مستخدم:Aahed58/ملعب

كنيس جوبر: منقول من مقالة للاستاذ نبيل فياض

جوبر قرية صغيرة شمال شرق دمشق. اسم جوبر مكّون من جذرين باللغة العبريّة: " غب " وتعني " الوكر "، و" بر " وتعني " البرية "، كما في العربيّة تماماً. ثم أدغم الجذران وصارا اسماً واحداً. من المعلومات الهامة التي أوردها الرحالة الفرنسي دارفيو، في القرن السابع عشر، قوله " إن جوبر لا يسكنها غير اليهود " (Memoires du chevalier D. Anvieux, Chapitre xxvi ). وتشير كل المعلومات والدلائل التاريخيّة إلى أن تأسيس قرية جوبر كان على يد بعض أنبياء اليهود منذ حوالي 2700 سنة، وكان ذلك استثنائيّاً على نحو خاص.

تروي المصادر الإسلاميّة أنه " لمّا قبض الله حزقيل عليه السلام، عظمت الأحداث في بني إسرائيل وظهر فيهم الفساد ونسوا عهد الله إليهم في التوراة التي نزلت على موسى عليه أطيب السلام؛ حتى نصّبوا الأوثان وعبدوها من دون الله، عز وجل. فبعث الله إليهم إلياس نبيّاً؛ وهو إيليا التشبي أو إلياهو، المذكور في القرآن الكريم: بسم الله الرحمن الرحيم. وإن الياس لمن المرسلين. إذ قال لقومه ألا تتقون. أتدعون بعلاً وتذرون أحسن الخالقين. الله وربّكم وربّ آبائكم الأوليّن. فكذّبوه فإنهم لمحضرون. إلا عباد الله المخلصين. وتركنا عليه في الآخرين. سلام على الياسين. إنا كذلك نجزي المحسنين. إنه من عبادنا المؤمنين ( الصافات 123 – 132 ). وكان قد تملّك على العبرانيين آنذاك آخاب بن عمري ملك السامرة، وزوجته الملكة إيزابيل الصيدونيّة؛ وكان هذان الملكان جبارين ظالمين، إلى جانب أنهما ورعيتهما كانوا يدينون بعبادة بعل الصنم؛ فما يعرفون لأنفسهم غيره ولياً...فجعل إلياس يدعوهم إلى الله تعالى وهم لا يطيعونه ولا يجيبونه، بل يعمهون في كفرهم وطغيانهم؛ وأيس الياس من صلاح أمر بني إسرائيل واهتدائهم، فدعا ربّه أن يعاقبهم بحبس المطر عنهم ومنع الخير عن بلادهم حتى تلين قلوبهم، وطلب إليه أن لا ينزل المطر إلا بدعواته؛ وهكذا كان... ولمّا سمعت الملكة إيزابيل زوجة آخاب نبأ مقتل دعاة البعل ( بأمر من الياس )،استطار الشرّ في نفسها وصمّمت على قتل إلياس، الذي بات مهدّداً لملكها، فيلتمس النجاة هاربا ًنحو بئر السبع، ثم يجد في السير حتى يوافي جبل " حوريب " بسيناء.وهناك يأتيه أمر الله تعالى بالسير إلى بريّة دمشق ليمسح حزائيل الآرامي ملكاً على دمشق بدلاً من الملك بنحدد الثاني؛ وليمسح ياهو بن نمشي ملكاً على بني إسرائيل ليخلف آخاب وابنيه أخزيا ويهورام وليمسح إليشاع بن شافاط نبيّاً بعده. وذهب إلياس إلى بريّة دمشق فوجد إليشاع هناك ومسحه في نفس البقعة التي وجده فيها [ وقد اتفق فيما بعد أن كنيس جوبر بني فوق هذه البقعة ]. وبعد ذلك صار إليشاع تابعاً لإلياس، يرافقه أينما حلّ وارتحل. [ يضيف بعض المؤرّخين أن إلياس اختبأ في مغارة جوبر أربعين ليلة خوفاً من إيزابيل ]... وتختم سيرة النبي إلياس بأن الله تعالى رفعه إليه بعد انتهاء مهامه النبويّة، ولا زال يعتقد اليهود والمسلمون على حدّ سواء أن سيدي إلياس عليه السلام، لا زال حيّاً، لا يقبض الله روحه إلى يوم القيامة " ( الثعالبي، عرائس المروج 223 – 231 ). ما نستخلصه من الحكاية السابقة ومن نص توراتي متعلّق بإلياس: " فقال له الرب: امض فارجع في طريقك نحو بريّة دمشق " ( 2 مل 19: 15 – 17 )؛ هو أن إلياس قضى آخر أيّام نبوته في مكان ما في بريّة دمشق، واختبأ في مغارة هناك، ومسح كلاًّ من إليشاع وحزائيل في المكان ذاته. يجمع اليهود عموماً على أن هذا المكان يقع تحديداً في بلدة جوبر، الواقعة إلى الشرق من دمشق؛ وبسببه بني الكنيس الفخم المعروف هناك منذ القدم. يعزا بناء الكنيس إلى إليشاع الذي أقام مع إلياس في هذا المكان بالذات، حيث مسح إلياهو إلياس نبيّاً؛ ويقال إن المكان وُجد عندما قدم إلى دمشق عام 3034 وفق التقويم العبراني. ويؤكّد قدم هذا الكنيس ما جاء في التلمود من ذكر له منذ أكثر من ألفي عام، حيث الحديث عن " كنيس جوبر المقدّس ". بعدها، راح اليهود يتوافدون إلى الكنيس لتنشأ في نهاية الأمر قرية حوله، اسمها جوبر. يروي الرحالة اليهودي، الرابي فتاحيا الراصبوني، الذي قام برحلته بين الأعوام 1170 – 1187، وزار أثناءها دمشق، أنه " بقرب دمشق كنيس مشهور قديم بناه النبي إليشاع "( Adler, Jewish Travellers; The Travel of Rabbi Petachia of Ratisbon 1170 – 1187 A. D. P. 90.). كما يذكر الرحّآلة اليهودي، الرابي موشيه باسولا، بين العامين 1521 – 1522، " أن سدنة الكنيس أخبروه أنه قائم منذ زمن إليشاع " ( Lewis, A Jewish Source on Damascus, p. 183 ). الغريب أن هذا الكنيس الأثري، رغم قدمه وأهميته، لا نجد له ذكراً في الأعمال الحديثة، سواء التي تتناول سوريا أم دمشق: إلا ما ندر. بل إن قلة قليلة للغاية من السوريين يعرفون اليوم أن هنالك كنيساً غاية في الجمال والأهميّة، لا يبعد عن دمشق أكثر من بضع دقائق بالسيّارة. مع ذلك، فقد نشر المؤرّخ اليهودي، أدولف نويبار، الباحث في جامعة أكسفورد، كتابات غير محدّدة التاريخ، لمؤرّخ قديم يدعى زحباري، ذكر فيه كنيس جوبر ومؤسسيه، ودوّن لائحة باسماء العلماء والأعيان اليهود من سكّان جوبر الأصليين ( Adolf Neuber: v, 1, 152 – 153 ). جوبر الآن، ليس بها أحد من اليهود، ولا يسكنها غير المسلمين. فكيف حدث ذلك؟ الفارس دارفيو ينفي بالمطلق أي وجود لجماعة غير يهوديّة في جوبر عام 1660وما قبلها. الأقوال ذاته يؤكّدها الرحالة جان تيغزم عام 1664 ( Relation d' un voyage au levant, p. 437 ). لكن المؤرّخ الدمشقي، ابن طولون الصالحي، يذكر " أن جوبر هي قرية شرقي مدينة دمشق لليهود، وبها جماعة من المسلمين "( ضرب الحوطة على جميع الغوطة، 155 ). يعتقد أن أول نزول للمسلمين في جوبر جاء بعد دخول المسلمين لدمشق مباشرة؛ واستمرّوا فيها وتزايدوا حتى صار كلّ سكانها اليوم من المسلمين. أمّا اليهود الذين كانوا هناك، فيرجح أنهم تركوا البلدة بين عام 1660 ( وقت زارها الفارس دارفيو ) والقرن العشرين. يقول الرحالة الألماني، عام 1806: " إن جوبر كانت مأهولة أصلاً باليهود، الذين أسلموا بالتدريج "( Zeetsen, Ulrich Jasper, Reisen durch Syrien, Palastina, Phonicien, die Transjordan – Lander, p. 314 ). لكن المرجح أن اليهود تركوا القرية لكثرة توافد المسلمين عليها؛ ففضّلوا سكن دمشق، في حيهم المعروف باسمهم، خاصّة وأن مصالحهم الحيويّة والتجاريّة كانت تستدعي منهم البقاء في قلب العاصمة.

وصف الكنيس:

في قلب جوبر، وفي شارع ضيّق، ثمة باب حديدي كبير لا ينم مظهره الخارجي أن خلفه أشياء غير عاديّة. وحين كنت تقرع الجرس الواقع إلى يسارك، كان يفتح لك الباب رجل سمين للغاية – الآن لم يعد الرجل موجوداً، وأشياء كثيرة، للأسف، يتم تغييرها – فتلمح خلفه شجرة البرتقال العجوز، تظلّل الباحة الضيّقة تماماً أمام باب الكنيس الداخلي. بعد أن تلج الكنيس، تجد إلى اليسار غرفة سادن الكنيس؛ وقربها غرفة مجلس الملّة اليهودي؛ إلى اليمين، باب صغير تقبع قربه عدّة حنفيّات يستعملها المتدينون للوضوء. أمام الحنفيّات وضع أبريق نحاسي جميل، استعمل سابقاً للغاية ذاتها ( الوضوء اليهودي يكون بغسل الوجه واليدين سبع مرّات ). يعطيك سادن الكنيس، بتهذيب يهودي معروف، " مشاية " خاصة تستعمل من أجل الدخول إلى الكنيس. ما أن تدخل هذا البناء الرائع الكبير، حتى ترى مقام إلياهو النبي وقد وضعت عليه لوحة، مكتوب عليها بالعربيّة والعبريّة والفرنسيّة، " في عام ثلاث وأربعين وثلاثة آلاف للخليقة وفي هذا المكان مسح إليشاع بن شافاط نبيّاً عن يد إلياهو النبي عليه السلام ". وفوق اللوحة الرخاميّة القديمة، وضعت مينوراه [ شمعدان سباعي ] تزينها الماغين دافيد [ نجمة أو درع داود ] السداسيّة الزوايا. قبل سنوات، كنت زرت الكنيس برفقة تلميد ( طالب تلمودي، يؤهل عادة لأن يكون حاخاماً ) يهودي، بهدف استكشاف هذا الأثر التاريخي الهام والمجهول؛ لبسنا الشال والطاقيّة وأشعلنا في المغارة، قرب كرسي إلياهو النبي، قناديل لهذه الشخصيّة المقدّسة عند الأديان الثلاثة. آنذاك، كانت الرخامة الموضوعة فوق المزار تحمل بصمة قدم كبيرة محفورة في الحجر، بعمق حوالي 2 سم تقريباً؛ ووقتها ذكر لي أن هذه هي قدم إلياهو النبي قبيل عروجه إلى السماء. والمقام محاط بإطار حديدي تزينه لوحة عليها أحرف عبريّة. اليوم لا أثر لبصمة القدم. الكنيس كبير الحجم تقريباً، مستطيل الشكل ( 15X50م.) تقريباً. الجدران مزينة بكثافة شرقيّة بلوحات وفوانيس وكلمات عبريّة. لكن لا توجد في الكنيس صور. في الكنيس نجد اسم الإله مكتوباً بزخرفيّة ملفتة. وسط الكنيس، توجد مصطبة عالية، تستعمل في الطقوس، يجلس فيها الحاخام وكبير المرتلين. ومساحتها حوالي 9 م2. في واجهة الكنيس يوجد المحراب، الذي توضع فيه خزانة خشبيّة في داخلها مدرجة التوراة، المكتوبة على جلد غزال، والملفوفة على أسطوانات فضيّة؛ والتوراة مجزأة بشكل منتظم بحيث يقرأ منها كل يوم مقطع على مدى السنة العبريّة. وينتهي الكتاب بنهاية السنة. في الجانب الأيمن الشمالي من الكنيس، قرب المحراب، توجد غرفة صغيرة مربعة بباب ذهبي رائع، يمنع على المرء الدخول إليها إلا حافياً، تقبع تحتها المغارة التي يقال إن إلياهو النبي كان يقيم فيها. من الغرفة إلى المغارة سبع درجات نزولاً؛ والبناء قديم للغاية، لا تطفأ فيه قناديل الزيت." عال نشمات إلياهو النبي ". لفت نظري في إحدى زياراتي للكنيس وجود سجادة صلاة إسلاميّة عليها صورة مكة والمدينة، تحمل لوحة سوداء مطرز عليها أحرف عبرانيّة ذهبيّة اللون. لكني لم أرها بعد ذلك، وإن كانت صورتها ما تزال بحوزتي. ويمكن أن نعزو ذلك إلى النوستالجيا اليهودية التي ما تزال تدغدغ ذاكرتنا الجمعية، بقصص بني قريظة والنضير وغيرهم. كان كنيس جوبر يستعمل بشكل خاص لأداء صلاة الصباح اليهوديّة في أيام السبت، حيث كان " عام ها يسرائيل "، عموم بني إسرائيل، يذهبون إلى هناك سيراً على الأقدام. الآن: ما بقي لنا غير بناء مهجور من أهله، وأسفار قديمة، يتقدّمها سفر " زوهر " القبالي؛ ورائحة بخور وشمع وزيت مقدّس!! ألم نقل منذ سنوات أن دمشق تفقد ألوانها الحانوكيّة الجميلة لصالح الأسود الكئيب؟ شئنا أم أبينا، اليهودية جزء أساسي من تاريخ الشرق الأوسط، خاصة سوريا الكبرى. الصراع السياسي القائم اليوم بين الإسرائيليين والعرب، وحده يحجب الحقائق الأهم للديانة الأهم في تاريخنا. من هنا، كنت أتصرّف زمن الصديق ألبير حمرا وكأن الكنيس جزء من تراثي الشخصي. وكنت بالفعل أشعر برهبة غير اعتيادية حين أخلع حذائي على بابه قبيل الولوج فيه. بل لا أذيع سرّاً حين أقول إني أنا من اقترح على الحاخام حمرا إجراء تغييرات في الكنيس تعيده إلى وضعه الطبيعي الحقيقي، أي إزالة ما يمكن تسميته لمسات عصرية على البناء القديم الرائع. السياسة تفسد التواصل المعرفي والإنساني. والصراع السياسي العربي-الإسرائيلي أضاع وقت المنطقة في نزوات سرقت منا روحانيتنا وتراكمية معارفنا. ألم يحن الأوان كي نعود قليلاً إلى ذواتنا الأعمق لنفهم أن الحروب لا تورث غير الكراهية والتلهي عن الحضارة بالترهات؟