الشارع التي أضيئت لتوها، وتترسب طبقة رقيقة لينة على أسطح المنازل وظهور الخيل, وعلى الأكتاف والقبعات.. والحَوذي (ايونا بوتابوف) أبيض تماماً كالشبح.. انحنى متقوسا، بقدر ما يستطيع الجسد الحي أن يتقوس وهو جالس على المقعد بلا حراك.. ويبدو أنه لو سقط عليه كوم كامل من الثلج فربما ما وجد ضرورة لنفضه....... وفرسه أيضاً بيضاء تقف بلا حراك وتبدو بوقفتها الجامدة وعدم تناسق بدنها وقوائمها المستقيمة كالعصي حتى عن قرب أشبه بحصان الحلوى الرخيص، وهى على الأرجح مستغرقة في التفكير؛ فمن أُنتزع من المحراث من المشاهد الريفية المألوفة وأُلقي به هنا في هذه الدوامة المليئة بالأضواء الخرافية و الصخب المتواصل والناس الراكضين لا يمكن ألا أن يفكر.....
لم يتحرك ايونا وفرسه من مكانهما منذ وقت طويل. كانا قد خرجا من الدار قبل الغداء ولكنهما لم يستفتحا حتى الأن، وها هو ظلام المساء يهبط على المدينة، ويتراجع شحوب أضواء المصابيح مفسحا مكانه للالوان الحية, وتعلو ضوضاء الشارع .
ويسمع ايونا : يا حوذي! إلى فيبورجسكا ! يا حوذي!
يتنفض ايونا ويرى، من خلال رموشه المكللة بالثلج، رجلا عسكريا في معطفه بقلنسوة. ويردد العسكري : إلى فيبورجسكايا, ماذا هل أنت نائم؟ إلى فيبورجسكايا! ويشد أيونا اللجام؛ علامة الموافقة، فتتساقط إثر ذلك طبقات الثلج من على ظهر الفرس ومن على كتفيه.....ويجلس العسكري في الزحافة، ويطقطق الحوذي بشفتيه ويمد عنقه كالبجعة وينهض قليلا ويلوح بالسوط بحكم العادة اكثر مما هو بدافع الحاجة وتمد الفرس ايضاً عنقها, وتعوج سيقانها وتتحرك من مكانها بتردد..... وما إن يمضي ايونا بالزحافة حتى يسمع صيحات من الحشد المظلم المتحرك جيئة وذهاباً: إلى أين تندفع أيها الأحمق! أي شيطان ألقى بك؟ الزم يمينك! .. ويقول العسكري بانزعاج: أنت لاتجيد القيادة! الزم يمينك!
ويسبه حوذي عربة حنطور، ويحدق أحد المارة بغضب وكان يعبر الطريق فاصطدمت كتفه بعنق الفرس وينفض الثلج عن كمه، ويتملل ايونا فوق المقعد وكأنه جالس على جمر ويضرب بمرفقيه في كلا الجانبين ويدور بنظراته كالممسوس وكأنما لا يفهم أين هو ولماذا هو هنا.
ويسخر العسكري : يا لهم جميعا من أوغاد! كلهم يسعون إلى الاصطدام بك أو الوقوع تحت أرجل الفرس.. إنهم متآمرون ضدك.. يتطلع ايونا إلى الراكب ويحرك شفتيه....يبدو أنه يريد أن يقول شيئا ما ولكن لا يخرج من حلقه سو الفحيح.
فيسأله العسكري: ماذا؟
يلوي ايونا فمه بابتسامة ويوتر حنجرته ويفح :
- أنا يا سيدي.. هذا الأسبوع ..ابني مات .
- ممم!.. مات أذن؟
يستدير ايونا بجسده كله نحو الراكب ويقول:
- ومن يدري؟ .. يبدو أنها الحمى .. رقد في المستشفى ثلاثة أيام ومات... مشيئة الله.
ويتردد في الظلام:
- حاسب يا ملعون ! هل عَميت أيها الكلب العجوز؟ افتح عينيك!
ويقول الراكب:هيا, هيا سر، بهذه الطريقة لن نصل ولا غدا. عجّل! ويمد الحوذي عنقه من جديد، وينهض قليلا ويلوح بالسوط بحركة رشيقة متثاقلة، ويلتفت إلى الراكب عدة مرات ولكن الأخير كان قد أغمض عينيه ويبدو غير راغب في الإنصات. وبعد أن أنزله في فيبورجسكايا توقف عند إحدى الحانات، وانحني متقوسا وهو جالس على مقعد الحوذي, وجَمُد بلا حراك مرة أخرى.. ومن جديد يصبغه الثلج الرطب؛ هو وفرسه باللون الابيض، وتمر ساعة وأخرى.
على الرصيف يسير ثلاثة شبان وهم يطرقعون بأحذيتهم في صخب ويتبادلون السباب؛ اثنان منهم طويلان نحفيان والثالث قصير أحدب .. ويصيح الأحدب بصوت مرتعش:
- يا حوذي إلى جسر الشرطة! ثلاثة ركاب....بعشرين كوبيكا.
يشد ايونا اللجام ويطقطق بشفتيه ليست العشرون كوبيكا بسعر مناسب ولكنه في شغل عن السعر.... فسواء لديه روبل ام خمسة كوبيات...المهم أن يكون هناك ركاب...يقترب الشبان من الزحافة وهم يتدافعون بألفاظ نابية ويرتمي ثلاثتهم على المقعد دفعة واحدة. وتبدأ مناقشة حادة من الاثنين اللذين سيجلسان ومن الثالث الذي سيقف؟، وبعد سباب طويل ونزق وعتاب يصلون إلى حل : الأحدب هو الذي ينبغي أن يقف باعتباره الأصغر.. فيقول الأحدب بصوته المرتعش وهو يثبت أقدامه ويتنفس في قفا ايونا: هيا عجل! اضربها بالسوط! يا لها من قبعة لديك يا أخي! لن تجد في بطرسبرج كلها أسوأ منها.....
فيقهقه ايونا : هذا هو الموجود....
- اسمع أنت أيها الموجود عَجّل، هل تسير هكذا طول الطريق؟ ألا تريد صفعة على قفاك؟
ويقول أحد الطويلين: رأسي يكاد ينفجر؛ شربت بالأمس أنا وفاسكا عند آل دوكماسوف أربع زجاجات كونياك نحن الاثنين.. ويقول الطويل الأخر بغضب: لا أدري ما الداعي للكذب ! يكذب كالحيوان .
- عليّ اللعنة إن لم تكن حقيقة...
- إنها حقيقة مثلما هي حقيقة أن القملة تعسل.
فيضحك ايونا: هىء هىء هىء .. سادة ظرفاء .
ـ فلتخطفك الشياطين! هل ستعجل ايها الوباء العجوز أم لا!
ـ هل هذا سير؟ ناولها بالسوط ! هيا ايها الشيطان! هيا! ناولها جيدا !
ويحس ايونا خلف ظهره بجسد الأحدب المتململ ورعشة صوته ويسمع السبابا الموجه إليه ويرى الناس فيبدأ الشعور بالوحدة ينزاح عن صدره شيئا فشيئا. ويظل الأحدب يسب حتى يغص بسباب منتقى فاحش وينفجر في السعال. ويشرع الطويلان في الحديث عمن تدعى ناديجدا بتروفنا.
ويتطلع ايونا نحوهم وينتهز فرصة الصمت فيتطلع نحوهم ثانية ويدمم:
- اصلاً أنا..هذا الأسبوع..ابني مات!
فيتنهد الأحدب وهو يمسح شفتيه بعد السعال :
- كلنا سنموت..هيا عجل عجل.. يا سادة أنا لا يمكن أن أمضي بهذه الطريقة متى سيوصلنا؟
- حسنا فلتشجعه قليلا... في قفاه !
ـ هل سمعت ايها الوباء العجوز؟ سأكسر لك عنقك! التلطف مع جماعتكم معناه السير على الأقدام....هل تسمع ايها الثعبان الشرير؟ أم أنك تبصق على كلماتنا؟
ويسمع ايونا أكثر مما يحس بصوت الصفعة على قفاه.
فيضحك هىءهىءهىء سادة ظرفاء..... ربنا يعطيكم الصحة
ويسأل أحد الطويلين: يا حوذي هل أنت متزوج؟
- أنا .. هىءهىء.... سادة ظرفاء ! لم يعد لدي الأن إلا زوجة واحدة : الأرض الرطبة؛ أي القبر ! ..ها هو ابني قد مات وانا أعيش..... شيءغريب؛ الموت أخطأ بوابته..... بدلا من أن يأتيني ذهب إلى ابني ....
ويتلفت أيونا لكي يروي كيف مات ابنه ولكن الأحدب يتنهد بارتياح ويعلن أنهم أخيرا، والحمد لله، وصلوا.. ويحصل ايونا على العشرين كوبيكا، ويظل طويلا في أثر العابثين وهم يختفون في ظلام المدخل وها هو وحيد ثانية ومن جديد يشمله السكون.... والوحشة التي هدأت قليلا تعود تطبق على صدره بأقوى مما كان وتدور عينا ايونا بقلق وعذاب على الجموع المهرولة على جانبي الشارع : ألن يجد في هذه الآلاف واحدا يصغي إليه ؟
.. ولكن الجموع تُسرع دون أن تلاحظه أو تلاحظ وحشته؛ وحشة هائلة لا حدود لها.. لو أن صدر ايونا انفجر وسالت منه الوحشة فربما أغرقت الدنيا كلها، ومع ذلك لا أحد يراها.
لقد استطاعت أن تختبئ في صَدفة ضئيلة؛ فلن تُرى حتى في وَضَح النهار.......
يلمح ايونا بوابا يحمل قرطاسا فينوي أن يتحدث إليه ويساله : كم الساعة الآن يا ولدي؟
- التاسعة.. لماذا تقف هنا .. امشِ.
يتحرك عدة أمتار ثم ينحني متقوسا ويستسلم للوحشة.... ويرى أنه لا فائدة بعد من مخاطبة الناس ولكن ما إن تمر بضع دقائق حتى يتعدل وينفض رأسه كأنما أحس بوخزة ألم حادة ويشد اللجام ... لم يعد قادرا على التحمل.
ويخاطب نفسه : إلى البيت .. إلى البيت
وكأنما فهمت الفرس أفكاره فتبدأ في الركض بحماس، وبعد حوالي ساعة ونصف يكون ايونا جالسا بجوار فرن كبير قذر، وفوق الفرن وعلى الأرض وعلى الأرائك يتمدد أناس يشخرون، والجو مكتوم خانق.... يتطلع ايونا إلى النائمين، ويحك جلده ويأسف لعودته المبكرة إلى البيت ويقول لنفسه : لم أكسب حتى حق الشعير ولهذا أشعر بالوحشة، الرجل الذي يعرف عمله، الشابع هو وفرسه؛ دائما مطمئن البال..
في أحد الزوايا ينهض حوذي شاب، ويكح بصوت ناعس ويمد يديه إلى الدلو.. فيسأله ايونا:
- أتريد أن تشرب؟
- كما ترى .
- بالهناء والشفاء... أما أنا يا أخي فقد مات ابني هل سمعت؟ هذا الأسبوع في المستشفى...... حكاية!
ويتطلع ايونا ليرى أي تأثير تركته كلماته ولكنه لا يرى شيئا؛ فقط تَغطًى الحَوذي الشاب حتى رأسه وغط في النوم، ويتنهد العجوز ويحك جلده....فمثلما رغب الحوذي الشاب في الشرب يرغب هو في الحديث.. عما قريب يمر أسبوع منذ أن مات ابنه، بينما لم يتمكن حتى الآن من الحديث عن ذلك مع أحد كما يجب......... ضروري أن يتحدث بوضوح على مهل.... ينبغي أن يروى كيف مرض ابنه وكيف تعذب وماذا قال قبل وفاته وكيف مات، ينبغي أن يصف جنازته وذهابه إلى المستشفى ليتسلم ثياب الفقيد، وفي القرية بقيت ابنته أنيسيا....ينبغي أن يتحدث عنها أيضا.... وعوما فما أكثر ما يستطيع أن يروي الآن؛ ولا بد أن يتأوه السامع ويتنهد ويرثى... والأفضل أن يتحدث مع النساء، فهؤلاء وإن كن حمقاوات يوَلونْ من كلمتين.
ويقول ايونا لنفسه : فلأذهب لأتفقد الفرس.....وفيما بعد سأشبع نوماً .. يرتدي الملابس ويذهب إلى الاصطبل حيث تقف الفرس ويفكر في الشعير والدريس و الجو فعندما يكون وحده لا يستطيع أن يفكر في ابنه....يستطيع أن يتحدث عنه مع أحد، وأما أن يفكر فيه ويرسم لنفسه صورته فشيء رهيب لا يطاق.... ويسأل أيونا فرسه عندما يرى عينيها البراقيتين
- تمضغين؟ حسنا امضغي أمضغي .. ما دمنا لم نكسب حق الشعير فسنأكل الدريس...نعم أنا كبرت على القيادة، كان المفروض أن يسوق ابني لا أنا، كان حوذيا أصيلا لو أنه فقط عاش...... ويصمت ايونا بعض الوقت ثم يواصل :
- هكذا يا أخي الفرس، لم يعد كوزما أيونيتش موجودا... رحل عنا....فجأة .. خسارة.. فلنفرض مثلا أن عندك مهرا وأنت أم لهذا المهر...... ولنفرض أن هذا المهر رحل فجأة، أليس مؤسفا؟.
وتمضغ الفرس وتنصت وتزفر على يدي صاحبها، ويندمج ايونا فيحكي لها كل شيء.......
أنطون بافلوفيتش تشيكوف