مستخدم:Ilham aissa/ملعب

اللغة العربية..

الهوية، بين تهمة الرّجعية وتحديات العولمة !


لا شكّ أن اللغة هي انعكاس لفكر الأمة، وثقافتها، وهويتها. إذ اللغة القومية وحدها من تستطيع أن تعبر عن مكنون مجتمع؛ تصوغه وتعجنه وتعبر عن ذهنيته وتفاصيله كما ينبغي. فاللغة تشبه مجتمعها، وسيبدو من الساذج الاعتقاد بانفصال اللغة عن الناطقين بها، أو القول بإمكانية استبدالها. لأن اللغة تتعدى كونها وسيلة تواصل، أو أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم ![1]

اللغة تتعمق فينا لتتجذر في عمق التاريخ والخلفيات وأبعاد المجتمع، إنها تلتصق فيه التصاق الجنين بالمشيمة، إنها تاريخ وانتماء وهوية.

ولأن اللغة العربية، أحد أهم لغات العالم وأقدمهم، بل ومن بين أكثر اللغات انتشارا في العالم، فهي تمثل حتما رصيدا ثقافيا وإنسانيا يرمم ملامح هذا الكمال البشري دون مبالغة. كما أنها تشكل قطبا مهما يصور التاريخ البشري والحضارات الإنسانية، ويقرب لنا ذاك التداخل وباقي لغات العالم، على غرار دورها العظيم في المساهمة العلمية والأدبية والفلسفية منذ ألاف السنين، ناهيك عن كونها لغة أهم نص ديني يمثل الحقيقة الكونية والبشرية.

لكن، هل بقيت اللغة العربية تحافظ على مكانتها؟ هل لا تزال تلعب هذا الدور العظيم، والتأثير الكبير على الأمم الأخرى؟ هل تحظى بالاهتمام الذي تستحق من قبل أبنائها؟ أم أنها تتوارى وتتراجع؟

في الحقيقة، كانت اللغة العربية - كما العديد من ثوابت العالم العربي-، ضحية القرن العشرين، ونقصد هنا، بالأخص العولمة، إذ جاءت هذه الأخيرة لتجرف بكل شيء في سبيل إقصاء الخصوصية، وتحقيق فكر واحد يسيطر على باقي الأيديولوجيات، وفي هذا الصدد يقول محمد عابد الجابري: " العولمة نفي للآخر، وإحلال للاختراق الثقافي محل الصراع الأيديولوجي"

وإن كان تعريف العولمة لا يزال حتى يومنا هذا يعرف الكثير من الشد والجذب، وإن كانَ تأثيرها على المجتمعات لا يزال محل نقاش بين مناصر ومناهض لها، فإنه لا يختلف منا أحد على تأثيرها الكبير على الكثير من مجالات الحياة الثقافية اللغوية السياسية الاقتصادية وغيرها. وبودنا هنا أن نعني بهذا التأثير على اللغة العربية والفكر العربي اليوم.

إن العولمة، وكما ذكرنا، تركت أثرها الكبير على اللغات القومية، إذ أزاحت الانجليزية – وهي لغة العولمة الرسمية إن صح القول - بقية لغات العالم، بعد أن أصبحت أكثر اللغات استعمالا، إذ أنها وحسب آخر الإحصائيات تدرس في أكثر من مائة وعشرون دولة حول العالم، وهي اللغة الرسمية في الشبكة العنكبوتية، والأبحاث العلمية في العديد من الجامعات العالمية، ناهيك عن الاختراعات والاكتشافات التي سيطرت فيها اللغة الانجليزية حتى كادت تهمش فعليا الفكر اللغوي الآخر.

ولا نظن أن مثل هذا الدور الذي أنيطت به الانجليزية جاء عبثاً. بل مدروسا بعناية لتحقيق غايات كبرى، كالامبريالية الثقافية؛ يقول محمود أمين: "أخذت العولمة السائدة، تفضي بالضرورة إلى سيادة لغة من لغات هذه الدول المهيمنة، في العلاقات التجارية والاقتصادية، وما يستتبع ذلك، من سيادة ثقافتها وقيمها الخاصة"

فالانجليزية ستأتي بما يصدر لنا عقلية وذهنية انجليزية أيضا، ستتغلغل بمفاهيم جديدة، ورؤى غريبة وأحيانا شاذة، لتحيك رداءا جديدا للفكر العالمي، وهذا ما سيمزق دون شك، رداءنا المحلي، وأسفاً، ولأن الأمر فيما يخص اللغة العربية، جاء مباغتا سريعا، ليحط على أرض هشة، وعقيدة متذبذبة، لم تستفق بعد من المؤامرات الاستعمارية الغربية، وقبلها الصراعات العثمانية ، استطاع أن يفتك بنا، ولم يمزق الرداء فحسب، بل أبقانا عرايا. ولعل أكثر ما يعكس هذا العري وهذا الشتات، واقعنا الافتراضي اليوم. الذي يعد أحد أهم صور العولمة.

الواقع الافتراضي يحط لعنته على اللغة ..

شئنا أم أبينا، تعد الساحة الافتراضية، من أهم ساحات الخطاب والكتابة والتواصل في العالم اليوم، ولأنها كذلك فهي تمثل قاعدة مهمة تستهدف منها المجتمعات، ولذلك نجد أن كل القوى العالمية موجهة لخدمة الفكر الغربي واللغة الانجليزية ومن ثم هدم العربية والفتك بها باعتبارها أحد اللغات التي تخدم بالأساس فكرا يتناقض ومبادئ العولمة ولعل هذا أهم شرارة تؤجج الصراع العالمي اليوم.

إن المنشورات التي تنشر يوميا، تأتي في كل مرة تحت ترند ما، لتثير أفكار غربية، مسلطة، تثور على الهوية العربية، فنلحظ انتشار كلمات جديدة، كالكراش، الاكس، بلوك، وغيرها من الكلمات التي تعدت الساحة الافتراضية لتنتقل نحو الممارسة اليومية في الواقع. والمشكلة هنا لا تكمن فقط في توغل الكلمات الأجنبية لتزيح البساط عن اللغة العربية، بل في الحقيقة الخطر يكمن فيما بعد ذاك الانزياح، إنها تسحب البساط من فكر عربي، ليحل محلها فكري غربي، ومعتقد غربي يخلط المفاهيم ليصبح أسفا كل أمر وكل شيء نسبي، يتناسب والعولمة.

فنجد مفاهيم الحرية، العقيدة، الدين، الإنسانية، الثورات، كل شيء أصبح يأخذ مفهوما عولميا - ان صح القول-، يهمش بوضوح الفكر العربي، ويتمرد عليه بل يتطاول عليه، تحت مسميات عديدة.

في هذا العالم الافتراضي، سيلحظ المرء، تراجعا كبيرا للغة العربية، التي أصبحت موسومة لدى ذهن العربي، الشباب منه خاصة، بالرجعية والتخلف، بل بلغ الحد حتى السخرية من العربية واستعمالها، لتصبح " لغة درجة ثانية" ، بعد اللغة العالمية، ويكاد استعمالها محصورا في الدوائر التعليمية، والدوائر الرسمية، والتي هي الأخرى تعرف اجتياحا كثيفا للغات الأجنبية.

ومن بين التهم الموجهة للغة العربية اليوم، أنها غير مؤهلة للعصرنة، إذ يعتقد الشباب اليوم وبعض المنحازون للفكر العالمي على حساب اللغة القومية، أن العربية لا تستطيع استيعاب مصطلحات العصر، ولا تتسع لأفكاره، وهذه أحد الأفكار المغلوطة التي ألقيت على عاتق العربية دون مبرر ولا حجج منطقية، فالعارف باللغة العربية، يدرك جيداً، أنها أكثر لغات العالم مرونة - إن صح التعبير - وأكثرها قبولا للآخر، إنها ولقدرتها التصريفية الاعرابية المتفردة، قادرة على النمو موازاة والفكر العالمي دون أن تتأثر أو تضمحل، بلْ إنها تضيف فوق كل هذا المزيد من الرؤى والتصورات، لشساعة براحها وتنوع مداخلها ومخارجها، ونقصد هنا لانهائية اللغة والتأويل.

اللغة في العربية في الحقيقة، استطاعت أن تحتضن العلوم والآداب والثقافات الأخرى، دون أية إشكال، ولم يؤثر فيها شيء، وإنا نجدها اليوم قادرة على التكيف مع الكثير من الأفكار المعاصرة، لكن يبقى التهميش - المقصود - الذي تتعرض له، أحد المعيقات التي سلبت العربية دورها وعكست هذا الكم من التصورات الخاطئة.

وفي سياق الحديث عن الأفكار المغلوطة عن اللغة العربية نجد أيضا، الرغبة في إقصاء أي دور للتراث العربي، في الحضارة الانسانية، والحديث عن عدم جدوى الاحتفاظ بهِ، وفي الواقع، هذه أحد أكثر النوايا الملغمة التي ترغب في هدم أسس الأمة، فالحديث عن بتر اللغة من تراثها كالحديث عن حذف ذاكرة الشعوب، وبغض النظر عن قيمة التراث وجدوى الاحتفاظ به - حتى وإن كان بعضه حتاج للتعديل والترميم وربما الانكار - فهذا حديث ستطول الكتابة عنه، إلا أنه يستحيل على أمة أن تستمر في البقاء إن هي دفنت ماضيها وتراثها، وعلى الشباب اليوم، أن يبتعدوا عن القراءات السريعة على المواقع الاجتماعية والتي تورد مئات من المضامين الخاطئة يوميا، والرجوع للقراءة الحقيقية والبحث الحر عن الحقيقة، لإدراك قيمة اللغة العربية وذاك الرصيد الفكري القيم الذي تزخر به، وعبره تستمر الأمم الأخرى في العطاء.

العامية، أحد سبل .

من بين الوسائل الأخرى التي تمارسها العولمة ضد اللغة العربية نجد، دعوتها لنشر العامية وجعلها بديلا للغة الأم. ولقد رافق هذا انتشار حملات قراءة عربية، وثورات نشر، تذكرنا بهبة النهضة الفكرية في القاهرة وبيروت، وإن كان هذا الأمر طيبا، فإنه وأسفا جاء هو الأخر بطريقة ملتوية تحط من قيمة اللغة أكثر مما تخدمها، فنجد كما ذكرنا، دعوة ودعم لنشر باللهجات العامية، تقليل من قيمة التراث العربي والجاهلي، إثارة جدل عقيم فيما يخص النقاشات حول الخطاب الديني وتأويل النص القرآني، اللجوء للمجتمعات الغربية والأخذ عنها أفكارا يستلهمون منها أدبهم، ليصبح الأدب العربي اليوم، مجرد مرآة غربية، ووسيلة أخرى لدس الأفكار الغربية كل الغرابة عنا. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل بلغ حد تعميم أفكار مغلوطة، حول العديد من مفاهيم تراثنا العربي، على سبيل السخرية تارة وعلى سبيل الثورة على كل قديم تارة أخرى، ولأنه لم تخلق بدائل تنوب عن التراث – ولن! – فقد وجدت هوة كبيرة وانفصال مؤسف بين اللغة والفكر العربي اليوم ..

والنتيجة أننا اليوم، نعيش حالة انفصام وازدواجية مريبة. نحن لم نعد نعرفنا، لا نستطيع تحديد مواقعنا، تراجعت اللغة فتراجعت الأمة وانحسر دورها، ونحن الذين نمتلك كل مفاتيح القيادة والتأثير.

وعليه، وجب أن نعيد للغة العربية قيمتها، إن نحن أردنا استعادة دورنا القيادي، نعم، القيادي، يكفينا رجوعا للتراث العربي لنكتشف ملامح الإنسان فينا، ثم نغربل نحن- وبطريقتنا التي نراها مناسبة- ما يجب أن يتلاشى وما يجب أن يرسخ، وأن نقولب أيضا -بطريقتنا نحن- لغتنا والعصر الذي نعيش، دون أن نلغي ذواتنا، ودون أن نتنازل عن كوننا أمة عربية لها تاريخها، تراثها وخلفياتها الثقافية ورؤاها وأهدافها، هكذا فقط نستطيع أن ننتصر على العولمة، وأن ننتصر لما جاءت به دون أن نهدد مصالحنا.

ولأجل التصدي للعولمة، والنهوض باللغة العربية، للمكانة التي تستحق، علينا أولاً التأسيس لقاعدة متينة، يقول عبد الله الطيب: " لابد من العمل على إعادة اللغة العربية إلى بعض ما كان لها من مكانة في حفظ الثقافة، والعزة القومية، والمعارف الإسلامية، من إعادة النظر في تعليمها تعليما صحيحا ييسر بغرض التفهيم، لا بغرض تجاوز العزائم إلى الرخص، وبذلك نرتقي باللغة العربية إلى المستوى الذي تتمكن فيه من التعامل الإيجابي مع تحديات العولمة في الحاضر والمستقبل.

من الواجب إذن، أن نؤسس لفكر علمي وحضاري عربي يعكس شخصية الأمة العربية، وهويتها. لتستطيع التغلغل ومن ثم التأثير هي الأخرى بدل الاكتفاء بالتأثر الأحادي الجهة.


المصادر والمراجع :

ّ -عبد الملك مرتاض، التعددية اللغوية فخ جديد لتمزيق الهوية الوطنية، مجلة العربي، العدد 500 ،أكتوبر2000 م، الكويت

عبد الله الطيب، مشكلة الأداء في اللغة العربية، مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، المجلد 73 الجزء 3 يوليو 1998

علاء زهير عبد الجواد العولمة والمجتمع الرواشدة دار الحامد للنشر والتوزيع الأردن 2007

محمد عابد الجابري العرب والعولمة - العولمة والهوية الثقافية مركز دراسات الوحدة العربية بيروت لبنان ط2 1997

  1. ^ حسن.، باكلا، محمد (1982). Ibn Jinni, an early Arab Muslim phonetician : an interpretive study of his life and contribution to linguistics. European Language Publications. OCLC:12286760.