مستخدم:محمد أبو شنب/ملعب

المرأة بطبيعتها الإنسانية مجتمعًا طبيعيًا حاضن بذاته للإنسان، بداخله يتكون وينمو، وخارجه يعيش ويحيا، وهى حالة تكاد تكون مماثلة تمامًا للمجتمع الكبير الذى نعيش فيه، والذى تتكون أولى عناصره من الفرد، ومن ثم تتشكل باقي الجماعات والمجموعات داخل اطار ذلك المحيط المكاني الذى يجمع بدوره بين مختلف الكائنات الحية والعوامل الفيزيقية المحيطة به في آن واحد، وهذا ما يمكن أن نصفه بالكيان الطبيعي للمرأة بشكل عام، ذلك الكائن الإنساني الاجتماعي الثقافي الذى يجمع بطبيعته الإنسانية بين ذلك "الكل" الذى يتمثل في المجتمع، و"الجزء" الذى يتمثل في الإنسان.

ومن خلال تلك التفاعلات المتبادلة بين كلًا منهما بالآخر، أو بعبارة أخرى العلاقة القائمة بين كلًا من الإنسان والبيئة المحيطة به، يمكننا بالتالي فهم طبيعة ذلك التراث الثقافي فهمًا دقيقًا بواسطة ما يعرف بـ "النسق الإيكولوجي"، تلك "النظرية التى تقوم على أساس مشترك من نظرية الإنساق، الإيكولوجيا البشرية، الأنثروبولوجيا الثقافية، مما يعكس هذا الأمر بشكل أو بآخر التداخل في نسيج الثقافة الشعبية، كما أنه يكشف من ناحية أخرى عن أنماط هذا التفاعل من منظور ثقافي وسلوكي".

فالمرأة كإنسان قادرة على إنتاج كافة المفردات والعناصر الثقافية، على أساس أن هذه العملية الإنتاجية للثقافة تعد من أهم الخواص التى تميز الإنسان عن غيره من باقى المخلوقات، فـ "الثقافة لا توجد إلا بوجود المجتمع، الذى تتكون عناصره الأولى من الفرد، والمجتمع لا يقوم ويبقى إلا بوجود الثقافة، التى هى في الأساس من صنع الإنسان، ومن هنا تتكون شخصيته وتحمل سماته"، وهذا ما أكده علماء الأنثروبولوجيا الثقافية في أن "الثقافة مسئولة عن الجزء الأكبر من محتوى أى شخصية، وكذلك عن جانب مهمم من التنظيم السطحى لها، وذلك من خلال تأكيدها على اهتمامات أو أهداف معينة".

لذا لا تخلو المجتمعات الإنسانية عامًة، أيًا كانت بسيطة أم متحضرة، من وجود المرأة، كما لا تتقدم وترتقى هذه المجتمعات إلا من خلال الأدوار الرئيسية التى تلعبها تلك المرأة بشكل مباشر في مختلف مجالات الحياة، كجزء أساسي هام في بنيان كيان المجتمع والثقافة معًا في آن واحد وذلك عبر مسيرة الحياة الإنسانية، لكونها "تمثل واحدة من أهم شرائح المجتمع، على الرغم من تباين مكانتها، واختلاف أدوارها طبقًا لاختلاف بيئاتها، وما يحيط بها من عوامل".

وهنا نجد أن المرأة الإفريقية بشكل عام، والنوبية بشكل خاص، قد نالت منذ أقدم العصور التاريخية مكانة اجتماعية خاصة، رفيعة المستوى، شهد لها التاريخ، ودَون ذلك عبر صفحاته، وهى منزلة عظيمة الشأن توضح مدى أصالة وعمق عراقة المرأة المصرية القديمة، حيث "أثبتت بحوث علماء علم الإنسان الذين فحصوا الجماجم البشرية في كلًا من القطرين "المصري والسوداني"، أن كلاهما ينسب إلى سلالة واحدة وهى السلالة الحامية، وأن هذه السلالة قد ظلت نقية حتى عهد الأسرة الثامنة عشر حوالى 1580 ق.م، وهناك العشرات إن لم يكن المئات من الدلائل المادية والشواهد وغير المادية التى تشير بوضوح تام عن مكانة تلك المرأة، تلك المكانة التى ربما لم تحظي بها غيرها في أي حضارة من حضارات العالم القديم، مثلما شهدت ذلك في أحضان الحضارة المصرية القديمة. 

فإن دلت هذه المكانة على شىء، إنما تدل صراحًة على أن هذه المرأة قد حظيت بقدرًا عظيم الشأن من الاحترام الشديد لقيمة كرامتها الإنسانية، يكاد يصل بها هذا القدر العالي من تلك المكانة إلي درجة التقديس، وهى في واقع الأمر "حقيقة إنسانية تعامل معها الإسلام ليؤكد أصالة تلك الكرامة، بل ليرسخ في الإنسان احساسه بكرامته، ومدى تمسكه بها، وصونه لها، لآنها جوهر إنسانيته، ثم مضى القرآن الكريم في ترسيخ تلك الحقيقة في قوله تعالي ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾.

وهذا ما يمكن الكشف عنه وإظهاره بشكل واضح وملموس، خاصًة عندما نتعمق في البحث عن تاريخ المرأة النوبية ومكانتها المرموقة التى نالتها عبر مختلف العصور، فضلًا عن الدور البارز الذى تؤديه في كافة المجالات وفي مختلف نواحى الحياة، خصوصًا من ناحية الثقافية في كيفية صون كافة الموروثات التقليدية المتوارثة التى تنتقل تباعًا للإجيال المتعاقبة عبر الزمان والمكان، مما ساهم كل ذلك على استمراية ممارسة معظم المفردات والعناصر الثقافية، أيًا كانت طبيعتها مادية أو غير مادية، من الماضى إلى الحاضر، حتى وإن طرأ عليها بعض التغيرات أو التطورات سواء بالإضافة إليها أو الحذف منها أو الإستبدال في بعض أو كل عناصرها بعناصر أخرى جديدة، وقد يرجع ذلك بفعل ما تعرض له المجتمع النوبى القديم قبل مرحلة التهجير المعروفة من عوامل قوية ومؤثرة في ذات الوقت، دفعت به بالضرورة إلي حدوث تلك التغيرات الاجتماعية والثقافية من آن إلي آخر، ومن بيئة إلي أخرى.

ولا شك في أن الثقافة النوبية بشكل عام قد صقلت تلك المرأة بخصائص مميزة وسمات خاصة، أتاحت لها الفرصة أن تتمتع بكلًا منهما أينما تكون، وهى تلك الخصائص والعناصر الشعبية التى ترتبط ارتباطًا وثيقًا بطبيعة تلك البيئة الثقافية التى نشأت فيها منذ أقدم العصور التاريخية، فمن المعروف أن لكل مجتمع من المجتمعات الإنسانية، بل لكل بيئة من البيئات الثقافية، ثقافته الخاصة التى يتسم بها ويعيش فيها، كما أن لكل ثقافة ميزات وخصائص ومقومات، مادية وغير مادية، تختلف عن غيرها من الثقافات الإنسانية الأخرى، وقد يرجع السبب الأساسي في ذلك إلى اختلاف المعاني والغايات التى يتصورها العقل الجمعي الإنساني في أزمنته وأمكنته المختلفة، بالإضافة إلى درجة تفاعل الإنسان ذاته ومدى استجاباته مع الوضع القائم في المجتمع، مما يدل ذلك على أن "الواقع الميداني للثقافة الشعبية يبين ذلك الكل الذى يتكامل فيه المادي وغير المادي، الملموس والمعنوي، المٌجسد والروحي، بحيث يحقق الجانب المعنوي أو الروحي وجوده بواسطة المظهر المادي، كما يحقق الجانب المادي وجوده الثقافي بواسطة المعانى والقيم التى تسبغ عليه.

ففي ميدان العادات والتقاليد الشعبية، الذى يعد بوصفه أحد الميادين الرئيسية الكبرى التى تتفرع من أقسام علم الفولكلور "الثقافة الشعبية"، أو ما يعرف بعبارة أخرى بالممارسات الاجتماعية والطقوس والاحتفالات طبقًا لتعريف "التراث الثقافي غير المادي" في المادة رقم (2) من اتفاقية منظمة اليونسكو لعام 2003 الخاصة (بشأن حماية وصون التراث الثقافي غير المادى)، فإننا نجد أن المرأة النوبية في هذا الجانب من جوانب التراث الشعبى تعد بمثابة ذلك العامل الأساسي الكامن وراء الحفاظ وصون وترسيخ كافة الموروثات التقليدية، وخاصًة تلك التى ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالعادات التى تعرف اصطلاحًا في مجال الدراسات الشعبية بـ "عادات دورة الحياة"، كعادات مرحلة (الميلاد – الزواج - الوفاة)، وهى تلك العادات الشعبية التى تحتوي على العشرات إن لم يكن المئات من المفردات والعناصر الثقافية الخاصة بكل مرحلة من هذه المراحل، وذلك في إطار السياق الثقافي نفسه الذى يمارس فيه كل عنصر من هذه العناصر.

ففي مرحلة الحمل، تقوم الأم (ام المرأة الحامل) بتقديم العديد من النصائح لإبنتها خوفًا وحرصًا عليها وعلى الجنين، ومن أبرز هذه النصائح التى تقدمها (عدم تناول بعض المشروبات الساخنة أو الماكولات الحارة، (كالقرفة، النعناع، الجنزبيل، الشطة)، وخاصًة في الشهور الأولى من الحمل، كما تحرص كذلك على راحتها جيدًا، لذا تنصحها بعدم الصعود أو النزول من الأماكن العالية، أو حملها للأشياء الثقيلة، أو السير لمسافات طويلة، فمثل هذه الأمور قد تساعد على عدم ثبات الجنين)، وتظل هذه النصائح في ذهن المرأة الحامل حتى تقوم هى الأخرى بتقديمها إلي إبنتها مستقبلًا.

وفي ليلة الحنة، وخاصًة أثناء عملية تحنية العريس على سبيل المثال، تقوم الأم (أم العريس) أو إحدى السيدات ممن تتوافر فيهن الشرواط الواجب توافرها القيام بهذه العملية، بتخضيب العريس بعجينة الحناء في اليدين والقدمين، حيث يتم تحضير مسحوق نبات الحناء، بالإضافة إلي بعض المواد (كالسكر - الليمون - زيت الطعام)، وبعض الأنواع الأخرى من العطور والزيوت (كالمحلبية والسرتية - الصندلية)، ثم تقوم الحنانة بخلط هذه المكونات مع بعضها البعض وتركها لمدة ساعتين حتى تختمر، وبعد ذلك تقوم بمسح المناطق المراد تحنيتها بالنسبة للعريس بالزيت في اليدين والقدمين، ثم تقوم بوضع عجينة الحناء بعد ذلك، أما العروس فإنها تذهب إلى الكوافيرة، حيث تتزين بالحناء عن طريق وضعها على هيئة نقوش ورسومات.

وتوجد هناك العديد من الأمثال الشعبية النوبية التى توضح بشكل قوى ومباشر على مدى وأهمية دور المرأة، ومنها على سبيل المثال وليس الحصر (إينجَا كٌوني وِرجَا (أورجَا) فِيمون) بمعنى "من له أم لا ينام بلا غطاء (طاويًا بلا عشاء)، ويضرب هذا المثل لبيان سعادة من كانت أمه على قيد الحياة، أو تعاسة من فقد أمه، وكذلك (إدين دِيونشَلا هِجج مَآرمون) بمعنى "لا تعدم المرأة حجة في المطبخ"، ويضرب هذا المثل للمرأة التى لا تغلب في ميدان عملها.

المراجع:-

([1]) ماهر حبوب. معجم الأمثال النوبية.- ج1.- ط1.- القاهرة: دار النسيم للنشر والتوزيع، 2014.- 303 ص.

([2]) جيهان حسن مصطفى. الزواج والبيئة في منطقة الشلاتين.- ط 1.- القاهرة: الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2009.- 344 ص.

([3]) عبد الغنى عماد. سوسيولوجيا الثقافة: المفاهيم والإشكاليات.. من الحداثة إلى العولمة.- بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2006.- 363 ص.

([4]) محمد الجوهرى. علم الفولكلور: الأسس النظرية والمنهجية.- مج 1.- القاهرة: مركز البحوث والدراسات الاجتماعية – كلية الآداب – جامعة القاهرة، 2016.- 374 ص.

([5]) محمد العقيد. المرأة الأفريقية ودورها في النهوض بالقارة.- المنتدى الإسلامى.- ع 24 (يونيو 2015).- ص 68 – 77.

([6]) سليم حسن. تاريخ السودان المقارن إلي أوائل عهد "بيعنخي".-  القاهرة: مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2012.-  510 ص.-  ص 7.- (موسوعة مصر القديمة، 10).

([7]) برهان زريق. الكرامة الإنسانية.- ط 1.- سوريا: وزارة الاعلام السورية، 2006.- 474 ص.

[8])) القرأن الكريم. سورة الإسراء. الأية رقم (70).

([9]) محمد أبو شنب. المرأة النوبية ودورها في ترسيخ الموروثات الشعبية.. عادات الميلاد.. نموذجًا.- ص 473 – 499.- في: المؤتمر العلمي الدولي الثاني بأكاديمية الفنون "المرأة الإفريقية أيقونة القارة السمراء"، 6 / 7 إبريل 2020.- القاهرة: أكاديمية الفنون، 2020.