مستخدم:Samir el bekkaye/ملعب
كتاب طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد - للعلامة عبد الرحمن الكواكبي الحلقة [ 12 ] : الاستبداد والترقِّي ( 2 - 2 ) «يا قوم: وأريد بكم شباب اليوم؛ رجال الغد، شباب الفكر؛ رجال الجد، أُعيذكم من الخزي والخذلان بتفرقة الأديان، وأُعيذكم من الجهل، جهل أنَّ الدينونة لله، وهو سبحانه وليُّ السرائر والضمائر««ولو شاء ربُّك لجعل الناس أمّةً واحدة».» «أناشدكم يا ناشئة الأوطان، أن تعذروا هؤلاء الواهنة الخائرة قواهم إلا في ألسنتهم، المعطَّل عملهم إلا في التثبيط، الذين اجتمع فيهم داء الاستبداد والتواكل فجعلاهما آلة تُدار ولا تدير. وأسألكم عفوهم من العتاب والملام، لأنَّهم مرضى مبتلون، مثقلون بالقيود، ملجمون بالحديد، يقضون حياة خير ما فيها أنَّهم آباؤكم!» «قد علمتم يا نُجَباء من طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد جُمَلاً كافية للتدبُّر، فاعتبروا بنا واسألوا الله العافية: نحن ألِفنا الأدب مع الكبير ولو داس رقابنا. ألِفنا الثبات ثبات الأوتاد تحت المطارق، ألِفنا الانقياد ولو إلى المهالك. ألِفنا أن نعتبر التَّصاغر أدباً والتذلُّل لطفاً، والتملُّق فصاحةً، واللكنة رزانة، وترك الحقوق سماحةً، وقبول الإهانة تواضعاً، والرِّضا بالظُّلم طاعة، ودعوى الاستحقاق غروراً، والبحث عن العموميات فضولاً، ومدَّ النَّظر إلى الغد أملاً طويلاً، والإقدام تهوُّراً، والحمية حماقة، والشّهامة شراسة، وحريَّة القول وقاحة، وحريّة الفكر كُفراً، وحبَّ الوطن جنوناً. أما أنتم، حماكم الله من السوء، فنرجو لكم أن تنشؤوا على غير ذلك، أن تنشؤوا على التمسُّك بأصول الدين، دون أوهام المتفننين، فتعرفوا قدر نفوسكم في هذه الحياة فتكرموها، وتعرفوا قدر أرواحكم وأنَّها خالدة تُثاب وتُجزى، وتتَّبعوا سُنن النبيين فلا تخافون غير الصانع الوازع العظيم. ونرجو لكم أن تبنوا قصور فخاركم على معالي الهمم ومكارم الشيَّم، ولا على عظام نخرة. وأن تعلموا أنَّكم خُلِقتم أحراراً لتموتوا كراماً، فاجهدوا على أن تحيوا ذلكما اليومين حياةً رضيّة، يتسنّى فيها لكلٍّ منكم أن يكون سلطاناً مستقلاً في شؤونه لا يحكمه غير الحقّ، ومديناً وفيّاً لقومه لا يضنُّ عليهم بعينٍ أو عون، وولداً بارّاً لوطنه، لا يبخل عليه بجزءٍ من فكره ووقته وماله، ومحبَّاً للإنسانية ويعمل على أنَّ خير الناس أنفعهم للناس، يعلم أنَّ الحياة هي العمل ووباء العمل القنوط، والسعادة هي الأمل، ووباء الأمل التردد، ويفقه أنَّ القضاء والقدر هما عند الله ما يعلمه ويمضيه، وهما عند الناس السعي والعمل، ويوقن أنَّ كلَّ أثرٍ على ظهر الأرض هو من عمل إخوانه البشر، وكلَّ عملٍ عظيم قد ابتدأ به فردٌ، ثمَّ تعاوَرَهُ غيره إلى أنْ كمل، فلا يتخيل الإنسان في نفسه عجزاً، ولا يتوقَّع إلا خيراً، وخير الخير للإنسان أن يعيش حُرّاً مقداماً، أو يموت.» «وكأنّي بسائلكم يسألني تاريخ التغالب بين الشرق والغرب، فأجيب: بأنَّا كنّا أرقى من الغرب علماً، فنظاماً، فقوَّة، فكنَّا له أسياداً! ثمَّ جاء حينٌ من الدَّهر لحق بنا الغرب، فصارت مزاحمة الحياة بيننا سِجالاً: إنْ فُقْناه شجاعةً فاقنا عدداً، وإنْ فُقناه ثروةً فاقنا باجتماع كلمته. ثمَّ جاء الزّمن الأخير ترقّى فيه الغرب علماً، فنظاماً، فقوّةً. وانضمَّ إلى ذلك أولاً: قوة اجتماعه شعوباً كبيرةً. ثانياً: قوَّة البارود؛ حيث أبطل الشجاعة وجعل العبرة للعدد. ثالثاً: قوَّة كشفه أسرار الكيمياء والميكانيك. رابعاً: قوَّة الفحم الذي أهدته له الطبيعة. خامساً: قوَّة النشاط بكسره قيود الاستبداد. سادساً: قوَّة الأمن على عقد الشركات المالية الكبيرة. فاجتمعت هذه القوّات فيه وليس عند الشَّرق ما يقابلها غير الافتخار بالأسلاف، وذلك حجَّة عليه، والغرور بالدّين خلافاً للدّين، فالمسلمون يقابلون تلك القوات بما يُقال عند اليأس وهو: حسْبُنا الله ونِعْمَ الوكيل»، ويخالفون أمر القرآن لهم بأن يُعِدّوا ما استطاعوا من قوَّة، لا ما استطاعوا من صلاةٍ وصوم. وكأني بسائلكم يقول: هل بعد اجتماع هذه القوات في الغرب واستيلائه على أكثر الشَّرق من سبيل لنجاة البقية؟ فأجيب قاطعاً غير متردِّد: إنَّ الأمر مقدور ولعلَّه ميسور. ورأس الحكمة فيه كسر قيود الاستبداد. وأنْ يكتب الناشئون على جباههم عشر كلمات، وهي: ديني ما أُظهر وما أُخفي. أكون؛ حيثُ يكون الحقُّ ولا أبالي. أنا حرٌّ وسأموت حرّاً. أنا مستقلٌّ لا أتِّكل على غير نفسي وعقلي. أنا إنسان الجدّ والاستقبال، لا إنسان الماضي والحكايات. نفسي ومنفعتي قبل كلِّ شيء. الحياة كلُّها تعبٌ لذيذ. الوقت غالٍ عزيز. الشَّرف في العلم فقط. أخاف الله لا سواه. «وأنت أيها الوطن المحبوب: أنت العزيز على النفوس، المقدَّس في القلوب، إليك تحنُّ الأشباح وعليك تئنُّ الأرواح... أيها الوطن الباكي ضعافه: عليك تبكي العيون، وفيك يحلو المنون. إلى متى يعبث خلالك اللئام الطّغام؟ يظلمون بنيك ويذلُّون ذويك. يطاردون أنجالك الأحباب ويمسكون على المساكين الطُّرق والأبواب، يُخرجون العمران ويُقفرون الدّيار؟. أيها الوطن العزيز: هل ضاعت رحابك عن أولادك؟ أم ضاقت أحضانك عن أفلاذك؟... كلا؛ إنَّما فقدت الأُباة، فقدت الحُماة، فقدت الأحرار. أيها الوطن الملتهب فؤاده: أما رويت من سُقيا الدموع والدِّماء؟ ولكنْ؛ دموع بناتك الثاكلات ودماء أبنائك الأبرياء، لا دموع النادمين ولا دماء الظالمين. ألا فاشرب هنيئاً ولا تأسف على البُلْهِ الخاملين، ولا تحزن، فما هم كرائماً وكراماً، لسْنَ هنَّ كرائماً باكيات محمسات، وليسوا هم كراماً أعزَّة شهداء، إنَّما هم – غفر الله لهم – من علمت، قلَّ فيهم الحرُّ الغيور، قلَّ فيهم من يقول أنا لا أخاف الظالمين. أيها الوطن الحنون: كَوَّنَ الله عناصر أجسامنا منك، وجعل الأمهات حواضن، ورزقنا الغذاء منك، وجعل المرضعات مجهزات، نعم؛ خلقنا الله منك فحقَّ لك أن تحبَّ أجزاءك وأن تحنَّ على أفلاذك. كما يحقّ لكفي شرع الطبيعة أنْ لا تحبَّ الأجنبي الذي يأبى طبعه حبَّك، الذي يؤذيك ولا يواليك، ويزاحم بنيك عليك ويشاركهم فيك، وينقل إلى أرضه ما في جوفك من نفيس العناصر وكنوز المعادن، فيفقرك ليغني وطنه، ولا لوم عليه، بل بارك الله فيه!» «يا قومُ: جعلكم الله خيرة اليوم وعدَّة الغد، هذا خطابي إليكم فيما هو الترقّي وما هو الانحطاط، فإن وعيتم ولو شذرات، فيا بشراي والسلام عليكم، وإلا فيما ضياع الأنفس، وعلى الرَّفاه السلام.» الاستبداد الذي يبلغ في الانحطاط بالأمَّة إلى غاية أن تموت، ويموت هو معها، كثير الشواهد في قديم الزمان وحديثه، أما بلوغ الترقّي بالأمم إلى المرتبة القصوى السّامية التي تليق بالإنسانية، فهذا لم يسمح الزمان حتَّى الآن بأمَّةٍ تصلح مثالاً له، لأنَّه إلى الآن لم توجد أمَّة حكمت نفسها برأيها العام حُكماً لا يشوبه نوعً من الاستبداد ولو باسم الوقار والاحترام، أو بنوعٍ من الإغفال ولو ببذر الشِّقاق الديني أو الجنسي بين الناس. فكأنَّ الحكمة الإلهية لم تزل ترى البشر غير متأهِّلين لنوال سعادة الأخوة العمومية بالتحابب بين الأفراد، والقناعة بالمساواة الحقوقية بين الطبقات. نعم؛ وُجد للترقّي القريب من الكمال بعض أمثال قليلة في القرون الغابرة، كالجمهورية الثانية للرومان، وكعهد الخلفاء الراشدين، وكالأزمنة المتقطِّعة في عهد الملوك المنظّمين لا الفاتحين مثل أنوشروان وعبد الملك الأموي ونور الدين الشَّهيد وبطرس الكبير. وكبعض الجمهوريات الصغيرة والممالك الموفَّقة لأحكام التقييد الموجودة في هذا الزَّمان. وإنّي أقتصر على وصف منتهى الترقّي الذي وصلت إليه تلك الأمم وصفاً إجمالياً، واترك للمطالع أن يوازنها ويقيس عليها درجات سائر الأمم. وربما يستريب في ذلك المطالع المولود في أرض الاستبداد، الذي لم يدرس أحوال الأمم في الوجود، ولا عتب عليه فإنَّه كالمولود أعمى لا يُدرك للمناظر البهية معنى. قد بلغ الترقّي في الاستقلال الشخصي في ظلال الحكومات العادلة، لأنْ يعيش الإنسان المعيشة التي تشبه في بعض الوجوه ما وعدته الأديان لأهل السعادة في الجنان. حتى إنَّ كلًّ فردٍ يعيش كأنه خالدٌ بقومه ووطنه، وكأنه أمينٌ على كلِّ مطلب، فلا هو يكلِّف الحكومة شططاً ولا هي تهمله استحقاراً: أمينٌ على السلامة في جسمه وحياته بحراسة الحكومة التي لا تغفل عن محافظته بكلِّ قوتها في حضره وسفره بدون أن يشعر بثقل قيامها عليه، فهي تحيط به إحاطة الهواء، لا إحاطة السور يلطمه كيفما التفت أو سار. أمينٌ على الملذَّات الجسمية والفكرية باعتناء الحكومة في الشؤون العامة، المتعلِّقة بالترويضات الجسمية والنظرية والعقلية حتى يرى أنَّ الطرقات المسهلة، والتزيينات البلدية، والمتنزهات، والمنتديات، والمدارس، والمجامع، ونحو ذلك، قد وُجِدت كلُّها لأجل ملذّاته، ويعتبر مشاركة الناس له فيها لأجل إحسانه، فهو بهذا النظر والاعتبار لا ينقص عن أغنى الناس سعادةً. أمينٌ على الحرية، كأنَّه خُلِق وحده على سطح هذه الأرض، فلا يعارضه معارض فيما يخصُّ شخصه من دينٍ وفكرٍ وعملٍ وأمل. أمينٌ على النفوذ، كأنَّه سلطانٌ عزيز، فلا ممانع له ولا معاكس في تنفيذ مقاصده النافعة في الأمة التي هو منها. أمينٌ على المزيّة، كأنَّه في أمَّةٍ يساوي جميع أفرادها منزلةً وشرفاً وقوةً، فلا يفضل هو على أحد ولا يفضل أحدٌ عليه، إلا بمزيّة سلطان الفضيلة فقط. أمينٌ على العدل، كأنَّه القابض على ميزان الحقوق، فلا يخاف تطفيفاً، وهو المثمّن فلا يحذر بخساً، وهو المطمئن على أنَّه إذا استحقَّ أن يكون ملكاً صار ملكاً، وإذا جنة جنايةً نال جزاءه لا محالة. أمينٌ على المال والملك، كأنَّ ما أحرزه بوجهه المشروع قليلاً كان أو كثيراً، قد خلقه الله لأجله فلا يخاف عليه، كما أنَّه تقلع عينه إنْ نظر إلى مال غيره. أمينٌ على الشف بضمان القانون، بنصرة الأمة، ببذل الدم، فلا يرى تحقيراً إلا لدى وجدانه، ولا يعرف طمعاً لمرارة الذُلِّ والهوان. أما الأسير – ولا أُحزن المطالع بوصف حالته – فأكتفي بالقول: إنَّه لا يملك ولا نفسه، وغير أمينٍ حتى على عظامه في رمسه، إذا وقع نظره على المستبدِّ أو أحد من جماعته على كثرتهم يتعوَّذ بالله، وإذا مرَّ من قرب إحدى دوائر حكومته أسرع وهو يكرر قوله: «حمايتك يا ربّ، إنَّ هذا الدار، بئس الدار، هي كالمجزرة كلُّ من فيها إما ذابح أو مذبوح. إنَّ هذه الدار كالكنيف لا يدخله إلا المضطر.» وقد يبلغ الترقّي في الاستقلال الشخصي مع التركيب بالعائلة والعشيرة، أن يعيش الإنسان معتبراً نفسه من وجه غنياً عن العالمين، ومن وجه عضواً حقيقياً من جسمٍ حيٍّ هو العائلة، ثمَّ الأمَّة، ثمَّ البشر. ويُنظر إلى انقسام البشر إلى أمم، ثم إلى عائلات، ثم إلى أفراد، وهو من قبيل انقسام الممالك إلى مدنٍ، وهي إلى بيوت، وهي إلى مرافق، وكما أنَّه لا بدَّ لكلِّ مرفقٍ من وظيفةٍ معينة يصلح لها وإلا كان بناؤه عبثاً يستحقُّ الهدم، كذلك أفراد الإنسان لا بدَّ أن يعدَّ كلٌّ منهم نفسه لوظيفة في قيام حياة عائلته أولاً، ثمَّ حياة قومه ثانياً. ولهذا يكون العضو الذي لا يصلح لوظيفة، أو لا يقوم بما يصلح له، حقيراً مهاناً. وكلُّ من يريد أن يعيش كَلاً على غيره، لا عن عجزٍ طبيعيٍّ، يستحقُّ الموت لا الشفقة، لأنهَّ كالدَّرن في الجسم أو كالزائد من الظُّفر يستحقان الإخراج والقطع، ولهذا المعنى حرَّمت الشرائع السماوية الملاهي التي ليس فيها ترويض، والسُّكر المعطِّل عن العمل عقلاً وجسماً، والمقامرة والرِّبا لأنهما ليسا من نوع العمل والتبادل فيه. وقد فضَّل الله الكنَّاس على الحجَّام وصانع الخبز على ناظم الشِّعر؛ لأنَّ صنعتهما أنفع للجمهور. وقد يبلغ ترقّي التركيب في الأمم درجة أنْ يصير كلُّ فردٍ من الأمَّة مالكاً لنفسه تماماً، ومملوكاً لقومه تماماً. فالأمَّة التي يكون كلُّ فردٍ منها مستعداً لافتدائها بروحه وبماله، تصير تلك الأمَّة بحجَّة هذا الاستعداد في الأفراد، غنية عن أرواحهم وأموالهم. الترقّي في القوة بالعلم والمال يتميَّز على باقي أنواع الترقّيات السالفة البيان تميُّز الرأس على باقي أعضاء الجسم، فكما أنَّ الرأس بإحرازه مركزية العقل، ومركزية أكثر الحواس، تميّز على باقي الأعضاء واستخدمها في حاجاته، فكذلك الحكومات المنتظم يترقّى أفرادها ومجموعها في العلم والثروة، فيكون لهم سلطانٌ طبيعي على الأفراد أو الأمم التي انحطَّ بها الاستبداد المشؤوم إلى حضيض الجهل والفقر. بقي علينا بحث الترقّي في الكمالات بالخصال والأثرة، وبحث الترقّي الذي يتعلق بالروح؛ أي بما وراء هذه الحياة، ويرقى إليه الإنسان على سُلَّم الرَّحمة والحسنات، فهذه أبحاث طويلة الذيل، ومنابعها حكميات الكتب السماوية ومدوِّنات الأخلاق، وتراجم مشاهير الأمم. وأكتفي بالقول في هذا النوع: إنَّه يبلغ بالإنسان مرتبة أن لا يرى لحياته أهمية إلا بعد درجات، فيهُّمه أملاً: حياة أمِّه، ثمَّ امتلاك حريته، ثمَّ أمنه على شرفه، ثمَّ محافظته على عائلته، ثمَّ وقايته حياته، ثمَّ ماله، ثمَّ، وثمَّ... وقد تشمل إحساساته عالم الإنسانية كلِّه، كأنَّ قومه البشر لا قبيلته، ووطنه الأرض لا بلده، ومسكنه؛ حيث يجد راحته، لا يتقيَّد بجدران بيت مخصوص يستتر فيه ويفتخر به كما هو شأن الأُسراء. وقد يترفَّع الإنسان عن الإمارة لما فيها من معنى الكبر، وعن التِّجارة لما فيها من التمويه والتبذُّل، فيرى الشرف في المحراث، ثمَّ المطرقة، ثمَّ القلم، ويرى اللذَّة في التجديد والاختراع، لا في المحافظة على العتيق، كأنَّ له وظيفة في ترقّي مجموع البشر. وخلاصة القول: إنَّ الأمم التي يُسعدها جدُّها لتبديد استبدادها، تنال من الشَّرف الحسّي والمعنوي ما لا يخطر على فكر أُسراء الاستبداد. فهذه بلجيكا أبطلت التكاليف الأميرية برمَّتها، مكتفيةً في نفقاتها بنماء فوائد بنك الحكومة. وهذه سويسرا يصادفها كثيراً أن لا يوجد في سجونها محبوسٌ واحد. وهذه أمريكا أثرت حتى كادت تخرج الفضة من مقام النقد إلى مقام المتاع. وهذه اليابان أصبحت تستنزف قناطير الذهب من أوربا وأمريكا ثمن امتيازات اختراعاتها وطبع تراجم مؤلَّفاتها. وقد تنال تلك الأمم حظّاً من الملذَّات الحقيقية، التي لا تخطر على فكر الأُسراء، كلذَّة العلم وتعليمه، ولذَّة المجد والحماية، ولذَّة الإثراء والبذل، ولذَّة إحراز الاحترام في القلوب، ولذَّة نفوذ الرأي الصائب، ولذَّة الحبِّ الطاهر، إلى غير هذه الملذَّات الروحية. وأمَّا الأسراء والجهلاء فملذَّاتهم مقصورة على مشاركة الوحوش الضارية في المطاعم والمشارب واستفراغ الشهور، كأنَّ أجسامهم ظروف تُملأ وتُفرغ، أو هي دمامل تولد الصديد وتدفعه. وأنفع ما بلغه الترقّي في البشر؛ هو إحكامهم أصول الحكومات المنتظمة ببنائهم سدّاً متيناً في وجه الاستبداد، والاستبداد جرثومة كلِّ فساد، وبجعلهم ألاّ قوة ولا نفوذ فوق قوة الشَّرع، والشَّرع هو حبل الله المتين. وبجعلهم قوَّة التشريع في يد الأمَّة، والأمَّة لا تجتمع على ضلال. وبجعلهم المحاكم تحاكم السُّلطان والصُّعلوك على السَّواء، فتحاكي في عدالتها الكبرى الإلهية. وبجعلهم العمال لا سبيل لهم على تعدّي حدود وظائفهم، كأنهم ملائكة لا يعصون أمراً، وبجعلهم الأمَّة يقظة ساهرة على مراقبة سير حكومتها، لا تغفل طرفة عين، كما أنَّ الله – عزَّ وجلّ – لا يغفل عمَّا يفعل الظالمون. هذا مبلغ الترقّي الذي وصلت إليه الأمم منذ عُرِف التاريخ، على أنَّه لم يقم دليل إلى الآن على ترقّي البشر في السعادة الحيوية عمّا كانوا عليه في العصور الخالية حتى الحجرية، حتّى منذ كانوا عراةً يسرحون أسراباً، والآثار المشهودة لا تدلُّ على أكثر من ترقّي العلم والعمران؛ وهما آلتان كما يصلحان للإسعاد، يصلحان للإشقاء، وترقِّيها هو من سُنَّة الكون التي أرادها الله تعالى لهذه الأرض وبنيها، ووصف لنا ما سيبلغ إليه ترقّي زينتها واقتدار أهلها بقوله عزَّ شأنه: «حتى إذا أخذت الأرض زُخرفها وازَّينت وظنَّ أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تَغْنَ بالأمس». وهذا يدلُّ على أنَّ الدنيا وبنيها لم يزالا في مقتبل الترقّي، ولا يعارض هذا أنَّ ما مضى من عمرها هو أكثر مما بقي حسبما أخبرت به الكتب السماوية، لأنَّ العمر شيء، والترقّي شيءٌ آخر.
(يتبع)------------