قرية «القلعة»... الصغيرة والكبيرة معا
الوسط - هنادي منصور
التاريخ، يبدأ من هنا. من هذا «المكان» ولعله ينتهي إليه. المساحة، البقعة، الحيز، الإقامة، السكن، المستعمر، والمقاومة... مفردات متشعبة. تختلف مضامينها ودلالاتها، يجمعها المطلق الوحيد، وهو المكان نفسه (القلعة).
مكان تصارعت لأجله أقوام وأمم وقبائل. سقط الضحايا أمة بعد أمة، وحربا بعد حرب. لأجل المكان أيضا. تغيرت أسماء المقاوم والمستعمر. وبقي المكان يجمعهما معا كلما أراد.
بالأمس، مع الحضارات الكبرى، كانت الأرض بالتربة الصالحة وأجوائها المناخية المعتدلة وتوافر الماء سبب انطلاق الحضارات وانبثاقها للواقع.
ارتقت الشعوب، توسعت، وفسحت مجالات نموها وصعودها. اخترقت مجالات الغير، الجميع يبحث عن المكان، ومساحة صالحة للبقاء.
من المكان، ننطلق إلى عنوان حلقتنا، التي تدور حوادثها التاريخية في بقعة بحرينية لها من التاريخ والماضي ما لم يكن لقرية مثلها. ما تحفظه في أرشيفها مدون على جدرانها. وثائق قديمة قِدَم الأرض نفسها. قرية تملك عراقة يعود بها خبراء الآثار إلى مرحلة ما قبل الإسلام، وما قبل ميلاد المسيح.
قرية «القلعة»... الصغيرة الكبيرة
تقع القرية بالقرب من قلعة البحرين المعروفة حاليا، واستمدت اسمها منها. ووهي القلعة المصنفة اليوم ضمن المواقع الأثرية العالمية والمسجلة في أرشيف التراث الإنساني لليونسكو في العام 2005.
في هذه القرية أطلال شاءت لها الأيام الغابرة والقرون الماضية أن تبقى شاهدة على الأمس البعيد، وقرب ديارها مر اللاهثون لباب الخلود والبقاء الأزلي. جلجامش اعتبرها الجنة وأطلق عليها «دلمون»، ذلك المسمى الذي كان السومريون يطلقونه عليها.
تاريخ يحكي أصل البحرين
تقع القرية على شاطئ البحر في الجهة الشمالية من جزيرة البحرين. في المنتصف بين قرية كرباباد من الشرق، وقرية حلة عبدالصالح من الجنوب والغرب. هذا الموقع الذي توجد فيه قرية القلعة كبير جدا، إذ إنه يشكل في الواقع المركز الرئيسي لحضارة دلمون ويتمثل ذلك في هضبة القلعة حيث يحيط بها سور المدينة الضخم، وضم هذا الموقع في السابق القصر الإسلامي، المدن الدلمونية، وميناء دلمون.
علماء الآثار في البحرين يتجهون إلى اعتبار بدء الحياة الإنسانية على البحرين منذ نحو 500 ألف عام على الأقل و100 ألف عام على الأكثر. وتشير بعض الأدوات التي تم اكتشافها إلى ممارسة سكان البحرين الزراعة منذ 8 آلاف عام قبل الميلاد.
«دلمون»، ورد اسم البحرين لأول مرة في التاريخ في الألفية الثالثة قبل الميلاد وكانت تعرف باسم «دلمون»، وهي الجنة التي وُصِفَت في ملحمة جلجامش، وأطلق عليها السومريون هذا الاسم في العام 2500 قبل الميلاد تقريبا. وبلغ عدد سكان المدينة القديمة عند قلعة البحرين (قلعة البرتغاليين) 7 آلاف نسمة وهو رقم كبير آنذاك.
بعد دلمون جاءت حقبة «تايلوس» الثانية في تاريخ البحرين، إذ كانت في عهد الاسكندر الأكبر عندما وصلت سفينتان من الامبراطورية المقدونية إلى الجزيرة وأعاد اليونانيون اسمها ليطلقوا عليها اسم «تايلوس»، واستقروا فيها لسنوات طويلة، ثم جاء عهد «أوال» خلال الفترة ما قبل الإسلام (الجاهلية)، إذ كانت البحرين تعرف باسم «أوال» حتى القرن الثالث عشر بعد الميلاد. وارتبط هذا الاسم باسم رمز الصنم الذي كانت تعبده قبيلة وائل، وأطلق اسم «البحرين» على جزر «أوال» في القرن الثالث عشر بعد الميلاد تقريبا.
هرم ماسلو... وحاجات القرية الفقيرة
إذا امتلكت البلورة السحرية، واستطعت أن تُرجِع الزمن إلى الوراء، إلى عهد السندباد في قصص الشهرزاد على مولاها الشهريار، لاتخذت شهرزاد تلك القلاع والبيوت وطرقات القرية ملاذا وبيئة صالحة حتى يجدد فيها السندباد بطولاته ومغامراته الجريئة؛ بحكم عراقة جدرانها؛ وقدامة بيوتها الأثرية، التي تشعرك بأنك محصور بين متحف ترابي.
كان مقر القلعة - التلة - ملجأ لاذت به جماعة بشرية صغيرة تحتمي من أشعة الشمس الملتهبة وبرودة الشتاء القارس بظلال الأطلال، ويرجع أصول تلك الجماعة من القرى المجاورة وهي: كرباباد والحلة والديه؛ ونظرا إلى حاجة الأهالي آنذاك إلى ممارسة مهنة الاستحصاد الزراعي اتخذوا من بقعة «القرية» مقرا لهم بحكم قربها من أماكن رزقهم «المزارع»، فعرفت بقرية القلعة مع توالي الأيام، وتكاثر أفرادها.
بيوت أهالي القرية اليوم لا تتجاوز 28 بيتا، ويشكون نقصا حادا في توافر الخدمات العامة التي تجري في باقي مدن وقرى البحرين، سواءٌ أكان من حيث توافر الخدمات الحكومية والتجارية أم الأسواق والخدمات الصحية. مرفقان عامان في قرية القلعة يجتمع فيهما الأهالي «المسجد» و«المأتم» ولا شيء آخر هنا أو هناك.
لو شاءت الأقدار، وكتب لباحثنا المعروف إبراهام ماسلو - الذي صنف حاجات الإنسان إلى 5 حاجات رئيسية تبدأ بقاعدة الهرم من الحاجيات الفطرية من السكن والماء والأكل والأمان - الحياة إلى يومنا هذا، واقتيد لزيارة هذا القرية؛ لاستنهض غضبا؛ وأصبح ناقما على رداءة وشح أبسط الحاجيات الرئيسية لدى هؤلاء السكان وهو «السكن»، الذي هو مشتت، ومقيد في الوقت نفسه بحكم حزمة التعليمات التي تفرضها الجهات الرسمية عليهم، وحظر تمددهم في أية جهة من الجهات.
ومنذ اكتشاف الآثار في البحرين هبّت على سكان القرية عواصف التغيير التي استنهضت هممهم؛ بغية مواكبة نظام القرية مع التشكيلة التاريخية التي تلف أجواء تلك المنطقة، وهو ما يفسر نقص وشح خدمات التمويل الأساسية لهؤلاء السكان وذلك بغية المحافظة على إطار الموقع الأثري.
وتعتمد القرية في تغطية حاجاتها الاستهلاكية الضرورية على القرى المجاورة والمناطق التجارية الأخرى. وتفتقر إلى وجود خدمات استهلاكية، ولا يوجد بالقرية سوى محل تجاري واحد من واجهة منزل إحدى العائلات.
وتتميز القرية بوجود مناطق زراعية محيطة بها من جهتي الشرق والغرب. بمحاذاة مباني القرية هناك مساحات غير معمرة من الأملاك الخاصة والمواقع الأخرى الغنية بالآثار.
حل الشقاء منذ مجيء البعثة الدنماركية
لو كنت عرافا، أو ساحرا، أو تملك الحاسة السادسة؛ لتمكنت من دراسة ومعرفة ما يدور في خلجات مشاعرهم، وما يدور في عقولهم، وهو أن البلاء صُبَّ عليهم منذ يوم مجيء البعثة الدنماركية للتنقيب عن الآثار، التي بشرت حكومتنا آنذاك في العام 1953 بحقيقة مهمة وتاريخية سجلت على صفحات اليونسكو، بأن الموقع الذي تعيش عليه تلك الجماعة البشرية ما هو إلا موقع من أهم المواقع الأثرية وأعرقها، ما أطلقت فيه البعثة إنذارها للحكومة بشأن مداراة ومعالجة مصير هؤلاء السكان، الذين لن يكون بقاؤهم على حساب وأعتاب موقع الحضارة السومرية طبعا!
ومع اكتشاف الآثار، سارعت الحكومة في العام 1966 إلى وقف أي تحريك أو تمدد لعجلة العمران في المنطقة؛ بغية تحويل تلك القرية (القلعة) ضمن صفوف القرى المصنفة بالتاريخية والأثرية وبالتالي تكون مختلفة عن بقية قرى البحرين من ناحية تطورها ونمط توسعها.
كانت العدة جاهزة في تجديد وإعادة إعمار البيوت الاسمنتية في القرية، بعدما كانت العروش (بيوت تقليدية) هي المقر الدائم لسكانها. وفي هذه الأجواء المحيطة بالعمران ونموه لجأ الأهالي إلى بناء الغرف الجديدة بالأخشاب لتوفير المكان الملائم لمن أراد الزواج، أما بعض العائلات فقد قامت ببيع بيوتها والعيش في مكان آخر كعائلة الحاج راشد أحمد حبيل وإخوانه المكونة من 25 فردا، الذين انتقلوا إلى منطقة جدحفص. وبعد تفاقم المشكلة قام الأهالي بتقديم التظلمات إلى دائرة الأشغال العامة والبلدية من دون جدوى.
عاش الأهالي ردحا من الزمن في بيوت شيّدت من سعف النخيل، محيطين بالمسجد الذي مازال قائما إلى يومنا هذا مستمتعين بالمناظر الخلابة لعلوّ المكان الذي يطل على البحر والمزارع الغناء.
قامت إدارة الأشغال العامة في العام 1973 بتشييد 7 وحدات سكنية بمساحة 460 مترا مربعا تقريبا، وكل وحدة سكنية تتكون من 4 بيوت، وكل بيت يتكون من غرفتين وصالة وحمام ومطبخ و «حوش» (مساحة كبيرة فارغة تتوسط البيت)؛ ونظرا إلى صغر البيوت امتنع عدد من الأهالي عن العيش فيها وأخذ التعويضات عن منازلهم القديمة والسكن في مناطق أخرى ومنهم عائلة الحاج سلمان عبدعلي عبدالنبي وإخوانه الحاج عيسى والحاج علي، المكونة من 50 فردا انتقلوا إلى قرية كرانة، وعائلة الحاج أحمد بن مرزوق عبدالله المكونة من 12 فردا انتقلوا إلى قرية الديه، وعائلة الحاج حسن بن أحمد المكونة من 10 أفراد، الذين انتقلوا إلى قرية الديه.
مازالت القرية محتفظة بآثارها، بمعية مجتمع صغير لا يتعدى عدده 200 رجل وامرأة، آثروا وجاهدوا وصبروا وتحملوا جهد المعيشة الشاقة في البقاء في أحضان هذا التراب الذي ولدوا فيه.
كأن حال القرية مكتفية بما يحيط بها من وجع وغم، سقف المشكلات لم يبلغ حده بعد. فعلى رغم سيل الشكاوى والتذمر الذي يعانيه أهالي القرية، وعلى رغم تجرع أهاليها مرارة الوجع والحسرة على ذكريات الطفولة المحفورة على جدران قريتهم الصغيرة منذ مجيء البعثة الدنماركية، مازالت المشكلات تحيط بهم من كل صوب.
أدى وجود المنازل في منطقة منخفضة جنوب القلعة إلى أن تتعرض باستمرار لمشكلات جمة، أهمها تطاير الرمال عليها طوال العام بفعل هبوب الرياح الشمالية الشديدة، أضف إلى ذلك امتدادات الأمطار وسيولها أثناء تساقط الأمطار في فصل الشتاء، وهو ما حدا بالأهالي إلى صرف المبالغ الطائلة للصيانة سنويا من دون جدوى. سبب ذلك هو عدم وجود طريق فاصل بين هضبة القلعة والمساكن، وعدم السماح للأهالي ببناء جدار حاجز بقرار من إدارة التراث بوزارة الإعلام؛ لوجود آثار قيّمة هناك.
المد والجزر بين طرفين أحدهما يمثل الكفة الرسمية والثقافة والحفاظ على التراث، والآخر يمثل كفة الأهالي المحرومين من أبسط مقومات الحياة الكريمة. هذا ما لا تشهده أية قرية تراثية في العالم، التي غالبا ما يكون أهلها المستفيد الأول من هذه الهبة التاريخية لهم. أهالي قرية «القلعة» وحدهم من يعانون جراء عدِّ أرضهم ثمينة، ولعلها مشكلة إدراك وتخطيط لا مشكلة «قدر».
الفنون التشكيلية... ترسم المكان من جديد
خلال احتفال البحرين باليوبيل الذهبي - مرور 50 عاما على اكتشاف قلعة البحرين - عملت الحكومة على تزيين جدران تلك البيوت وتلوينها بأصباغ الفن التشكيلي وألوان صفراء، خضراء، وحمراء... إلخ. مؤسسات المجتمع المدني المهتمة بالفنون والتراث ساهمت في ذلك، وكان الهدف هو تلوين تلك البيوت بلون واحد هو «الرمادي»؛ حتى يتناسب ويتناغم مع لون القلعة البرتقالي.
من المؤمل أن تعمل الجهات الرسمية على تحويل ونقل هؤلاء الأهالي؛ حتى تستقر بهم الحال إلى بيوت حديثة في مخطط المقشع الإسكاني الحالي الذي أصبح قاب قوسين وأدنى من الانتهاء. ووعود كبرى أعطيت لهم على مراحل عدة.
يا ترى أي حياة سترافق سكان قرية القلعة في السنوات المقبلة؟ وهل يتحقق حلم الأهالي في حياة كريمة، وبيوت آمنة تحفظهم من التشتت وتبقي على نسيجهم الاجتماعي؟
ماذا سيبقى في ذاكرة هؤلاء المهجرين قسرا عن موطنهم، غير ذكريات الطفولة وحياة الكفاح داخل تلك «الأرض المقدسة»؟
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 1597 - السبت 20 يناير 2007م الموافق 01 محرم 1428هـ