مستخدم:الباحث عمرفاروق/ملعب

فقه الأولويات في ضوء واقعنا المعاصر

مقدم إلى جائزة

المجلس الأعلى للشئون الإسلامية للدراسات الإسلامية

في مجال البحث العلمي 2019م

إعداد الباحث

عمر فاروق محمود محمد

كبير أئمة بدرجة مدير عام وزارة الأوقاف أوقاف أسيوط

الإهداء

أهدي موضوع البحث العلمي : " فقه الأولويات في ضوء واقعنا المعاصر"   في سبيل الله

إلى المجلس الأعلى للشئون الإسلامية

الباحث

عمر فاروق محمود محمد

كبير أئمة بدرجة مدير عام

وزارة الأوقاف-  أوقاف أسيوط

المقدمة: الحمد لله رب العالمين.. قال تعالى : إن أولى الناس بإبراهيم للذين إتبعوهُ وهذا النبيُ والذين ءامنوا والله وليُ المؤمنين. ()

سبحانه الذي  فضل بعض الأعمال علي بعض فقال تعالى: ﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ () أشهد أن أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له... حذر من إهمال الأولويات وتوعد ذلك بالويل والهلاك فقال تعالى ﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ ().وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم وضح منهج الإسلام في ترتيب الأولويات فبين قاعدة الأولويات وتقديم الأهم فالمهم فقال " لمعاذ بن جبل رضي الله عنه عندما أرسله إلى أهل اليمن فقال عليه الصلاة والسلام: ((إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)). فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلي يوم الدين...

أما بعد...... تمهيد: أبدء بما قاله نبي الله شعيب عليه السلام ، قال الله تعالى: ( إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب)().

إن الإسلام جاء منظما لحياة البشر، مؤكدا على ضرورة الترتيب بين الأشياء بحسب أولويتها وأهميتها بالنسبة للفرد المسلم وللأمة المسلمة، قال تعالى: ﴿ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ ()، وقال أيضا: ﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ ()، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ردا على سؤال حول أي الجهاد أفضل؟ فقال: كلمة حق عند سلطان جائر.()

هدف البحث:

يهدف البحث: إلى إعادة صياغة التشريعات الإسلامية و العادلات والمعاملات وإعطاء كل واحدة قيمة أو نسبة وبالتالي يكون امامنا معادلة للمقارنة بين كل حدين ، فيحدث الترتيب والتنظيم في المجتمع المسلم وفي حياة الفرد المسلم.

إشكالية البحث:

  تناولت الدراسة موضوع فقه الأولويات في ضوء واقعنا المعاصر، لما له من أهمية خاصة لكثرة تداوله في واقعنا المعاصر.

الحل : حل إشكالية البحث ، توصلت إلى أن فقه الأولويات هوالقاعدة المبنية على فهم الأنسب والأجدر من الأعمال، ومعرفة فاضل الأعمال ومفضولها، وراجحها ومرجوحها، بناء على العلم بمراتبها، وبالواقع الذي يتطلبها، بغرض تحقيق أهم المصالح بأخف الأضرار، ومعرفة النتائج التي يؤول إليها تطبيق تلك الأعمال.

وقد قمت بتأصيل مفهوم الأولويات شرعاً باستقراء نصوص القرآن الكريم، والسنة، وأقوال بعض العلماء وتحليل هذه النصوص والأقوال، وأبرزت الدراسة أن مبدأ مراعاة فقه الأولويات ثابت ومحدد في الشريعة الإسلامية وأن الشواهد على فقه الأولويات كثيرة. وعليه فإن موضوع فقه الأولويات في ضوء واقعنا المعاصر الذي نود دراسته، والتعرف إلى مفهومه وتأصيله في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وكذلك في أقوال العلماء، وإدراك كيفية تحديد فقه الأولويات، سيؤدي بلا شك إلى رفع مستوى التفكير لدى المسلم بأسلوب مرن يتكيف مع الواقع، وبعقل نيّر وفق منهجية واضحة.      

خطة البحث :

قسمت البحث إلى ثلاثة مباحث:

-المبحث الأول:الموضوع والمتن: مفهوم الأولويات، وفيه مطلبان:

-المطلب الأول: تعريف الأولويات لغة. تعريف الأولويات اصطلاحاً. أدلة فقه الأولويات من الكتاب والسنة والإجماع . الأولويات. ترتيب الأولويات حسب الأهمية الأحق والأجدر. حاجاتنا إلى فقه الأولويات .

- المطلب الثاني: أولى أولويات حياة المرأة المسلمة المؤمنة في فقه الأولويات. أولوية فرض العين على فرض الكفاية .

- المبحث الثاني: تحديد الأولويات وتقديم الواجبات وفيه ثلاثة مطلبان:

- المطلب الأول: فقه الأولويات والموازنات. فقه الأولويات والثوابت. فقه الأولويات والمآلات . فقه الأولويات في مجال العلم والفكر. قواعد فقه الأولويات

-المطلب الثاني: ارتباط فقه الأولويات بأنواع أخرى من الفقه. فقه الأولويات علم في كتب تراث الأمة الإسلامية من كتب الفقه والأصول والعقائد

- المبحث الثالث: ضوابط تحديد الأولويات في ضوء واقعنا المعاصر. وفيه ثلاث مطالب.

- المطلب الأول: الخلل في ترتيب الموازنات والأولويات في واقعنا المعاصر.

ثقافة فقه الأولويات في ضوء واقعنا المعاصر . ضعف مراعات فقه الأولويات.                                                                                                                                                                                                   المطلب الثاني : تطبيق فقه الأولويات في ضوء واقعنا المعاصر . فقه الأولويات في تراثنا .

المطلب الثالث : تأصيل الأولويات . الأولويات في مجال الإصلاح . الخاتمة وفيها أهم النتائج والتوصيات . المصادر والمراجع.

                                                                                                                                                                         

المتن :

المبحث الأول:مفهوم الأولويات:

نتناول في هذا المبحث مطلبين : المطلب الأول: تعريف الأولويات لغة وإصطلاحاً .

تعريف الأولويات لغة :

تعود كلمة أولويات إلى أصل (و، ل، ي) ولي، والوَلي: هو القُرب يقال: جلستُ مما يليه: أي مما يقاربه. ومن ذلك قوله تعالى: (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى* ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى)() أي أهلكك الله تعالى هلاكاً أقرب لك من كلّ شرّ، وقال الأصمعي: قاربه ما يهلكه، بمعنى التهديد والوعيد.

والأَوْلَى صيغة تفضيل على وزن أفعل للمقاربة، من باب أحرى، وفي التنزيل:(إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) () بمعنى الأحق والأجدر. يقال: فلان أولى بهذا الأمر من فلان: أي أحقّ به، وفلان أَولى بكذا: أي أحرى به وأجدر. وفي الحديث "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأَولى رجل ذكر" أي أدنى وأقرب في النسب إلى المورث، فهو الأولى، وهم الأوالي والأَولون .

ومنه تكون النسبة: أولوية، وجمعها: أَولويات، يقال: له الأولوية في هذا العمل، أي له الأحقية. أما النسبة (أوّليات)، فهي النسبة من أَوَّل: نقيض الآخر، يقال: هذا أوّل بين الأولية ومؤنث الأول: الأولى، وجمعها: أوّليات. وباختصار يمكن القول إن الاستعمال اللغوي لمصطلح الأولويات ينحصر في المعاني التالية: الأحق والأجدر والأرجح و الأقرب. وقد قمنا باستقراء لكلمة "أولى" في القرآن الكريم فوجدنا أنها قد تكررت في سبع آيات، تضمنت المعاني السابقة الذكر وهي على ترتيب المصحف:

1- قـوله تعـالى: (إِنَّ أَوْلَى النَّـاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) ()أي أحق الناس بمتابعة إبراهيم الخليل الذين اتبعوه على دينه وهذا النبي يعني محمداً صلى

الله عليه وسلم، والذين آمنوا من أصحـابه المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بعدهم ، فالأولى في الآية بمعنى الأحقّ.

2- قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا)() والأولى في الآية أيضاً بمعنى الأحقّ.

3- قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنْكُمْ وَأُوْلُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ()، فالأولى في الآية بمعنى الأحقّ والأقرب .

4- قوله تعالى: (ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا) () أي أحق بجهنم دخولاً واحتراقاً. إلى غيرها من الآيات ،  ويتّضح لنا مما سبق أن لفظ الأولى في الآيات الكريمة جاء بمعنى الأحقّ والأجدر والأقرب. وقد  ورد في السنة النبوية ما يدل على المعاني السابقة مثل:

1- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه حتى كأنّه منذر جيش، ويقول: "بعثت أنا والساعة كهاتين ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى، ويقول: أما بعد فإنّ خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، ثم يقول: أنا أَوْلى بكل مؤمن من نفسه، من ترك مالاً فلأهله، ومن ترك ديناً أو ضياعاً فإليّ وعليَّ"  فالمقصود بكلمة أولى في الحديث الأحقّ.

2- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدِم رسول الله المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسئلوا عن ذلك، فقالوا: هذا اليوم الذي أظهر الله فيه موسى وبني إسرائيل على فرعون، فنحن نصومه تعظيماً له، فقال النبي: "نحن أَوْلى بموسى منكم" فأمر بصومه، والمقصود بكلمة أولى الأجدر والأقرب.

3- عن رسول الله أنه قال: "أنا أَوْلى الناس بابن مريم، الأنبياء أولاد علاّت وليس بيني وبينه نبيّ" والأولى هنا بمعنى الأحقّ والأجدر والأقرب.

ويرى الباحث من خلال استعراض كلمة أولى في المعاجم اللغوية ومن استقرائها في القرآن الكريم وبعض الأحاديث أنها تدلّ على المعاني السابقة ولم تخرج عنها وكلها مجتمعة مُرادة في البحث عند قولنا أولويات، فإذا أردنا معرفة الحكم وتنفيذه، يُراعى دائماً ترتيب الأولى أي الأحقّ؛ وذلك بتقدير الأصلح والأرجح، واعتبار الأقرب للتحقيق.وقوله تعالى: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ)() ، أي قد علم الله تعالى شفقة رسوله على أمته ونصحه لهم، فجعله أولى بهم من أنفسهم أي أحقّ بذلك، وحكمه فيهم كان مقدّماً على اختيارهم لأنفسهم.. وقوله تعالى: (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ) () والأَولى في الآية بمعنى الأفضل والأرجح لهم طاعة الله تعالى وقولٌ معروف. وقوله تعالى: (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى) () فالأَولى في الآية بمعنى الأقرب، أي قاربه ما يهلكه.

وباختصار يمكن القول إن الاستعمال اللغوي لمصطلح الأولويات ينحصر في المعاني التالية: الأحق والأجدر والأرجح و الأقرب.

تعريف الأولويات شرعاً وإصطلاحاً :

معنى الأولويات:

الأولويات هي الأمور التي يُبادِر المرء بالعِناية بها، ويَحرِص على إكمالها وتقديمها على ما سِواها.

الأولويات "القطاعات والعمليات التي تُعطى أسبقية في الترتيب على غيرها، فهي نقطة البدء الأساسية في غايات المجتمع وأهدافه".

الأولويات وضع الأشياء أو الأمور في ترتيب معين حسب أهميتها، ومن الكلمات أو المفاهيم المرادفة لها مفهوم الترتيب.

تعريف الأولويات بأنها الأعمال والأنشطة التي حقها التقديم على غيرها. إلى غيرها من تعريفات تتناول العمل الإداري وضرورة ترتيب أولوياته

فقه الأولويات: "العلم بفاضل الأعمال ومفضولها، وحسن التصرف بالبدائل من خير أو شر، وذلك بمعرفة خير الخيرين، وشرّ الشرّين".استعمال لفظ الفـقه هنا جـاء بمعنى الفهم، أي فهـم الأولويات بأن تُرتّب وِفق الأهم.

فالأولويات: هي تلك القاعدة المَبْنيّة على فهم الأنسب والأجدر من الأعمال، ومعرفة فاضل الأعمال ومفضولها، وراجحها ومرجوحه.

و فقه الأولويات:هو وضع كل شيء في مرتبته بالعدل من الأحكام والقيم والأعمال، ثم يقدَّم الأولى فالأولى بناءً على معايير شرعية صحيحة يهدي إليها نور الوحي وسلامة العقل، فلا يقدم غير المهمِّ على المهم، ولا المهم على الأهم، ولا المرجوح على الراجح، بل يقدَّم ما حقه التقديم ويؤخر ما حقه التأخير، ولا يكبر الصغير ولا يصغر الكبير، بل يوضع كل شيء في موضعه بالقسطاس المستقيم.

فقه الأولويات مصطلح إسلامي حديث، يُعرَف بفقه مراتب الأعمال، حيث يفاضل بين الأعمال من حيث أيها أولى بالتقديم على غيرها.                                

والاولويات وضع كل شيء في مرتبته. فلا يؤخر ما حقه التقديم أو يقدم ما حقه التأخير ولا يصغر الأمر الكبير ولا يكبر الأمر الصغير.

مجموعة الأسس والمعايير التي تضبط عملية الموازنة بين المصالح المتعارضة أو المفاسد المتعارضة مع المصالح ليتبين بذلك أي المصلحتين أرجح فتقدم على غيرها، وأي المفسدتين أعظم خطراً فيقدم درؤها كما يعرف به الغلبة لأي من المصلحة أو المفسدة -عند تعارضهما- ليحكم بناء على تلك الغلبة بصلاح ذلك الأمر أو فساده

فالقيم والأحكام والأعمال والتكاليف متفاوتة في نظر الشرع تفاوتًا بليغًا، وليست كلها في مرتبة واحدة، فمنها الكبير ومنها الصغير، ومنها الأصلي ومنها الفرعي، ومنها الأركان ومنها المكملات، وفيها الأعلى والأدنى، والفاضل والمفضول.

معنى فقه الأولويات, وهو العلم بمراتب الأعمال ومعرفة ما هو الأجدر والأحق في تقديم بعضها على الآخر

لأن الأولويات وأفضلية الأعمال تختلف باختلاف الزمان والمكان والأحوال, وتحديدها ومعرفتها يحتاج للعلم وإعمال العقل فقه الأولويات أعني به : وضع كل شيء في مرتبته بالعدل، من الأحكام والقِيَم والأعمال، ثم يُقدِّم الأَوْلى فالأَوْلى، بناءً على معايير شرعية صحيحة يهدي إليها نور الوحي، ونور العقل: ( نورٌ على نورٍ) ().

فلا يقدم غير المهم على المهم، ولا المهم على الأهم، ولا المرجوح الراجح، ولا المفضول على الفاضل، أو الأفضل.

بل يقدم ما حقه التقديم، ويُؤخِّر ما حقه التأخير، ولا يُكبِّر الصغير، ولا يُهوِّن الخطير، بل يوضع كل شيء في موضعه بالقسطاس المستقيم، بلا طغيان ولا إخسار، كما قال تعالى: (والسماء رفعها ووضح الميزان، ألا تطغوا في الميزان، وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان) ().

وأساس هذا: أن القيم والأحكام والأعمال والتكاليف متفاوتة في نظر الشرع تفاوتاً بليغاً، وليست كلها في رتبة واحدة، فمنها الكبير ومنها الصغير، ومنها الأصلي ومنها الفرعي، ومنها الأركان ومنها المكملات، ومنها ما موضعه في الصلب، وما موضعه في الهامش، وفيها الأعلى والأدنى والفاضل والمفضول.

وهذا واضح من النصوص نفسها، كما في قول الله تعالى: ( أجعلتم سقاية الحاجِّ وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله، لا يستوون عند الله، والله لا يهدي القوم الظالمين * الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله، وأُولئك هم الفائزون) ().

وقول الرسول الكريم: (الإيمان بِضْع وسبعون شُعْبة: أعلاها "لا إله إلا الله"، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق) متفق عليه: أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها، (). كما أخرجه البخاري في صحيحه بلفظ "الإيمان بضع وستون شعبة والحياء شعبة من الإيمان، كتاب الإيمان، باب بيان أمور الإيمان،().

والخلاصة: أن فقه الأولويات هو العلم بالأمور التي ثبت لها حق التقديم وفق الأدلة الشرعية.

تعريف الأولويات اصطلاحاً :

التعريفات الاصطلاحية للأولويات في معظمها حديثة وقليلة، فمنها:

أ- تعريف (السقا) بأنها "القطاعات والعمليات التي تُعطى أسبقية في الترتيب على غيرها، فهي نقطة البدء الأساسية في غايات المجتمع وأهدافه" ز

ب- تعريف (سعادة) بأنها وضع الأشياء أو الأمور في ترتيب معين حسب أهميتها، ومن الكلمات أو المفاهيم المرادفة لها مفهوم الترتيب .

ج- تعريف (السليم) للأولويات بأنها الأعمال والأنشطة التي حقها التقديم على غيرها. إلى غيرها من تعريفات تتناول العمل الإداري وضرورة ترتيب أولوياته.

دلالة على أنّ الأولويات لها فقهٌ خاصٌ بها، وسنوجز باختصار بعض تعريفات العلماء لفقه الأولويات، والتي تساعد في وضع تصوّر شامل للأولويات.

1-  فقه الأولويات أنه "وضع كل شيء في مرتبته بالعدل، من الأحكام والقيم والأعمال، بناءً على معايير صحيحة يهدي إليها نور الوحي،"( فاستعمال لفظ الفـقه هنا جـاء بمعنى الفهم، أي فهـم الأولويات بأن تُرتّب وِفق الأهم.

2- وعرّف (العثماني) فقه الأولويات بأنه: "العلم بفاضل الأعمال ومفضولها، وحسن التصرف بالبدائل من خير أو شر، وذلك بمعرفة خير الخيرين، وشرّ الشرّين".

3- وقد عبّر (فتحي يكن) عنه: بأنه معرفة ما هو أجدر من غيره في التطبيق، بمعنى أن يقدم الأفضل والأجدر على غيره، وهذا  تابع لمعرفة طبيعة الوقت الذي يطبق فيه الأمر. هذه باختصار بعض تعريفات المعاصرين، وأهم ملحوظات الباحث هي:

أ- التعريفات تؤكّد أن القيم والأحكام والأعمال والتكاليف متفاوتة، وليست كلها في مرتبة واحدة، فمنها الكبير، ومنها الصغير، ومنها ما موضعه في الصلب، وما موضعه في الهامش، وأن الواجب على المسلمين أمةً وأفراداً المحافظة على النّسب التي جعلها الله بين التكاليف والأعمال بعضها مع بعض، حتى يبقى كلّ عملٍ في مرتبته الشرعية لا ينزل عنها، ولا يعلو عليها.

ب- اتفقت التعريفات على أحقية تقديم عمل على آخر، وهذه الأحقية يفترض ألا تكون جزافاً، بل بناءً على ضوابط ومعايير تحكم التقديم، فالشريعة الإسلامية جاءت لتوازن بين المصالح والمفاسد، وتقديم الراجح منها وفق ضوابط يمكن أن تستنبط من نصوص الشريعة بطريق الاستقراء، ولا بد من الكشف عن كيفية تحديد وترتيب الأولويات، فعامة المصالح والمفاسد تكون مزدوجة؛ فالفعل الواحد يكون مناطاً لمصلحتين، أو مصلحة ومفسدة، فالقصاص مثلاً: مصلحة للجماعة في حفظ نفوسهم، وهي مصلحة ضرورية، ولكنه مفسدة في حق الجاني.

ج- معرفة الأولويات ومراعاتها لا تنحصر بالمختصين من المشتغلين بالفتوى واستنباط الأحكام، فكل مسلم مطالب بالاجتهاد حسب الحالة التي يواجهها.

د- الظروف التي تنشئ ضرورة مراعاة الأولويات هي حالات التزاحم، وكثرة البدائل، فيراعى حينئذٍ في تحصيلها ترتيب الأولى وتقدير الأصلح.

أما إذا بحثنا عن تعريفات الأقدمين للأولويات، فلا نجد لهم تعريفاً اصطلاحياً محدداً وقد يعود السبب إلى ما يأتي:

- كون المسألة بدهية عقلية، فالعقول السليمة تجمع على ما منفعته غالبة.

- كون مراعاة الأولويات حقيقة شرعية، يُصبّ الاهتمام على تطبيقها دون أن تُوَّلى حظُّها من التدوين، فعدم تبلور مصطلح الأولويات كمبحث مستقل وقضية تُدرس في ذلك الزمن يعني عدم وجود المبررات والحاجة إلى ظهوره.

وبما أن أحكام الشريعة في مجموعها مُعلّلة، وأن وراء ظواهرها مقاصد هدف الشارع إلى تحقيقها، فإن هذا الموضوع يندرج بشكل طبيعي تحت مباحث فقهية أصولية كثيرة منها: مقاصد الشريعة، والعلة، وأقسام الحكم التكليفي، والقياس والاستحسان، ومسائل رفع الحرج والتيسير، وسد الذرائع. وغيرها من المباحث الهامّة التي راعت الأولويات في الحكم على الأعمال، وقد عرف الأصوليون والفقهاء  باستقرائهم لطريقة الشارع في التشريع أن ترتيب الأولويات سنّة تشريعية، فبنوا عليها قواعدهم الفقهية واحتكموا إليها.

فالشريعة قدمت الفرض على النافلة، والنص على الاجتهاد، ودرء المفاسد فيها أولى من جلب المصالح، والمصلحة العامة مقدّمة على المصلحة الخاصة، ويُرْتكب أخفّ الضّررين وأهون الشرّين مخافة ضرر أكبر، وغيرها من التفصيلات. وخلاصة الأمر أن الباحث لم يجد تعريفاَ اصطلاحياً للأولويات عند الأقدمين، لكنه وجدهم مدركين لمفهوم الأولويات؛ أي تقديم الأهم على المهم في طرائق تفكيرهم وجزيئات فتاواهم.

وإن كان لا بدّ من تحديد تعريف للأولويات، فنقترح التعريف الآتي وهو مستمدّ من التعريفات السابقة مع تصرّف يخدم البحث.

فالأولويات: هي تلك القاعدة المَبْنيّة على فهم الأنسب والأجدر من الأعمال، ومعرفة فاضل الأعمال ومفضولها، وراجحها ومرجوحها، بناءً على العلم بمراتبها، وبالواقع الذي يتطلبها بغرض تحقيق أهم المصالح بأخف الأضرار، ومعرفة النتائج التي يؤول إليها تطبيق تلك الأعمال.

أدلة فقه الأولويات من الكتاب والسنة والإجماع :

لقد وردت آيات وأحاديث كثيرة تدل على التفاوت في أحكام الأعمال ومراتبها، مما يدعونا إلى البحث عن فقه يساعدنا على تحديد الأولويات بين هذه الأحكام وهذه المراتب، لنيل أسمى الفضائل منها، واجتناب أنكر المنكرات، فمن هذه النصوص:

أولًا الدليل من الكتاب : القرآن الكريم .

1- قال تعالى : أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ().

أي: أجعلتم - أيها القوم - ما تقومون به من سقي الحجيج وعمارة المسجد الحرام - وهي في ذاتها أعمال صالحة - كإيمان من آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله؟ لا يستوون عند الله تعالى.

وجه الدلالة : أن القرآن فاضل بين عملين وهما: سقاية الحاج والإيمان والجهاد، وقدم أحد الأعمال وفضلّه على الآخر وهو الإيمان والجهاد.

2- قول الله سبحانه وتعالى: ﴿ أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾().

أي: أهذا الكافر المتمتع بكفره - وهو الذي سبقت الإشارة إليه في الآية السابقة -، خيرٌ أم من هو عابد لربه طائع له، يقضي ساعات الليل في القيام والسجود لله، يخاف عذاب الآخرة، ويأمُل رحمة ربه؟ قل - أيها الرسول -: هل يستوي الذين يعلمون ربهم ودينهم الحق والذين لا يعلمون شيئًا من ذلك؟ لا يستوون، إنما يتذكر ويعرف الفرق بينهما أصحاب العقول السليمة.

3- وقال الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ * وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ﴾().

أي: وما يستوي الأعمى عن دين الله، والبصير الذي أبصر طريق الحق واتبعه، وما تستوي ظلمات الكفر ونور الإيمان، ولا الظلُّ ولا الريح الحارة، وما يستوي أحياء القلوب بالإيمان، وأموات القلوب بالكفر. إن الله يسمع من يشاء سماع فَهْم وقبول، وما أنت - أيها الرسول - بمسمع من في القبور، فكما لا تُسمع الموتى في قبورهم - سماع منفعة - فكذلك لا تُسمع هؤلاء الكفار لموت قلوبهم، وما أنت إلا نذير لهم من غضب الله وعقابه.

4- قال تعالى: وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ )().

وجه الدلالة : إن الآية منعت من سب آلهة المشركين وتحقيرها، وهي مصلحة بلا شك، وتحفيز للناس إلى عدم عبادتها، حتى لا يسب المشركون المولى عز وجل، فكانت مفسدة سب الباري عز وجل أعظم من كل مصلحة فيها ذم لآلهة المشركين، وتحفيز الناس إلى عدم عبادتها. يقول ابن كثير:«يقول تعالى ناهيا لرسوله والمؤمنين عن سب آلهة المشركين، وإن كان فيه مصلحة، إلا أنه يترتب عليه مفسدة أعظم منها، وهي مقابلة المشركين بسب إله المؤمنين، وهو الله لا إله إلا هو.» ويقول القرطبي: «وفيها دليل على أن المحق قد يكف عن حق له إذا أدى إلى ضرر يكون في الدين.»

مشروعيته من السنة

ثانيًا: الدليل السنة:

لقد جاء في السنة النبوية عدد من الأحاديث الدالة على مشروعية فقه الأولويات منها:                                                                                                                                                                                                 1 - عن أبي هريرة  رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: "الإيمان بضعٌ وسبعون - أو بضع وستون - شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان".()

قال أبو حاتم ابن حبان: "والدليل على أن الإيمان أجزاءٌ بشعب، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خبر عبد الله بن دينار: "الإيمان بضعٌ وسبعون شعبة: أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله"، فذكر جزءًا من أجزاء شعبه، هي كلها فرضٌ على المخاطبين في جميع الأحوال، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يقل: وأني رسول الله، والإيمان بملائكته وكُتبه ورسله والجنة والنار وما يُشبه هذا من أجزاء هذه الشعبة، واقتصر على ذكر جزء واحد منها، حيث قال صلى الله عليه وسلم: أعلاها "شهادة أن لا إله إلا الله"، فدل هذا على أن سائر الأجزاء من هذه الشعبة كلها من الإيمان، ثم عطف فقال: "وأدناها إماطة الأذى عن الطريق"، فذكر جزءًا من أجزاء شعبة هي نفلٌ كلها للمخاطبين في كل الأوقات.

وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "الحياء شعبةٌ من الإيمان"، فهو لفظةٌ أطلقت على شيء بكناية سببه، وذلك أن الحياء جبلةٌ في الإنسان، فمن الناس من يكثر فيه، ومنهم من يقل ذلك فيه، وهذا دليلٌ صحيح على زيادة الإيمان ونقصانه، لأن الناس ليسوا كلهم على مرتبة واحدة في الحياء. فلما استحال استواؤهم على مرتبة واحدة فيه، صح أن من وجد فيه أكثر، كان إيمانه أزيد، ومن وجد فيه منه أقل، كان إيمانه أنقص. والحياء في نفسه: "هو الشيء الحائل بين المرء وبين ما يباعده من ربه من المحظورات"، فكأنه جعل ترك المحظورات شعبة من الإيمان بإطلاق اسم الحياء عليه، على ما ذكرناه".

2- رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سبق درهم مائة ألف درهم" قالوا: وكيف؟ قال: "كان لرجل درهمان تصدق بأحدهما، وانطلق رجل إلى عُرض ماله فأخذ منه مائة ألف درهم فتصدق بها".()

3 - عن أبي هريرة: «قال رسول الله : أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم. وإن أفضل الصلاة بعد المفروضة صلاة من الليل»()

4 - عن عبد الله بن مسعود قال: «سألت النبي أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها. قال: ثم أي؟ قال: ثم بر الوالدين. قل ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله»()

5 -  روى أن النبي قال- حين قال أحد المنافقين «أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذلّ»«فَكَيْفَ يَا عُمَرْ إذَا تَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ، لا وَلَكِنْ أَذَّنْ بالرَّحِيلِ»()

6 - عن أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر قالت: «ما خير رسول الله بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه.»()

7- عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قالوا يا رسول الله أي الإسلام أفضل؟ قال: "من سلم المسلمون من لسانه ويده".()

8 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي العمل أفضل؟ فقال:"إيمان بالله ورسوله. قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله. قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور".()

9 - عن عبد الله بن عمرو أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الإسلام خير؟ قال: "تطعم الطعام وتُقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف".()

10 - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أحب إلى الله؟ قال: "الصلاة على وقتها. قال: ثم أي؟ قال: ثم بر الوالدين. قل ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله".()

وأحياناً كثيرة يوجه النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى أفضل الأعمال وأولاها دون أن يسأل عنها من ذلك:

- عن عبد الله بن عمرو قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "أحب الصيام إلى الله تعالى صيام داود وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود. كان ينام نصفه ويقوم ثلثه وينام سدسه. وكان يفطر يوماً ويصوم يوماً".()

- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم. وإن أفضل الصلاة بعد المفروضة صلاة من الليل".()

- عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن خير الصدقة ما ترك غني. أو تصدق به عن ظهر غنى. وابدأ بمن تعول".()

وفي الجانب المقابل وضعت معايير لبيان الأعمال السيئة، كما بُيِّن تفاوتها عند الله سبحانه وتعالى من كبائر وصغائر، وشبهات ومكروهات، وذكرت أحيانًا بعض النسب بين بعضها وبعض، فمثلًا:

ا - عن عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم، أشد من ستة وثلاثين زنية".()

ب - وعن عبد العزيز بن مروان، قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شر ما في الرجل شحٌّ هالع، وجبن خالع".()

ج - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"شرار أمتي الثرثارون، المتشدقون، المتفيهقون، وخيار أمتي أحاسنهم أخلاقًا".()

د - وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أسوأ الناس سرقة الذي يسرق صلاته،قال:وكيف يسرق صلاته؟قال: لا يتم ركوعها،ولا سجودها".()

  ثالثاً الدليل من الإجماع :

أجمع علماء المسلمين من الصدر الأول من عَهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة على معرفة الأولى من الأعمال وكان الصحابة رضي الله عنهم حريصين كل الحرص على أن يعرفوا الأَوْلى من الأعمال، ليتقرَّبوا إلى الله تعالى به، ولهذا كثرت أسئلتهم عن أفضل العمل، وعن أحب الأعمال إلى الله تعالى، كما في سؤال ابن مسعود وأبى ذر وغيرهما، وجواب النبي (صلى الله عليه وسلم).

ولذا كثر في الأحاديث: أفضل الأعمال كذا، أو أحب الأعمال إلى الله كذا وكذا.فعن عمرو بن عَبَسة - رضي الله عنه - قال: قال رجل:يا رسول الله، ما الإسلام؟ قال: (أن يسلم لله قلبك، وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك؟ قال: فأيّ الإسلام أفضل؟ قال: (الإيمان)، قال: وما الإيمان؟ قال: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت) قال: فأيّ الإيمان أفضل؟ قال: (الهجرة)، وقال: وما الهجرة؟ قال (أن تهجر السُّوء)، قال: فأي الهجرة أفضل؟ قال: (الجهاد)، قال: وما الجهاد؟ قال (أن تقاتل الكفار إن لقيتهم)، قال: فأي الجهاد أفضل؟ قال: (من عُقر جواده وأُهريق دمه).

الأولويات :

الفرائض أولى من النوافل والمستحبات :

طلب الأعلى أولى من طلب الأدنى، قال الله تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ٱهْبِطُواْ مِصْراً().

أولوية المقاصد على الظواهر :

ومما يدخل في "الفقه" المراد: الغوص في مقاصد الشريعة، ومعرفة أسرارها وعللها، وربط بعضها ببعض، ورد فروعها إلى أصولها، وجزئياتها إلى كلياتها، وعدم الاكتفاء بالوقوف عند ظواهرها، والجمود على حرفية نصوصها.

فمن المعلوم الذي دلت عليه النصوص المتكاثرة من الكتاب والسنة، كما دل عليه استقراء الأحكام الجزئية في مختلف أبواب العبادات والمعاملات، وسائر العلاقات الأسرية والاجتماعية والسياسية والدولية: أن للشارع أهدافا في كل ما شرعه أمرا أو نهيا، أو إباحة، فلم يشرع تحكما ولا اعتباطا، بل شرعه لحكمة تليق بكماله تعالى، وعلمه ورحمته وبره بخلقه. فإن من أسمائه "العليم الحكيم". فهو حكيم فيما شرع وأمر، كما أنه حكيم فيما خلق وقدر. تتجلى حكمته في عالم الأمر، كما تجلت في عالم الخلق: (ألا له الخلق والأمر)، فكما أنه لم يخلق شيئا عبثا، كذلك لم يشرع شيئا جزافا.

وكما قال أولو الألباب في خلقه: (ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك) نقول نحن في شرعه: ربنا ما شرعت هذا إلا لحكمة!

وآفة كثير ممن اشتغلوا بعلم الدين: أنهم طفوا على السطح، ولم ينزلوا إلى الأعماق، لأنهم لم يؤهلوا للسباحة فيها، والغوص في قرارها، والتقاط لآلئها، فشغلتهم الظواهر، عن الأسرار والمقاصد، وألهتهم الفروع عن الأصول، وعرضوا دين الله وأحكام شريعته على عباده، تفاريق متناثرة لا يجمعها جامع، ولا ترتبط بعلة، فظهرت الشريعة على ألسنتهم وأقلامهم كأنها قاصرة عن تحقيق مصالح الخلق، والقصور ليس في الشريعة، وإنما هو في أفهامهم، التي قطعت الروابط بين الأحكام بعضها وبعض، ولم يبالوا أن يفرقوا بين المتساوين، ويجمعوا بين المختلفين، وهو ما لم تأت به الشريعة قط، كما بين ذلك المحققون الراسخون.

وكثيرا ما أدت هذه الحرفية الظاهرية إلى تحجير ما وسع الله، وتعسير ما يسر الشرع، وتجميد ما من شأنه أن يتطور، وتقييد ما من شأنه أن يتجدد ويتحرر.

أولوية الاجتهاد على التقليد :

أولوية الاجتهاد والتجديد على التكرار والتقليد. وهذا مرتبط بفقه المقاصد الذي أشرنا إليه، وبقضية الفهم والحفظ أيضا.

فالعلم عند السلف من علماء الأمة ليس هو مجرد معرفة الأحكام، وإن كان عن طريق تقليد الغير، وتبني قوله ولو لم تكن له حجة مقنعة، فهو يعرف الحق بالرجال، ويتبع الأشخاص لا الأدلة.

العلم عندهم هو: العلم الاستقلالي، الذي يبتع فيه الحجة، ولا يبالي أوافق زيد أو عمر من الناس، فهو يسير مع الدليل حيثما سار، ويدور مع الحق الذي يقتنع به حيثما دار.

استدل ابن القيم على منع التقليد بقوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم)، قال: والتقليد ليس بعلم باتفاق أهل العلم، وذكر في "إعلام الموقعين" أكثر من ثمانين وجها في إبطال التقليد، والرد على شبهات أنصاره.

وإذا كان الجمود على ظواهر النصوص مذموما، كما هو شأن الظاهرية القدامى والجدد، فأدخل منه في الذم: الجمود على ما قاله السابقون، دون مراعاة لتغير زماننا عن زمانهم، وحاجاتنا عن حاجاتهم، ومعارفنا عن معارفهم. وأحسب لو تأخر بهم الزمن حتى رأوا ما رأينا، وعاشوا ما عشنا ـ وهم أهل الاجتهاد والنظر ـ لغيروا كثيرا من فتاواهم واجتهاداتهم. كيف وقد غير أصحابهم من بعدهم كثيرا منها، لاختلاف العصر والزمان، رغم قرب ما بين أولئك وهؤلاء؟ بل كيف وقد غير الأئمة أنفسهم كثيرا من أقوالهم في حياتهم، تبعا لتغير اجتهاداتهم، بتأثير السن أو النضج أو الزمان أو المكان؟

حتى إن الإمام الشافعي رضي الله عنه كان له مذهب قبل أن يستقر في مصر عرف باسم "القديم"، ومذهب بعد استقراره في مصر عرف باسم "الجديد". وما ذاك إلا لأنه رأى ما لم يكن قد رأى، وسمع ما لم يكن قد سمع.

والإمام أحمد قد روى عنه في القضية الواحدة عدة روايات متباينة، وما ذاك إلا لأن فتواه تختلف باختلاف الظروف والأحوال.

أولوية الدراسة والتخطيط لأمور الدنيا :

وإذا كنا نقول بضرورة سبق العلم على العمل في أمور الدين، فنحن نؤكد ضرورة ذلك في شؤون الدنيا أيضا. فنحن في عصر يؤسس كل شيء على العلم، ولم يعد يقبل الارتجال والغوغائية في أمر من أمور الحياة.

فلابد لأي عمل جاد من الدراسة قبل العزم عليه، ولابد من الإقناع بجدواه قبل البدء فيه، ولابد من التخطيط قبل التنفيذ، ولابد من الاستعانة بالأرقام والإحصاءات قبل الإقدام على العمل.

الأولويات في الآراء الفقهية :

أولويات الفهم على الحفظ، وأولوية المقاصد على الظواهر، وأولوية الاجتهاد على التقليد، نحتاج إليه هنا في الأحكام الشرعية الاجتهادية، والآراء الفقهية إذا اختلفت وتباينت، فكيف نرجح بينها، ونقدم بعضها على بعض؟

التفريق بين القطعي والظني :

فمن المقرر لدى أهل العلم: أن ما ثبت بالاجتهاد غير ما ثبت بالنص، وأن ما ثبت بالنص وأيده بالإجماع المتيقن غير ما ثبت بالنص واختلف فيه، والاختلاف فيه دليل على أنه أمر اجتهادي، والأمور الاجتهادية لا ينكر فيها عالم على آخر، لكن يناقش بعضهم بعضا فيها بالاحترام المتبادل. كما أن ما ثبت بالنص يختلف كثيرا من حيث قطعيته وظنيته.

والقطعية والظنية ما هو ظني الثبوت، ظني الدلالة معا.

ومنها: ما هو ظني الثبوت، قطعي الدلالة.

ومنها: ما هو قطعي الثبوت، ظني الدلالة.

ومنها: ما هو قطعي الثبوت وقطعي الدلالة معا.

وظنية الثبوت تختص بالسنة غير المتواترة، والمتواتر: ما رواه جمع عن جمع من أول السند إلى منتهاه يستحيل عادة تواطؤهم على الكذب، والآحاد غيره.

ومن العلماء من قال: إن التواتر في السنة عزيز، ولا يكاد يوجد، ومنهم من توسع في ذلك، حتى ذكر بعض الأحاديث الضعيفة، التي رفضها مثل الشيخين، فليحذر من دعوى التواتر بغير رهان.

ومنهم من ألحق بالمتواتر أحاديث احتفت بها القرائن مثل تلقي الأمة لها بالقبول. مثل أحاديث الصحيحين التي لم يتعقبها أحد من العلماء .

وظنية الدلالة تشمل السنة والقرآن جميعا: فمعظم النصوص فيها تحتمل تعدد الأفهام والتفسيرات، لأن ألفاظ اللغة بطبيعتها فيها الحقيقة والمجاز والكناية، والخاص والعام، والمطلق والمقيد، وتحتمل الدلالة المطابقية، والدلالة التضمنية، والدلالة الالتزامية.

ولله حكمة في أن جعل النصوص قابلة لمثل هذا التعدد، لتسع الناس جميعا، باتجاهاتهم المتباينة. ولهذا أنزل كتابه الخالد، منه آيات محكمات هن أم الكتاب، وأخر متشابهات.

ولو شاء الله أن يجمع الناس على فهم واحد، ورأي واحد، لأنزل كتابه كله آيات محكمات، وجعل النصوص كلها قاطعات.

والقرآن كله قطعي الثبوت من غير شك، ولكن أكثر آياته في جزئياتها  ظنية الدلالة، ولذا اختلف الفقهاء في الاستنباط منها.

ولكن القضايا الكبرى مثل الألوهية والنبوة والجزاء وأصول العبادات وأمهات الأخلاق (فضائل ورذائل)، والأحكام الأساسية للأسرة والميراث، والحدود والقصاص، ونحو ذلك قد بينتها آيات محكمات، تقطع النزاع، وتجمع الكل على كلمة سواء.

وأكدت هذه القضايا: السنة النبوية قولا وفعلا وتقريرا، كما أكدها الإجماع اليقيني من علماء الأمة، واقترن بها التطبيق العملي من الأمة.

ولا يجوز الخلط ـ جهلا أو قصدا ـ بين النصوص بعضها وبعض.

فقد يعذر من يرد نصا ظنيا في ثبوته، إذا قام لديه دليل على عدم ثبوته عنده.

وقد يعذر من يرد رأيا في نص ظني في دلالته، أو يفسره تفسيرا جديدا غير ما فسره به الأولون، ولكنه محتمل.

وقد لا يعذر هذا ولا ذاك، في ردهما النص الظني، إذا كان ظاهر التمحل، أو التلفيق. ولكنه لا يكفر ويخرج من الملة بسبب موقفه هذا، أقصى ما فيه أن يبدع، أي يرمى بالبدعة، والخروج عن النهج المعتاد لأهل السنة، وحسابه على الله تعالى.

ينبغي التركيز على القطعيات المجمع عليها، لا على الظنيات المختلف فيها، والذي أضاع الأمة إنما هو أضاعتها للقطعيات، والمعركة بين دعاة الإسلام اليوم في أنحاء العالم الإسلامي وبين دعاة العلمانية اللادينية إنما تدور حول القطعيات: قطعيات العقيدة، وقطعيات الشريعة، وقطعيات الفكر، وقطعيات السلوك.

إن هذه القطعيات هي التي يجب أن تكون أساس التفقيه والتثقيف، وأساس الدعوة والإعلام، وأساس التربية والتعليم، وأساس الوجود الإسلامي كله.

أولوية التخفيف والتيسير على التشديد والتعسير:

ومن الأولويات المطلوبة ، وخصوصا في مجال الإفتاء والدعوة: تقديم التخفيف والتيسير على التشديد والتعسير.

فقد دلت النصوص من الكتاب والسنة أن التيسير والتخفيف أحب إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم.

يقول الله تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر).

ويقول سبحانه: (يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا).

ويقول عز وجل: (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج).

ويقول الرسول الكريم: "خير دينكم أيسره"، "أحب الأديان إلى الله الحنيفية السمحة".

وتقول عائشة: ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين، إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما، فإذا كان إثما كان أبعد الناس عنه.

ويقول صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته".

ويتأكد ترجيح الرخصة واختيار التيسير، إذا ظهرت الحاجة إليها، لضعف أو مرض أو شيخوخة أو لشدة مشقة، أو غير ذلك من المرجحات.

روى جابر بن عبدالله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فرأى زحاما ورجلا قد ظلل عليه، فقال: "ما هذا؟" فقالوا: صائم، فقال: "ليس في البر الصيام في السفر".

أما إذا لم يكن في السفر مثل هذه المشقة فيجوز له أن يصوم، بدليل ما روته عائشة: أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أأصوم في السفر؟ وكان كثير الصيام، فقال: "إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر".

وكان الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز يقول بشأن الصوم والفطر للمسافر، واختلاف الفقهاء: أيهما أفضل، كان يقول: أفضلهما أيسرهما عليه. وهذا قول مقبول، فمن الناس من يكون الصوم مع الناس أهون عليه من أن يقضي بعد ذلك والناس مفطرون، وغيره بعكسه، فما كان أيسر عليه فهو الأفضل في حقه.

ودعا عليه الصلاة والسلام إلى تعجيل الفطور وتأخير السحور، تيسيرا على الصائم.

ونجد كثيرا من الفقهاء في بعض الأحكام التي تختلف فيها الأنظار يرجحون منها ما يكون أيسر على الناس، وخصوصا في أبواب المعاملات، وقد اشتهرت عنهم هذه العبارة: هذا القول أرفق بالناس!!.

وروى عن أنس أنه قال: "يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا".

الإخفاء في التطوعات أولى من الإظهار : قال الله  تعالى:.إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ().

الأولوية للأعمال ذات الصبغة المستمرة على الأعمال المنقطعة أو المتقطعة، وبهذا يكون كل عمل يتعلق بإصلاح المجتمع ونفعه أفضل من العمل المقصور نفعه على صاحبه فقط.

العقيدة أولى بالتقديم من الشريعة، فعن ابن عباس: «أن رسول الله لما بعث معاذا إلى اليمن قال: إنك تقدم على قوم أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله. فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم فإذا فعلوا فأخبرهم أن الله فرض عليهم زكاة من أموالهم وترد على فقرائهم فإذا أطاعوا بها فخذ منهم وتوق كرائم أموال الناس»                                                                                                                                                                                  التيسير أولى من التعسير، فعن أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر قالت: «ما خير رسول الله بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه.».

الصدقة حال الصحة أولى من الوصية .

الأكثر مصلحة أولى بالتقديم من الأقل مصلحة، قال ابن القيم: «وقاعدة الشرع والقدر تحصيل أعلى المصلحتين وإن فات أدناهما»

الأكثر مفسدة أولى بالدرء من الأقل مفسدة، فعن أبي هريرة قال:«قام أعرابي فبال في المسجد فتناوله الناس فقال لهم النبي : "دعوه وهريقوا على بوله سجلاً من ماء - أو ذنوباً من ماء - فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين".»                                                                  

ترتيب الأولويات :

ترتيب الأولويات في الإسلام وذلك من خلال هذه العناصر الآتية:-

حاجة الأمة إلي معرفة ترتيب الأولويات :

من المفاهيم المهمة في ديننا الحنيف هو فقه ترتيب الأولويات وأعني به: وضع كل شيء في مرتبته بالعدل، من الأحكام والقِيَم والأعمال، ثم يُقدِّم الأَوْلى فالأَوْلى، بناءً على معايير شرعية صحيحة يهدي إليها.( نور الوحي، ونور العقل: ﴿ نُورٌ عَلَى نُورٍ ﴾()  فلا يقدم غير المهم على المهم، ولا المهم على الأهم، ولا المرجوح الراجح، ولا المفضول على الفاضل، أو الأفضل. بل يقدم ما حقه التقديم، ويُؤخِّر ما حقه التأخير، ولا يُكبِّر الصغير، ولا يُهوِّن الخطير، بل يوضع كل شيء في موضعه بالقسطاس المستقيم، بلا طغيان ولا إخسار، كما قال تعالى: ﴿ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾()  وأساس هذا: أن القيم والأحكام والأعمال والتكاليف متفاوتة في نظر الشرع تفاوتًا بليغًا، وليست كلها في رتبة واحدة، فمنها الكبير ومنها الصغير، ومنها الأصلي ومنها الفرعي، ومنها الأركان ومنها المكملات، ومنها ما موضعه في الصلب، وما موضعه في الهامش، وفيها الأعلى والأدنى والفاضل والمفضول. وهذا واضح من النصوص نفسها، كما في قول الله تعالى: ﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾() وقول الرسول الكريم: (الإيمان بِضْع وسبعون شعْبة: أعلاها "لا إله إلا الله"، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق).

وقد كان الصحابة رضي الله عنهم حريصين كل الحرص على أن يعرفوا الأَوْلى من الأعمال، ليتقرَّبوا إلى الله تعالى به، ولهذا كثرت أسئلتهم عن أفضل العمل، وعن أحب الأعمال إلى الله تعالى، كما في سؤال ابن مسعود وأبى ذر وغيرهما، وجواب النبي (صلى الله عليه وسلم).

ولذا كثر في الأحاديث: أفضل الأعمال كذا، أو أحب الأعمال إلى الله كذا وكذا.فعن عمرو بن عَبَسة - رضي الله عنه - قال: قال رجل:يا رسول الله، ما الإسلام؟ قال: (أن يسلم لله قلبك، وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك؟ قال: فأيّ الإسلام أفضل؟ قال: (الإيمان)، قال: وما الإيمان؟ قال: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت) قال: فأيّ الإيمان أفضل؟ قال: (الهجرة)، وقال: وما الهجرة؟ قال (أن تهجر السُّوء)، قال: فأي الهجرة أفضل؟ قال: (الجهاد)، قال: وما الجهاد؟ قال (أن تقاتل الكفار إن لقيتهم)، قال: فأي الجهاد أفضل؟ قال: (من عُقر جواده وأُهريق دمه).ومن تتبع ما جاء في القرآن الكريم، ثم ما جاء في السنة المطهرة في هذا المجال، جوابًا عن سؤال، أو بيانًا لحقيقة، رأى أنها قد وضعت أمامنا جملة معايير لبيان الأفضل والأولى والأحب إلى الله تعالى من الأعمال والقيم والتكاليف، وبيان ما بينها من تفاوت كبير، وذكرت بعض الأحاديث نسبة، مثل (صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ (الفرد) بسبع وعشرين درجة)، وقوله صلي الله عليه وسلم (سبق درهم مائة ألف درهم)، (رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه)، (إن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عامًا)

وفي الجانب المقابل وضعت معايير لبيان الأعمال السيئة، كما بينت تفاوتها عند الله، من كبائر وصغائر، وشبهات ومكروهات، وذكرت أحيانًا بعض النسب بين بعضها وبعض، مثل (درهم ربا يأكله الرجل، وهو يعلم، أشد عند الله من ستة وثلاثين زنية).

وحذَّرت من أعمال اعتبرها شرًا من غيرها، وأسوأ مما سواها، مثل حديث: (شر ما في الرجل، شُحٌ هالع وجُبنٌ خالع). (شر الناس: الذي يسأل بالله، ثم لا يعطي). (شرار أُمتي: الثرثارون المتشدقون المتفيهقون، وخيار أُمتي: أحاسنهم أخلاقًا). (أسرق الناس: الذي يسرق صلاته، لا يتم ركوعها ولا سجودها، وأبخل الناس مَن بخل بالسلام).

كما بيَّن القرآن أن الناس ليسوا متساوين في منازلهم، وإن كانوا متساوين في إنسانيتهم بأصل الخِلقة، وإنما هم متفاوتون بعلومهم وأعمالهم تفاوتًا بعيدًا.يقول القرآن: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ ()﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾()  وقال تعالى ﴿ لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ ()وقال تعالى ﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ * وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ ﴾ ()، وقال تعالى ﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ () وهكذا نجد أن الناس يتفاوتون ويتفاضلون، كما تتفاوت الأعمال وتتفاضل، ولكن تفاضلهم إنما هو بالعلم والعمل والتقوى والجهاد.

ترتيب الأولويات حسب الأهمية الأحق والأجدر:

الإهتمام بالعقيدة أولا قبل كل شئ :

ونعني بذلك تقديم ما يتصل بالإيمان بالله تعالى وتوحيده، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهي أركان الإيمان كما بينها القرآن الكريم. يقول تعالى: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾(). وقال تعالى: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾(). وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾(). وإنما لم تذكر الآيات الإيمان بالقدر ضمن أصول العقيدة، لأنه داخل في مضمون الإيمان بالله تعالى.

فالإيمان بالقدر إيمان بمقتضى الكمال الإلهي، وشمول علمه، وعموم إرادته، ونفوذ قدرته. والعقيدة هي الأصل، والتشريع فرع عنه. والإيمان هو الأصل، والعمل فرع عنه. فالإيمان الحق لابد أن يثمر عملا، وعلى قدر تمكن الإيمان ورسوخه تكون الأعمال، من فعل المأمور، أو اجتناب المحظور. والعلم الذي لم يؤسس على إيمان صحيح لا وزن له عند الله، وهو كما صوره القرآن: ﴿ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾().

لهذا كان الأمر الأحق بالتقديم والأولى بالعناية من غيره، هو تصحيح العقيدة، وتجريد التوحيد، ومطاردة الشرك والخرافة، وتعميق بذور الإيمان في القلوب، حتى تؤتي أكلها بإذن ربها، وحتى تغدو كلمة التوحيد: "لا إله إلا الله" حقيقة في النفس، ونورا في الحياة، يبدد ظلمات الفكر، وظلمات السلوك. يتضح ذلك جلياً في قول أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -: "إن ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندع الخمر أبداً ولو نزل لا تزنوا لقالوا لا ندع الزنا أبداً فإن حاجتنا إلى العقيدة فوق كل حاجة، وضرورتنا إليها فوق كل ضرورة، لأنه لا سعادة للقلوب، ولا نعيم، ولا سرور إلا بأن تعبد ربها وفاطرها تعالى.ولقد أرسل الله رسله جميعاً بالدعوة إلى التوحيد قال تعالى ﴿ ولَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ واجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾() ويقررالله سبحانه وتعالى أيضاً هذه الحقيقة ويؤكدها، ويكررها في قصة كل رسول على وجه الانفراد ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ ()﴿وإلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ ﴾() وهي الكلمة نفسها التي تكررت على لسان صالح وشعيب وموسى وعيسى- عليهم الصلاة والسلام -، حتى أصبحت قاعدة عامة: ﴿ ومَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إلاَّ نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ أَنَا فَاعْبدُونِ ﴾().

فالتوحيد مفتاح دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام، وهو أول ما يدخل به المرء في الإسلام، وأخر ما يخرج به من الدنيا، فهو أول واجب وآخر واجب.

ولقد أمضى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حياته في الدعوة إلى هذه العقيدة وجاهد أعدائه من أجلها قال صلى الله عليه وسلم ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله...) (رواه الشيخان) بل وأرسل رسله وأمرهم أن يبدءوا بالدعوة إلى العقيدة قبل كل شيء كما في قصة معاذ بن جبل - رضي الله عنه - عندما بعثه إلى اليمن: قال إنك تأتى قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه: عبادة الله وحده، فإن هم أطاعوا لذلك....)().

إن الاهتمام بغرس العقيدة أولا كان منهج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والمصلحين من بعدهم ومن ذلك قوله تعالى عن نوح في دعوته لولده وتحذيره من مصاحبة أهل الضلال ﴿ يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ ﴾().وكذلك يقول تعالى عن إبراهيم حين وصى بها أبناءه﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾(). وفي أول وصايا لقمان لأبنه تحذيره له من الشرك قال تعالى ﴿ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ ().

      وهذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يوصي ابن عباس رضي الله عنهما فيقول(يا غلام إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله) وعَنْ جُنْدُبٍ، قَالَ: «كُنَّا مَعَ نَبِيِّنَا-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِتْيَانًا حَزَاوِرَةَ، فَتَعَلَّمْنَا الْإِيمَانَ قَبْلَ أَنْ نَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ، ثُمَّ تَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ فَنَزْدَادُ بِهِ إِيمَانًا، فَإِنَّكُمُ الْيَوْمَ تَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ قَبْلَ الْإِيمَانِ».

الفرائض قبل السنن والنوافل :

يقول النبي صلي الله عليه وسلم: "إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها..": ومن الخطأ الذي يقع فيه بعض الناس الإشتغال بالسنن والتطوعات من الصلاة والصيام والحج عن الفرائض. ولقد رأينا النبي صلى الله عليه وسلم ينهي المرأة أن تصوم تطوعا، وزوجها شاهدا - حاضر غير مسافر - إلا بإذنه، لأن حقه عليها أوجب من صيام النافلة.وأيضا نري الرجل يحج حجة الإسلام ثم نجده يحج ويعتمر مرات عديدة ويتكبد الأموال والوقت والجهد، وهناك مسلمون يموتون من الجوع .

لقد قرر فقهاء الإسلام: أن الله لا يقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة.وقد أوصي سيدنا أبو بكر الصديق عمر ابن الخطاب رضي الله عنهما وصية جامعة جاء فيها: إني موصيك بوصية إن حفظتها: إن لله حقا بالنهار لا يقبله بالليل، ولله في الليل حق لا يقبله في النهار، وإنها لا تًقبل نافلة حتي تًؤدي الفريضة عبدالله ابن المبارك يقدم اليتامي علي حجته:- كان عبد الله بن المبارك - رضي الله عنه - يحج عاماً ويغزو في سبيل الله عاماً آخر، وفي العام الذي أراد فيه الحج.. خرج ليلة ليودع أصحابه قبل سفره.. وفي الطريق وجد منظراً ارتعدت له أوصاله. واهتزت له أعصابه!!. وجد سيدة في الظلام تنحني على كومة أوساخ وتلتقط منها دجاجة ميتة.. تضعها تحت ذراعها.. وتنطلق في الخفاء..

فنادى عليها وقال لها: ماذا تفعلين يا أمة الله؟ فقالت له: يا عبد الله - اترك الخلق للخالق فلله تعالى في خلقه شؤون، فقال لها ابن المبارك: ناشدتك الله أن تخبريني بأمرك.. فقالت المرأة له: أما وقد أقسمت عليّ بالله.. فلأخبرنَّك، فأجابته دموعها قبل كلماتها: إن الله قد أحل لنا الميتة..أنا أرملة فقيرة وأم لأربع بنات غيب راعيهم الموت واشتدت بنا الحال ونفد مني المال وطرقت أبواب الناس فلم أجد للناس قلوبا رحيمة فخرجت ألتمس عشاء لبناتي اللاتي أحرق لهيب الجوع أكبادهن فرزقني الله هذه الميتة.. أفمجادلني أنت فيها؟ وهنا تفيض عينا ابن المبارك من الدمع وقال لها: خذي هذه الأمانة وأعطاها المال كله الذي كان ينوي به الحج.. وأخذتها أم اليتامى، ورجعت شاكرة إلى بناتها. وعاد ابن المبارك إلى بيته، وخرج الحجاج من بلده فأدوا فريضة الحج، ثم عادوا، وكلهم شكر لعبد الله ابن المبارك على الخدمات التي قدمها لهم في الحج. يقولون: رحمك الله يا ابن المبارك ما جلسنا مجلسا إلا أعطيتنا مما أعطاك الله من العلم ولا رأينا خيرا منك في تعبدك لربك في الحج هذا العام.

فعجب ابن المبارك من قولهم، واحتار في أمره وأمرهم، فهو لم يفارق البلد، ولكنه لايريد أن يفصح عن سره، وفي المنام يرى رجلا يشرق النور من وجهه يقول له: السلام عليك يا عبدالله ألست تدري من أنا؟ أنا محمد رسول الله أنا حبيبك في الدنيا وشفيعك في الآخرة جزاك الله عن أمتي خيرا... يا عبد الله بن المبارك، لقد أكرمك الله كما أكرمت أم اليتامى.. وسترك كما سترت اليتامى، إن الله - سبحانه وتعالى - خلق ملكاً على صورتك.. كان ينتقل مع أهل بلدتك في مناسك الحج..

وإن الله تعالى كتب لكل حاج ثواب حجة وكتب لك أنت ثواب سبعين حجة.

عبدالله ابن عباس يقدم قضاء حاجة أخيه المسلم علي اعتكافه في المسجد النبوي:- عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه كان معتكفا في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم، فأتاه رجل فسلم عليه ثم جلس، فقال له ابن عباس: يا فلان أراك مكتئبا حزينا ؟! قال: نعم يا ابن عم رسول الله لفلان علي حق ولاء، وحرمة صاحب هذا القبر ما أقدر عليه، قال ابن عباس: أفلا أكلمه فيك، فقال: إن أحببت قال: فانتعل ابن عباس ثم خرج من المسجد فقال له الرجل: أنسيت ما كنت فيه؟؟!! قال: لا ولكني سمعت صاحب هذا القبر صلى الله عليه و سلم والعهد به قريب فدمعت عيناه وهو يقول: ( من مشى في حاجة أخيه وبلغ فيها كان خيرا له من اعتكاف عشر سنين، ومن اعتكف يوما ابتغاء وجه الله تعالى جعل الله بينه وبين النار ثلاث خنادق أبعد مما بين الخافقين ) رواه الطبراني في الأوسط والبيهقي واللفظ له والحاكم مختصرا وقال صحيح الإسناد.لم يترك ابن عباس رضي الله عنه اعتكافه في أي مسجد، بل ترك الاعتكاف في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع ما له من أجر مضاعف وعظيم، ولم يتركه لينقذ مسلما من الموت جوعا أو بردا أو خوفا وذعرا، بل خرج ليكلم له دائنه بالتأجيل والنظرة إلى الميسرة فحسب، وهي حاجة ربما يستصغرها بعض المسلمين اليوم، إلا أنها كانت كافية لإخراج ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم من معتكفه وعبادته. أفلا تستحق آلام المسلمين المنكوبين اليوم، بأن نخرج من شح النفوس وهواها إلى كرمها وتقواها، و من قسوة القلوب وغفلتها إلى لينها و ذكرها لخالقها ومولاها، ومن إغلال الأيدي إلى الأعناق إلى بسطها بعض البسط في الإنفاق.

أولوية حقوق العباد على حق الله المجرد:-

لقد رأينا الشرع الحنيف يؤكد في كثير من أحكامه تعظيم ما يتعلق بحقوق العباد. ففرض العين، المتعلق بحق الله تعالى وحده يمكن التسامح فيه، بخلاف فرض العين المتعلق بحقوق العباد. فقد قال العلماء: إن حقوق الله تعالى مبنية على المسامحة، وحقوق العباد مبنية على المشاحة. ولهذا إذا كان الحج مثلا واجبا، وأداء الدين واجبا، فإن أداء الدين مقدم. فلا يجوز للمسلم أن يقدم على الحج حتى يؤدي دينه. إلا إذا استأذن من صاحب الدين، أو كان الدين مؤجلا، وهو واثق من قدرته على الوفاء به. ولأهمية حقوق العباد هنا - وبخاصة الحقوق المالية - صح الحديث أن الشهادة في سبيل الله - وهي أرقى ما يطلبه المسلم للتقرب إلى ربه - لا تسقط عنه الدين.ففي الصحيح: "يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين". وفيه: أن رجلا قال: يا رسول الله، أرأيت إن قتلت في سبيل الله تكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم، إن قتلت في سبيل الله، وأنت صابر مقبل غير مدبر"، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف قلت"؟ فأعاد الرجل سؤاله، وأعاد الرسول الكريم جوابه وزاد عليه: "إلا الدين، فإن جبريل عليه السلام قال لي ذلك".

وأعجب من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله! ماذا أنزل من التشديد في الدين؟! والذي نفسي بيده، لو أن رجلا قتل في سبيل الله، ثم أحيي، ثم قتل، ثم أحيي، ثم قتل، وعليه دين، ما دخل الجنة حتى يقضى دينه". ومثل هذا من غل من الغنيمة، وهو في سبيل الله، أي في الجهاد (أي أخذ من الغنيمة لنفسه وهي من حق الجيش كله) فإن مد يده إلى مال الغنيمة قبل أن يقسم، ولو كان شيئا تافها، يحرمه فضل الجهاد، وأجر المجاهد، وإذا قتل يحرمه شرف الشهادة، وأجر الشهيد.كان على ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم (والثقل: الغنيمة) رجل يقال له: "كركرة" فمات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هو في النار"، فذهبوا ينظرون إليه، فوجدوا عباءة قد غلها. وتوفى رجل من الصحابة في خيبر، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "صلوا على صاحبكم"، فتغيرت وجوه الناس لذلك فقال: "إن صاحبكم غل في سبيل الله" (أي وهو في الجهاد) ففتشوا متاعه فوجدوا فيه خرزا من خرز يهود لا يساوي درهمين.من أجل درهمين أعرض النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عليه، ليكون في ذلك أبلغ زاجر عن الطمع في المال العام، قل أو كثر.

وعن ابن عباس قال: حدثني عمر قال: لما كان يوم خيبر أقبل نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: فلان شهيد، وفلان شهيد، حتى مروا على رجل، فقالوا: فلان شهيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلا، إني رأيته في النار، في بردة غلها ـ أو في عباءة غلهاـ "، ثم قال: "يا ابن الخطاب، اذهب فناد في الناس: إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون".

وكذلك نري أيضا أن النبي صلي الله عليه وسلم يشدد في حق الجار ويرهب من أذي الجار ويبين أنه أولي من الإكثار من النوافل:-

فعن أبي هريرة قال: قيل: يا رسول الله إن فلانة تصلي بالليل و تصوم بالنهار و في لسانها شيء، تؤذي جيرانها، سليطة اللسان، قال:"لا خير فيها، هي في النار"، و قيل له: إن فلانة تصلي المكتوبة و تصوم رمضان و تتصدق بالأثوار من الإقط (أي: اللبن المجفف) و ليس لها شيء غيره و لا تؤذي أحدا قال:" هي في الجنة..( سنده صحيح رواه أحمد وابن حبان ) ففيه أن أذى الجار محبط للعمل و أنه لا خير في المؤذي لجيرانه و فيه أنه اقتصاد في العمل مع عدم الأذية أفضل بكثير من الإكثار بالنوافل مع أذية الجيران.

وقال أيضا:- عن أبي هريرة - رضي الله عنهُ- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" أتدرون ما المفلسُ؟" قالوا": المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال:" إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناتهُ قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم فطُرحت عليه، ثم طُرح في النار" رواه مسلم.

علام تدل هذه الأحاديث؟ إنها تدل على تعظيم حقوق الخلق، ولا سيما ما يتعلق بالمال، سواء أكان خاصا أم عاما، فلا يجوز أخذه من غير حله، وأكله بالباطل، وإن كان تافها، لأن المهم هو المبدأ، ومن اجترأ على أخذ القليل، يوشك أن يجترئ على الكثير، والصغيرة تجر إلى الكبيرة، ومعظم النار من مستصغر الشرر.

تقديم المصلحة العامة علي المصلحة الخاصة:-

اقتضت حكمة الله تعالى أن تكون مصالح العباد مصالح عامة ومصالح خاصة.

مصلحة يعود نفعها على الفرد ومصلحة يعود نفعها على المجتمع والعباد وقد بنى الإسلام تشريعاته على تأمين المصالح الخاصة والعامة.

فالإسلام يدور مع المصلحة والنفع للعباد فحيثما وجدت المصلحة وجد الإسلام قال تعالى: ﴿ وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ﴾()  فالحق هو عين المنفعة وعين المصلحة وقد فهم الصحابة هذا المعنى وبنوا عليه رسالتهم ولقد أظهرها ربعي بن عامر رضي الله عنه لرستم مبينا له معالم هذه الرسالة العظيمة وما تقتضيه من حمل المصلحة للعباد (نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة) وإذا ما تعارضت المصلحة الخاصة مع مصلحة العباد فإن الإسلام يرغب في تقديم المصلحة العامة. وإذا نظرنا إلى التشريعات كلها وجدناها تخدم هذا المعنى فالجهاد والزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها كلها تصب في المصلحة العامة، فالرجل الذي يذهب إلى الجهاد تاركا كل أموره الخاصة من بيت وأولاد وتجارة أو وظيفة أو غيرها وذهب ربما تزهق روحه في سبيل الله تجد أن الدافع من وراء ذلك هي المصلحة العامة وحينما تعرض الإمام أحمد إمام أهل السنة والجماعة لمحنته المشهورة جاءه الإمام الشعبي وقال له: يا أحمد إن الله قد أعطاك الرخصة فخذ بها ﴿ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ﴾. فقال له الإمام أحمد انظر يا شعبي من خلف هذا الباب فنظر الشعبي فرأى آلاف الطلاب يحملون الدواة والقلم والقرطاس ينتظرون قول الإمام أحمد لينشروه في الآفاق وصمَّم الإمام على موقفه وكان يستطيع أن يحظى بالنعيم والخير والرضى إلا أنه آثر المصلحة العامة للعباد على مصلحته الخاصة حتى لو كان فيها من النغص ما فيها.

إن تغليب المصلحة العامة على الخاصة أمر رغب فيه الإسلام وقد كان هذا هو سلوك الصحابة والتابعين والعلماء والمخلصين من هذه الأمة، ولولا تغليبهم للمصلحة العامة ما ألفوا مؤلفاتهم ولا سهروا الليالي ولا أمضوا حياتهم كلها جهاد وحركة لنشر الدعوة والقيم والمبادىء والأخلاق ولما كان أغلبهم يموت ويدفن خارج أرضه ووطنه بعيداً عن أزواجهم وذرياتهم وما كان ذلك كله إلا من أجل مصلحة العباد.

وهذه بعض النماذج العظيمة لأناس قدموا مصلحة دينهم ووطنهم علي راحتهم ورغباتهم. هذا عثمان رضي الله عنه في عام الرمادة وقد أشتد بالمسلمين الفقر والجوع جاءت تجارته من الشام ألف بعير محملة بالتمر والزيت والزبيب فجاءه تجار المدينة وقالوا له تبيعنا و نزيدك الدرهم درهمين؟ فقال عثمان بن عفان رضي الله عنه لهم لقد بعتها بأكثر من هذا. فقالوا نزيدك الدرهم بخمسة ؟ فقال لهم عثمان رضي الله عنه لقد زادني غيركم الدرهم بعشرة: فقالوا له فمن الذي زادك ؟ وليس في المدينة تجار غيرنا ؟ فقال لهم عثمان رضي الله عنه لقد بعتها لله ولرسوله فهي لفقراء المسلمين..الله أكبر...ماذا لو لم يكن يحمل بين جوانحه ضمير المؤمن الحي لكانت هذه فرصة لا تعوض ليربح أموالا طائلة ولو كانت على حساب البطون الجائعة والأجساد العارية وآهات المرضى والثكالى وهموم أصحاب الحاجات... وكنه قدم حاجة المجتمع العامة علي حاجته الخاصة.

وكذلك فعل أبو بكر رضي الله عنه فقد تصدق بكل ماله في تجهيز جيش العسرة.. وعندما يسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا تركت لعيالك؟ فيقول: تركت لهم الله ورسوله. وهذا مصعب بن عمير رضي الله عنه الفتى الشاب الثري المدلل يضحي بكل شيء ويصبح آية من آيات الجهاد والتضحية للشباب المسلم في كل زمان.. يضحي برغباته كشاب في كمال فتوته من أجل مصلحة دعوته ورفعة وطنه فالمسلم الحق هو من باع لله نفسه وماله ووقته ووطنه فليس له فيها شيء، وإنما هي وقف على رفع راية دينه ووطنه.

الاهتمام بالمضمون أكثر من الشكل:-

فالإنسان مثلا لا يقاس بطول قامته، أو قوة عضلاته، أو ضخامة جسمه، أو جمال صورته، فهذه كلها خارجة عن جوهره وحقيقة إنسانيته، فما الجسم ـ في النهاية ـ إلا غلاف الإنسان ومطيته، أما حقيقة الإنسان فما هو إلا العقل والقلب. وقد وصف الله تعالى المنافقين بقوله: ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ﴾(). كما وصف عادا على لسان نبيه هود بقوله: ﴿وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً﴾()، ولكن هذه البسطة في الخلق جعلتهم يغترون ويستكبرون كما قال تعالى: ﴿ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾ (). وفي الحديث الصحيح: "إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة، فلا يزن عند الله جناح بعوضة. اقرأوا إن شئتم: ﴿ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ﴾()". وصعد ابن مسعود يوما شجرة، فظهرت ساقاه، وكانتا دقيقتين نحيلتين، فضحك بعض الصحابة من ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتضحكون من دقة ساقيه؟ والذي نفسي بيده، لهما أثقل في الميزان من جبل أحد" ليس المهم إذن ضخامة الجسم، إذا لم يكن يسكنه عقل ذكي، وفؤاد نقي، وقديما قال العرب: "ترى الفتيان كالنخل، وما يدريك ما الدخل". اعتبر الإسلام ضخامة الجسم وقوته ليست هي مقياس الرجولة، ولا معيار الفضل في الإنسان، فكذلك جمال الوجه وحسن الصورة.

وفي الحديث: "إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم". لذلك أمر الإسلام في بناء الأسرة المسلمة اختيار الزوج الصالح والزوجة الصالحة واعتبر مخالفة هذا الأمر يؤدي إلي فتنة في الأرض وفساد كبير. فقال صلي الله عليه وسلم (إذا جائكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير». وقال صلي الله عليه وسلم (تنكح المرأة لأربع لمالها وجمالها وحسبها ودينها؛ فعليك بذات الدين تربت يداك»ولقد بين النبي صلي الله عليه وسلم ميزان الرجال.

روي البخاري من حديث سهل بن سعد قال: مرَّ رجل علينا ونحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لرجل عندنا: ( ماذا تقول في هذا الرجل ؟!).. قال: يا رسول الله هذا من أشراف أهل المدينة.. هذا من أحسنهم حسباً ونسباً.. هذا من أكثرهم مالا.. هذا حري.. إن خطب يخطب.. وإن تكلم يُسمع.. وإن شفع يُشفع.. فسكت النبي صلى الله عليه وسلم.. ثم مرَّ رجل آخر فقال للرجل نفسه: ( فماذا تقول لهذا الرجل ؟!).. قال يا رسول الله: هذا من فقراء الأنصار.. هذا لا حسب ولا نسب.. هذا حري.. إن خطب ما يُخطب.. وإن تكلم ما يُسمع.. وإن شفع ما يُشفع.. فقال الصادق المصدوق: ( هذا _ يعني الفقير اللي لا حسب ولا نسب _ هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا ).. هذا _ الذي في نظرك الذي إذا تكلم ما يسمع، وإذا شفع ما يشفع، وإذا خطب ما يخطب..( هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا ).. ﴿ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾ ولقد وضع أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب قانونا لمعرفة الرجال حينما سأل عن رجل فقال رجل قال:لا بأس به يا أمير المؤمنين. قال:هل صحبته في سفر ؟ قال: لا يا أمير المؤمنين. قال: هل جرت بينك وبينه خصومة قط ؟قال: لا يا أمير المؤمنين قال: فهل ائتمنته على درهم أو دينار قط ؟قال: لا يا أمير المؤمنين قال: لا علم لك بالرجل، إنما رأيت رجلاً يضع رأسه في المسجد ويرفعه !! قال اذهب فأنت لا تعرفه.

درء المفاسد مقدم علي جلب المنافع:-

هذه قاعدة عظيمة من قواعد الفقه الإسلامي والأدلة عليها قول الله تعالى: ﴿ وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾().فالله جل وعلا نهى الصحابة الكرام أن يسبوا الآلهة أو يسفهوا أحلام من يعبد هذه الآلهة، مع أن سب الآلهة الباطلة ممدوح، بل محثوث عليه، وتسفيه أحلام من يفعل ذلك ممدوح، بل محثوث عليه، بل يثاب المرء إذا فعل ذلك، لكن منع الله جل في علاه هذه المصلحة لدرء مفسدة أعظم منها، أو لتعارض مفسدة مع هذه المصلحة، ألا وهي سب الله جل في علاه، فإن من أعظم المفاسد أن يسب الله جل في علاه. ولذلك بين لنا الله جل في علاه قاعدة شرعية لا بد أن نسير عليها طيلة تعبدنا لله جل في علاه، ألا وهي: دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة، فإن كان في سب الآلهة مصلحة فإن دفع المفسدة أولى. ومن الأدلة التي تثبت ذلك: حديث النبي صلى الله عليه وسلم عموماً: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا).

ففي هذا الحديث دلالة على هذه القاعدة العظيمة، ووجه الدلالة: أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيه منفعة، فسهل فيه وعلقه بالاستطاعة، وأمر بامتثال النهي مطلقاً لأنه مفسدة تجتنب، فالحديث يبين أن الشرع يهتم بالانتهاء عن المنهيات، بدفع المفاسد كلها. فالمنافع فيها التسهيل، قال صلى الله عليه وسلم: (فأتوا منه ما استطعتم)، أما في المنهيات وفي المفاسد قال: (فانتهوا). وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على عائشة رضي الله عنه وأرضاها وقال لها: (لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لهدمت الكعبة، ولبنيتها على قواعد إبراهيم، ولجعلت لها باباً منه يدخل الناس، وباباً يخرجون منه)، ولم يفعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم.

فالمصلحة هنا: أن تكون الكعبة كما بنيت على عهد إبراهيم. والمصلحة الثانية: أنه لا يفرق بين الناس، حيث إنَّ أهل مكة كانوا قد جعلوا مصعداً يصعد عليه الشرفاء ليدخلوا الكعبة، لكن الضعفاء أو الفقراء لا يدخلون.

فكان النبي صلى الله عليه وسلم يريد مصلحة أعظم من ذلك ألا وهي عدم التفريق؛ لأن رب أشعث أغبر عند الله أفضل من آلاف من هؤلاء المعظمين، فقال: (ولجعلت لها باباً يدخل منه الناس)، والمصلحة العظمى: باب يخرجون منه خشية التزاحم. فهذه مصلحة عظيمة جداً أن تبنى الكعبة على قواعد إبراهيم، لكن نازعت هذه المصلحة مفسدة فامتنع النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الشاهد، والمفسدة هي: حدوث الفتنة وهو ارتدادهم عن الإسلام، فإنَّ أهل مكة كانوا يعظمون الكعبة، ويعظمون الشعائر، فإذا رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يهدم الكعبة سيقولون: النبي صلى الله عليه وسلم لا يعظم الكعبة فتحدث الفتنة بينهم، فيرتدون عن الإسلام؛ لأنهم لا يفقهون أن النبي صلى الله عليه وسلم يبين أن هدم الكعبة وبناءها على قواعد إبراهيم مصلحة كبيرة جداً، بل سيقولون: لم يعظم شعائر الله جل في علاه، كيف يأمرنا أن نعظم شعائر الله وهو لم يعظم شعائر الله حين هدم الكعبة؟

التوازن في حياة المسلم:

إن ترتيب الأولويات يجعل حياة المسلم متوازنة، فقد وازن الإسلام بين المطالب كلِّها في اتِّساق لا طغيان فيه لجانب على جانب؛ بل أكَّد على ذلك بالنهي عن الغلوِّ والإفراط، كما نهى عن التفريط والإهمال، وأمر بالتوسُّط والاعتدال في جميع الأحوال، ولم تأت الشريعة إلا بتنظيم تحقيق تلك المطالب، وبيان حدودها التي لا تتصادم مع فطرة الإنسان ووظيفته التي خُلق من أجلها، ألا وهي عبادة الله وعمارة الأرض بالنافع والصالح، فأباحت الشريعة كل شيء فيه منفعة راجحة للإنسان، ونهت عن كل شيء فيه مفسدة ومضرة على حياة الإنسان أو عقله أو ماله أو جسده.وهذه بعض نصوص الوحيالذي نزل على محمَّد - صلى الله عليه وسلم:ـ

قال تعالى: ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾() ؛ فلم يخلق الله تعالى هذا الكون ليبقى هملاً غير مستثمَر، أو لينعزل عنه الخلق، والتعبير بـ ﴿ سَخَّرَ ﴾ فيه معنى التذليل والتسهيل لاستكشاف هذا الكون، والاستفادة من مكنوناته وكنوزه.

وقال الله تعالى: ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾(). وقال تعالى: ﴿ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ ﴾ ()، فهم مع تجارتهم لم يهملوا الجانب الروحي والتعبدي والخلقي الذي يدفع إليه الإشفاق من الحساب بين يدي الله في الآخرة، فلنتصوَّر كيف يكون سلوك مثل هؤلاء التجار بمثل هذه العقيدة وهذه الأخلاق، ثم لنتصوَّر كيف تكون الحياة فيه أناس كهؤلاء في مجالات أخرى من مجالات الحياة! وقد أثبت التاريخ أن أمثال هؤلاء التجار المسلمين كانوا سببًا في دخول الإسلام إلى بلدان شاسعة المسافات، كأندونيسيا والسودان وغيرهما، دون أن تكون هناك جيوش فاتحة كما يزعم بعض الذين لم يقرؤوا التاريخ جيدًا. وقال تعالى: ﴿ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ﴾().

وقد ضرب نبي الإسلام محمَّد - صلى الله عليه وسلم - أروع الأمثلة العملية والتوجيهية في التوازن الروحي والمادي، حتى يصل إلى درجة الغضب الشديد ممن يخالف الفطرة البشرية وسنة الأنبياء والمرسلين، فقد بلغه مرةً أن ناسًا حلفوا - مبالغةً في التعبُّد لله - بالامتناع عن النوم وعن الزواج وعن الأكل والشرب؛ فكان موقفه منهم حاسمًا؛ تحقيقًا لمنهج التوازن الذي بُعث به؛ فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: جاء ثلاث رهطٍ إلى بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما أُخبِروا؛ كأنهم تقالُّوها - أي: عدُّوها قليلة! - فقالوا: أين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قد غفر الله له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر!قال أحدهم: أمَّا أنا فإني أصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا.

فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني!)) ().

نخلص من هذا أن الأولويات تبدأ بحق الله تعالى ثم حق الإنسان مع نفسه وأهله وجيرانه.                                                                                                 ترتيب الأوْلويَّات في حياتنا :

لانقدم مهمًّا على الأهم، ولانقدِّم ما مصلحتُه قليلة على ما مصلحتُه كثيرة.جانب التربية

لو فكَّر الوالدان بالأوْلويَّات، وفكَّروا قبل أن يغضَبوا أنَّ لغضبهم أضرارًا جسيمةً على ابنِائهم قد تكون أخلاقيَّة أو عدوانيَّة في مستقبل حياتِه لاختاروا طريقَ الحِكْمة في عِلاج الخطأ غير  المقصود .في جانب الدَّعوة :، قد يتحمَّس شخصٌ لنشْر سنَّة مهجورة، فتكون على حساب سُنن أُخرى أهمَّ منها، أو يُصحِّح حديثًا ضعيفًا لإثْبات إعجازٍ علْمي، قد تقتصِر فائدتُه على أشخاصٍ معدودين، مع أنَّ الأوْلى الالتِزام بقواعد السَّلف في التَّصحيح والتَّضعيف، وهناك الكثير والكثير من العشوائيَّة في ترتيب الأوْلويَّات، وكثير من الخلافات والمخاصمات - سواءٌ بين العُلماء أو الأشخاص العاديِّين أو حتَّى بين الزَّوجين - ناشئة بسبب التَّفاوُت في ترتيب الأوْلويَّات، وعدم أخْذِها بالأهمِّ ثم المهمِّ ثم الأقرب فالأقرب.

ترتيبًا للأوْلويَّات في حياتِنا : من القرآن الكريم والسنَّة المطهَّرة، فتكون لنا مُنْطلقًا نبنِي عليْه تعامُلنا، وردَّة فعلِنا وقياساتنا.

حاجتنا إلى فقه الأولويات :

المقصود بالفقه: ضرورة الفهم والإدراك لحقائق كثيرة في الشرع ينبغي، أن يتحلى المسلمون ، بالفهم العميق لدينهم، في أهدافه.. وأصوله.. وقواعده.. ولدعوته؛ في منهجها، وأسلوبها، ووسائلها ، كي يستعملوها فيما يخدم دينهم.. بحكمة بالغة، حتى تثمر دعوتهم، ولا تصادم واقعهم، فتعود عليه بالفشل واليأس.

ومن ذلك الفقه:

فقه الأولويات:

مما هو معلوم من الدين بالضرورة ؛ أن في الدين أولويات.. أولويات في قضايا الإيمان.. وفي الأعمال.. وفي الأمر والإنكار.. وفي العلم.. وفي التعليم.. وأولويات في التبليغ والدعوة.

والمقصود بفقه الأولويات: ترتيب العالم أو الداعية لأوراقه.. الأهم فالأهم.. والأحوج فالأحوج.. والأنفع للمدعوين فالأنفع.

وفي هذا البحث اوئكد على الدعوة إلى التوحيد قبل العبادات.. وإلى الإيمان قبل الأحكام.. والخوف من الله قبل النهي عن المحرمات.. ووحدة الصف مقدمة على الدعوة إلى السنن.

وليس من مانع إذا رأى الداعية مصلحة في الكلام عن أكثر من أمر، أن يُقدم مهماً على أهم، في بعض الحالات، لمصلحة ظاهرة، إذ يترجح المفضول على الفاضل ببعض القيود.

إن فاقد فقه الأولويات، قد يدعو إلى الأعمال قبل تحقيق توحيد الربوبية والألوهية، وإلى السنن قبل الواجبات، وإلى ترك المكروهات قبل المحرمات، وإلى الشكليات قبل المضامين، وإلى الفرعيات قبل الأسس، كوحدة الكلمة، وتماسك الصف، مما ينعكس أثره سلبياً على الدعوة.

إن فقه الأولويات؛ يمنح الداعية بصيرة في دعوته، وتوفيقاً في تصرفاته، ويحفظ عليه وقته وطاقته.. ويعطيه رؤية واضحة في المنهج بعامة، وفي الدعوة بخاصة. أولويات الدعوة، وأدلة ذلك تفصيلا ضمن الكتاب، والمقصود هاهنا التنويه ، والتذكير .

فقه المقاصد:

إن للشريعة الإسلامية الغراء غايات عظيمةً، ومقاصدَ نبيلةً؛ مقاصد عامة.. ومقاصد خاصة في كل حكم من أحكامها، وفي كل فرع من فروعها؛ فرع القضاء.. فرع الحسبة.. فرع البيوع.. ومن أهمها؛ مقاصد الدعوة إلى الله تعالى.

قال الشاطبي: ((لا بد من اعتبار الموافقة لقصد الشارع، لأن المصالح إنما اعتبرت مصالح من حيث وضعها الشارع)).

ومن فَقَدَ فقه المقاصد، تخبط في منهجه، وأفسد في دعوته.

فمن مقاصد الشريعة في الدعوة إلى الله تعالى هداية العباد، ورحمتهم، لا محاسبتهم وكشف عوراتهم.

ومن مقاصد الشريعة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: إتيان المعروف، والانتهاء عن المنكر، لا مجرد الأمر به، والنهي عنه، فلو تحقق ذلك بأي أسلوب مشروع، كان ذلك هو المقصود.

ولذلك لم يحدد الإسلام أسلوباً معيناً في الدعوة، والأمر، والنهي، ولم يعين وسيلة خاصة بها، ولم يلزم أحداً من ذلك بشيء، بل ترك الباب مفتوحاً، في حدود تحقيق المقاصد ضمن إطار الإسلام العام.

ونجد هذا واضحاً في أفعال النبي ووصاياه: في الجهاد مثلاً، فمقصد الجهاد: هداية العباد، ودفع الصاد عن سبيل الله، وليس المقصد، قتل العباد.. وانتهاك الحرمات، وترويع الآمنين، ولذلك نهى رسول الله عن الابتداء بقتالهم قبل دعوتهم، ونهى عن قتل الشيوخ والنساء والأطفال والرهبان، وأمر بمقاتلة الذين يقاتلون، ويصدون عن سبيل الله ويعتدون، وحرم: الظلم والاعتداء، على أي كان، ولو حيواناً، وهذا تفسير عملي لقوله تعالى: وَقَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوَاْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ الْمُعْتَدِينَ() .

إن من أعظم فقه الداعية أن يتفطن لما يكون بعد فعله من أمر أو نهي أو دعوة.

فقه المصالح والمفاسد:

لا ينفك حكم من أحكام الإسلام عن تحقيق المصالح، أو دفع المفاسد، أو تحقيق كليهما معاً ، من تمام الورع أن يعلم الإنسان خير الخيرين وشر الشرين، ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها.

وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية، والمفسدة الشرعية، فقد يدع واجبات، ويفعل محرمات، ويرى ذلك من الورع، كمن يَدَعُ الجهاد مع الأمراء الظلمة ويرى ذلك ورعاً، ويَدَعُ الجمعة والجماعة خلف الأئمة الذين فيهم بدعة أو فجور، ويرى ذلك من الورع

إن غياب هذا الفقه - فقه المصالح والمفاسد- عند بعض الدعاة والناشئة، جعلهم يفعلون أموراً فيجلبون بها مفاسد.. ويُفَوِّتونَ مصالح.. وهم يظنون أنهم يحسنون صنعاً.

فكم من مصلحة فاتت، او مفسدة أُحدثت باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو باسم الإنكار على أهل البدع.

انظر إلى الذين يؤذي المسلمين والمسلمات والمعاهدين ، كم سببوا من مفاسد، وكم فَوَّتوا من مصالح، وحسبك من مفسدة كبرى، تشويه سمعة الإسلام والمسلمين، وحسبك من تفويت مصلحة كبرى، وهي تقدم الدعوة إلى الله.

وانظر إلى حكمة النبي حين امتنع من قتل رأس المنافقين ابن أبي بن سلول، لتحقيق مصلحة سمعة الدعوة، إذ لما طلب عمر منه قتله، قال: ((دعه، لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه)).

وامتنع عن تحقيق مصلحة بناء الكعبة على أسس إبراهيم، خشية وقوع مفسدة الفتنة بين الناس وهي أكبر.

إن تحلي الداعية بهذا الفقه العظيم، يجعله يحصّل في دعوته مصالح عظيمة، ويدفع مفاسد كثيرة.

ويندرج تحت فقه هذا الباب: فقه بعض القواعد:

درء المفاسد أولى من جلب المصالح أو المنافع

"عند تعارض مصلحتين يعمل بأعلاهما وإن فات أدناهما" .

"إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضررا بارتكاب أخفهما"، وهو ما يعبر عنه بعض الفقهاء بقولهم: "يختار أهون الشرين أو أخف الضررين".

وللعلماء تقسيمات بديعة، وتفصيلات مفيدة في هذا الباب، ليس هاهنا محل ذلك، ولكن نذكر بعضها باختصار:

قال ابن القيم: ((لإنكار المنكر أربع درجات:

الأولى: أن يزول ويخلفه ضده.

الثاني: أن يقل وإن لم يزل بجملته.

الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله.

الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه)).

ومعرفة هذه الأحكام تقي من مفاسد كثيرة.

فقه الشعب والمقامات:

من المعلوم؛ أن في الإسلام شعباً، ولكل شعبة مقام. فثمة: مقام الولاية.. ومقام القضاء.. ومقام الجهاد.. ومقام الدعوة.. ومقامات أخرى، والمقصود بفقه المقامات: أن لكل شعبة من هذه الشعب ،أحكاماً خاصة بها، ومواقف يجب على المسلم الالتزام بها،

فموقف ولي الأمر في معالجة القضايا ليس كموقف القاضي، الذي يمثُل أمامه المذنب، وليس كموقف الداعية وهو ينصح المذنبين.

وموقف المسلم مع الذمي (المعاهد) غير موقفه مع العدو الصائل.

وموقف المسلم مع الكافرين في الجهاد، غير موقفه معهم في الدعوة.

فإن اعتدى على المسلمين عدو ردوا عليه بالقوة، وإذا أُوذي المسلمُ نفسُه من الكافر نفسِه -وهو في مقام الدعوة- كان موقفه مغايراً تماماً لموقفه وهو في حال الجهاد.. إذ يجب على المسلم وهو في مقام الدعوة الصبر، والاحتساب، وكف اليد، أي: عدم الرد بتاتاً إلا بالقول الحسن والحكمة.

وهكذا تتفاوت الأحكام بتفاوت المقامات. وقديماً قيل: لكل مقام مقال.. وهاهنا يمكن أن يقال: لكل مقامٍ حُكْمٌ وموقف.

وإذا عُلم فقه المقامات، عُلم فقه كثيرٍ من الآيات، الذي يظن من لا فقه عنده، أنها متعارضة أو منسوخة.

فمن هذا الباب: صنف من الآيات تأمر بالصبر والعفو.

كقوله تعالى: قُلْ يَأَيّهَا الْكَافِرُونَ... لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ()

وقوله تعالى: وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الاُمُور()

وقوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفّوَاْ أَيْدِيَكُمْ..()

ومن ذلك؛ صنف من الآيات تأمر بالقتال والرد بالمثل.

كقوله تعالى: وَقَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ().

وقوله تعالى: الشّهْرُ الْحَرَامُ بِالشّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَىَ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىَ عَلَيْكُمْ ().

فإذا لم تُفهم هذه النصوص على ضوء فقه المقامات، ظنَّها ضعيف العلم، قليل الفقه: أنها متعارضة أشد التعارض، وإذا لم تصنف هذه النصوص على مقاماتها، وقع المسلمون في أشد التناقض، وفوتوا مصالح كثيرة، ووقعوا في مفاسد عظيمة.

وإذا توفر فقه المقامات عُلم؛ أن أحكام الآيات الثلاث الأُوَل (الصنف الأول) التي أمرت بالعفو والصفح تكون في مقام الدعوة، وعندما يكون المسلمون بين أظهر الكافرين في حال السلم، وأن أحكام الآيتين الأخيرتين تكون بعد التمكين في حال الجهاد.

وفي حال غياب فقه المقامات هذا عند الدعاة والناشئة، سيسقطون في حمئة التناقض، ووضع الأحكام في غير محلها، وتنفير الناس من الدين.. إذا ما استعمل العنف في مقام الدعوة، ونصب الداعية نفسه قاضياً صارماً، بدل أن يكون داعية رحيماً، فيصدر على الناس الأحكام، ويقسم عليهم الضلالة والهداية.

بل ربما سفك الدم الحرام، وكشف الستر المصون، وجر على المسلمين أذى كثيرًا ومصائب لا يعلمها إلا الله، وهو يستشهد بتلك النصوص ويضعها في غير مقامها، وهو يحسب أنه يحسن فقهًا، ويجيد دعوة، أو يحيي جهاداً.. و يقيم دولة.

حاجتنا إلى التربية:

ليست التربية فرعاً من فروع الدين، أو مسألة من مسائل الفقه، ولا هي علماً نافلاً.. أو قضية هامشية فحسب.

بل إن التربية ركيزة مهمة في بناء المسلم بصفة عامة والداعية بصفة بخاصة.

فما هي هذه التربية وما هي مهمتها؟

التربية  بتعريف مبسط  هي: تدريب الناشئة في الدين -صَغُرَ في السن أو كبر- على القيام بالأحكام، والتكيُّف مع الواقع بصورة صحيحة .

ولهذا فالتربية لا تتم بموعظة تُلقى.. أو خطبة جمعة تسمع.. ولا هي تتحقق بكتاب يُؤلف.. أو بحث يُقرأ.. ولا بدرس يُحضر.. أو بمحاضرة تُلقى فحسب.. إن عملية التربية أعمق معنى، وأوسع مدى من هذا كله.

وإنه لمن الخطأ الواضح؛ أن نظن: أن التعلم يغني عن التربية، وأن مجرد حشو أذهان الطلاب من الناشئة بالمعلومات، وتكديس صدورهم بالحفظ، مُغنٍ لنا عن التربية.

إنها جهد متواصل، وتدريب دؤوب، ومتابعة مستمرة للمتربين.. فلا تُحقق إلا بممارسةٍ عمليةٍ، وإشراف مباشرٍ على المتربيين.

ولذلك لم يرسل الله رسُلاً من الملائكة ليس من طباعهم معاشرة الناس، بل أرسل الله عز وجل الأنبياء والرسل بشراً من جنسهم، يعايشون الناس، حتى يتمكنوا من تعليم المدعوين، وتزكية العباد، وممارسة العملية التربوية بين أظهرهم، قال تعالى: وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاّ رِجَالاً نّوحِى إِلَيْهِمْ()

وقال تعالى: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً.()

وقال تعالى: وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رّسُولٍ إِلاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيّنَ لَهُمْ.()وذلك لأجل الاختلاط بهم، ومتابعة تصرفاتهم، ولتصحيح ما كان منها خطأ، وإقرار ما كان منها صواباً رَبّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكّيهِمْ ().

فالتزكية  التي تعني في عُرفنا التربية : هي تطهير القلوب، وتسديد الأقوال، وإصلاح الأعمال، وتدريب المدعوين على ذلك عملياً.

وكذلك لم يكتف الله تعالى لهداية الناس بإنزال الكتب، إذ كان الله قادرًا على أن يُنّزَل في كل بيت صحفاً تتلى، وأن يريح الأنبياء من العناء، والرسل من الابتلاء، ولكن العملية التربوية إذ ذاك لن تحصل، لأن التربية لا تكون إلا بمرب يَتتبَّع، وبمدرب يُدرب، وبموجه يُصحح، وبأب يَحنُو، وبشيخ يَعطف، ولا تكون إلا في تجارب تُصوَّب أو تُخَطِّأ.. هكذا كانت حياة الأنبياء بين أقوامهم.. وبخاصة رسولنا الكريم محمد عليهم الصلاة والسلام جميعاً، كان يربي أصحابه بكل ما في هذه الكلمة من معنى، حتى أخرج الله على يده جيلاً أصبح قدوة للعباد، ومنارات في البلاد . قال الله تعالى " مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُم "()

إن مَثَل بعض الناشئة اليوم، كمثل رجل أراد أن يتعلم السباحة. فطالع لذلك الكتب الكثيرة، وحفظها غيباً، وقتلها فهماً، ووسعها هضماً.. ثم قال في نفسه: إن السباحة أصبحت أمرًا هينًا بعدما قرأتُ عنها ما قرأتُ.. وفهمتُ ما فهمت..، حتى إذا ما جاء اليم ألقى نفسه فيه، وهو واثق من نفسه، مستحضر لطريقتها، حافظ لقواعدها.. مستغنٍ عن المدرب، فغاب في جوف الماء ولم يعد.

أو كمن أراد أن يتعلم قيادة مركبة، فقرأ لها وحفظ، وأتقن ذلك نظرياً، حتى إذا ما استلم مقود المركبة معتمداً على نفسه، مستغنياً عن المدرب، معتداً بتحضيره. فما كان منه إلا أن آذى العباد ونفسه وأهله.

وهكذا كان من بعض ناشئة الصحوة في بعض بقاع المسلمين، حَضَروا دروساً.. أو سمعوا أشرطة.. أو قرؤوا كتباً.. ثم قاموا إلى الدعوة.. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم إلى الجهاد زعموا... ثم.. كان ما كان مما نحن نذكره.. فقل خيراً ولا تسأل عن الخبر.

إن معظم مظاهر سوء تصرف بعض الناشئة، وبخاصة في مقام الدعوة إلى الله، مرجعه إلى فقدان التربية.. فحري بالعلماء، وجدير بالدعاة، أن يعطوا هذا الأمر حقه، كي نقي الناشئة شر الانحراف، والبلاد والعباد شر الفساد.

حاجتنا إلى الورع:

هذا المَعْلم ليس بأقلَّ أهمية من المعالم الأخرى، فهو يصقل النفوس، ويُهذِّب التصرف، ويضبط اللسان، ويجعل المرء روياً متأنياً.

وإن إهمال تربية الناشئة عليه، دفعها إلى سفك الدم الحرام، في الشهر الحرام، في البيت الحرام، وهي تظن أنها تحسن صنعا.

وقد رُؤي بعض من فقد الورع في الوقت الذي أمرنا الله بدعوة الناس، ذهب بعض الدعاة إلى محاسبتهم، وإعلان الحكم وتنفيذه عليهم، حتى قام بعضهم مقام الله سبحانه في الحكم، يدخل من يشاء الجنة، ويدخل من يشاء النار.

وإذ أمر الله دعوة الناس بالستر والنصح، إذا بهم يسلكون مسلك الكشف والفضح، ونشر عيوب العباد على رؤوس الأشهاد.

ولقد رؤي من الناشئة وغيرهم، من يتصدى للفتوى في مسائل لو عرضت على الأئمة الكبار بل الصحابة، لترددوا فيها.. وقد أفتوا في مسائل أحجم عنها الفحول، وحارت فيها العقول، وهي عندهم بديهة.

وما أجمل هذه القاعدة في هذا المقام:

إذا حكمت حوكمت.. وإذا تورعت عوفيت.

أي إذا حكمت على الناس، فستُسأل عن حكمك، وستحاكم بين يدي ربك، وأما إذا تورعت عن الحكم على الناس، والخوض في أعراضهم، عافاك الله من تحمل تبعة حسابهم، والحكم عليهم، وشتان بين من يُحاكم، وبين من يُعافى.

حاجتنا إلى الواقعية:

إن من أجمل ما اتصفَتْ به دعوة الإسلام وأعظمِه: الواقعية في التصور.. الواقعية في الطرح.. الواقعية في المعالجة.. الواقعية في التعبد.

وكيف لا يكون ذلك، وقد أنزله مَنْ خلق الخلق، ويعلم حالهم وما يحتاجون إليه.

قال تعالى: أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللّطِيفُ الْخَبِيرُ()

أي لا يأمر المخلوق إلا بما يناسبه، وبما يناسب واقعه، لما يعلم من طبيعته.

وقال تعالى: لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا.()

والمقصود بالواقعية هاهنا: فهم الواقع على حقيقته، ومعالجة ذلك معالجة شرعية متوافقة مع كل ظرف، ومتجانسة مع كل حدث، ومتلائمة مع كل حال وواقع.

إن من المعلوم في دين الله، أن الله لم يوجب الكمال على العباد، لا كمالاً في الإيمان، ولا كمالاً في العمل.. ولا في أي شيء آخر.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : ((والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم)).

حاجة الأمة الإسلامية إلى فقه الأولويات :

فقه الأولويات وضع كل شيء في مرتبته بالعدل، من الأحكام والقِيَم والأعمال، ثم يُقدِّم الأَوْلى فالأَوْلى، بناءً على معايير شرعية صحيحة يهدي إليها نور الوحي، ونور العقل: ( نورٌ على نورٍ)().

فلا يقدم غير المهم على المهم، ولا المهم على الأهم، ولا المرجوح الراجح، ولا المفضول على الفاضل، أو الأفضل.

بل يقدم ما حقه التقديم، ويُؤخِّر ما حقه التأخير، ولا يُكبِّر الصغير، ولا يُهوِّن الخطير، بل يوضع كل شيء في موضعه بالقسطاس المستقيم، بلا طغيان ولا إخسار، كما قال تعالى: (والسماء رفعها ووضح الميزان، ألا تطغوا في الميزان، وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان)().

وأساس هذا: أن القيم والأحكام والأعمال والتكاليف متفاوتة في نظر الشرع تفاوتاً بليغاً، وليست كلها في رتبة واحدة، فمنها الكبير ومنها الصغير، ومنها الأصلي ومنها الفرعي، ومنها الأركان ومنها المكملات، ومنها ما موضعه في الصلب، وما موضعه في الهامش، وفيها الأعلى والأدنى والفاضل والمفضول.

وقد كان الصحابة رضي الله عنهم حريصين كل الحرص على أن يعرفوا الأَوْلى من الأعمال، ليتقرَّبوا إلى الله تعالى به، ولهذا كثرت أسئلتهم عن أفضل العمل، وعن أحب الأعمال إلى الله تعالى، كما في سؤال ابن مسعود وأبى ذر وغيرهما، وجواب النبي (صلى الله عليه وسلم). ولذا كثر في الأحاديث: أفضل الأعمال ، أو أحب الأعمال إلى الله

عن عمرو بن عَبَسة -رضي الله عنه- قال: قال رجل:يا رسول الله، ما الإسلام؟ قال : (أن يسلم لله قلبك، وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك؟ قال: فأيّ الإسلام أفضل؟ قال: (الإيمان)، قال: وما الإيمان؟ قال: (أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت) قال: فأيّ الإيمان أفضل؟ قال: (الهجرة)، وقال: وما الهجرة؟ قال (أن تهجر السُّوء)، قال: فأي الهجرة أفضل؟ قال: (الجهاد)، قال: وما الجهاد؟ قال (أن تقاتل الكفار إن لقيتهم)، قال: فأي الجهاد أفضل؟ قال: (من عُقر جواده وأُهريق دمه).

ومن تتبع ما جاء في القرآن الكريم، ثم ما جاء في السنة المطهرة في هذا المجال، جواباً عن سؤال، أو بياناً لحقيقة، رأى أنها قد وضعت أمامنا جملة معايير لبيان الأفضل والأولى والأحب إلى الله تعالى من الأعمال والقيم والتكاليف، وبيان ما بينها من تفاوت كبير، وذكرت بعض الأحاديث نسبة، مثل (صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ (الفرد) بسبع وعشرين درجة)، (سبق درهم مائة ألف درهم)، (رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه)، (إن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عاماً).

وفي الجانب المقابل وضعت معايير لبيان الأعمال السيئة، كما بينت تفاوتها عند الله، من كبائر وصغائر، وشبهات ومكروهات، وذكرت أحياناً بعض النسب بين بعضها وبعض، مثل (درهم ربا يأكله الرجل، وهو يعلم، أشد عند الله من ستة وثلاثين زنية).

وحذَّرت من أعمال اعتبرها شراً من غيرها، وأسوأ مما سواها، مثل حديث: (شر ما في الرجل، شُحٌ هالع وجُبنٌ خالع).

(شر الناس: الذي يسأل بالله، ثم لا يعطي).

(شرار أُمتي: الثرثارون المتشدقون المتفيهقون، وخيار أُمتي: أحاسنهم أخلاقاً).

(أسرق الناس: الذي يسرق صلاته، لا يتم ركوعها ولا سجودها، وأبخل الناس: مَن بخل بالسلام).

كما بيَّن القرآن أن الناس ليسوا متساوين في منازلهم، وإن كانوا متساوين في إنسانيتهم بأصل الخِلْقة، وإنما هم متفاوتون بعلومهم وأعمالهم تفاوتاً بعيداً.

يقول القرآن: ( يا أيها الناس إنَّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم).()(قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون).()(لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أُولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، فضَّل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجةً، وكلاً وعد الله الحسنى، وفضَّل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً * درجاتٍ منه ومغفرةً ورحمةً، وكان الله غفوراً رحيماً).() (وما يستوي الأعمى والبصير * ولا الظلمات ولا النور * ولا الظل ولا الحَرور، وما يستوي الأحياء ولا الأموات).() (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا، فمنهم ظالمٌ لنفسه ومنهم مقتصدٌ ومنهم سابقٌ بالخيرات بإذن الله).()وهكذا نجد أن الناس يتفاوتون ويتفاضلون، كما تتفاوت الأعمال وتتفاضل، ولكن تفاضلهم إنما هو بالعلم والعمل والتقوى والجهاد.

المطلب الثاني

أولى أولويات حياة المرأة المسلمة المؤمنة في فقه الأولويات

الأولويات في حياة المرأة :

معالم في شخصية المرأة المسلمة

أولى أولويات المرأة:

هو أن تُسلِم وجهَها لله ربِّ العالَمين، وأن تحقِّق العبودية له - جل وعلا - ومِن أولويات المرأة أن تُحصِّل فضائل الأخلاق والأعمال، ومِن أولوياتها كذلك أن تكون وتدًا شامِخًا في بُنيان الأسرَة والمُجتمَع.

ظاهرة تعارُض الأولويات:

قد تتعارَض الأولويات في حياة المرأة، أو تُضطرُّ للاختيار بين شيئَين ترغب في الجمع بينهما؛ مثل أن يَتعارَض زواجها مع تعليمها الجامعيِّ، أو تتعارَض طاعتها لربها مع رغبات زوجها، أو تتعارَض طاعتها لزوجها مع بِرِّها بأهلها، أو يتعارَض زواجُها مع تربية أبنائها مِن زوج سابق، أو يَتعارض نشاطها الاجتماعي مع رعاية بيتها... إلخ.

طرُق الترجيح بين الأولويات:

• تُحاوِل الجمع بين الأولويات إن استطاعَت، فإن لم تَستطِع فلتجمَع بين ما هو أولى وبين جزء مما هو دونه، فإن لم تَستطِع فلتبحَث عن بديل يُحقِّق غرَضًا قريبًا مِن الذي ستتركه.

• تُقدِّم طاعة الله - جل وعلا - على كل ما سِواه.

• تُقدِّم ما وجَب عليها على ما استُحبَّ لها.

• تُقدِّم وظيفة المرأة الأساسية على وظائفها الثانوية.

• تُقدِّم ما يُعينها على الصلاح على ما فيه صلاحٌ لغَيرها.

• تُقدِّم ما فيه أجر ونفع أعظم أو أكثر أو عام على ما فيه نفع أقل أو قاصِر.

• تُقدِّم ما تُحسنه على ما لا تُحسنه.

• تسأل، وتُشاوِر، وتقرأ، وتَستخير، وتدعو، وتتأمَّل في تجارب مَن سبَق.

الأولويات المَعكوسة:

هي تَقديم ما حقُّه التأخير، وتأخير ما حقُّه التقديم؛ مثل أن تُقدِّم زميلاتها على أهلها، والتسلية على الجدِّ والعِلم، وجمالها على صحَّتها، ووظيفتها في العمل على أبنائها، والزواج مِن الغنيِّ رقيق الدِّين على ذي الدِّين والخلُق المُتوسِّط الحال.

المرأة المسلمة وفقه الأولويات :

لعل المهام التي تقع على عاتق المرأة المسلمة في اللحظة الراهنة كثيرة للغاية، بعضها هو جزء من المسؤوليات الأصيلة للمرأة، والبعض الآخر نتاج للمدنية الحديثة، وما تبعها من تطورات والتزامات وقَع العبء الأكبر منها على المرأة؛ ولذلك فإن فقه المرأة المسلمة لطبيعة المهام، ومن ثم فقهها للأولويات، يعد بمثابة أمر بالغ الأهمية بالنسبة لها؛ حتى تقيم أمر دينها وأمر دنياها جميعًا.

فعلى المرأة المسلمة وضع كل مهامها وفقًا لمدى الأولوية التي تندرج تحتها، فهي أولًا أَمَة لله عابدة له، ثم هي زوجة عليها يتقدم العمران، وهي أم صانعة للأجيال، وهي مسؤولة عن بيتها راعية له، ثم هي داعية لمحيطها وفقًا لقدراتها، فهي إنسان إيجابية متفاعلة، ثم هي امرأة عاملة تقدم خدمات ضرورية ولازمة لنهضة أمتها، وإليك تفصيل ذلك.

عابدة لله:

عبادة الله-عز وجل-هي الهدف الذي خُلق الإنسان لأجله:﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ ().

ومن أجمل تعريفات العبادة تعريفُ شيخ الإسلام ابن تيمية لها؛ حيث يقول: العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة.

وعلى ذلك يمكننا تقسيم عبادة المرأة إلى قسمين:

الأول: العبادة بمعناها العام، وتشمل جميع مهام المرأة، التي سيأتي ذكرها، بشرط إصلاح النية، واحتساب هذه الأعمال ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾().

الثاني: العبادة بمعناها الخاص؛ من صلاة وصيام، وذكر وقراءة قرآن، ودعاء وصدقة، وحج وعمرة، وتفكر وتأمل...هذه العبادة لا بد أن يكون لها الأولوية المطلقة لدى المرأة المسلمة تمامًا كما هي عند الرجل المسلم.

هذه العبادة ليس لها علاقة بالظروف المتباينة التي تعيشها النساء، فمهما كانت المسؤوليات والالتزامات، فلا بد أن تحتل العبادة الأولوية الأولى من حيث الاهتمام، وليس من حيث الوقت، ففي بعض الظروف نتيجة للضغوط التي تعيشها النساء ستحتل العبادة مثلًا مدة ساعتين، بينما تحتل رعاية البيت والأولاد مثلًا أكثر من ثماني ساعات، فبالإضافة لتجديد النية لجعل رعاية البيت والأولاد طاعة لله - عز وجل - فإن أولوية الاهتمام ستكون للعبادة، فعندما يؤذن المؤذن للصلاة - وربما قبل ذلك بقليل- ستتوقف حركة الحياة المعتادة؛ حتى تؤدى الصلاة في وقتها، ومن ثم فإن للصلاة الأهمية القصوى على الرغم من أنها لن تستغرق إلا نحو عشرين دقيقة مثلًا وهكذا.

بالإضافة لذلك، فعلى المرأة تخيُّر أوقات خاصة هادئة في جوف الليل مثلًا للصلاة وقراءة القرآن؛ حتى تتجدد إيمانيًّا، فالإيمان يزيد وينقص، وهذا لن يتأتى لها إلا إذا كانت ذات همة عالية.

البيت المسلم لا بد أن يكون عامرًا بالذكر والصلاة، وهذه العبادة هي أولى الملامح التي تميزه عن غيره من البيوت، وإني لأعجب من بعض النساء المتفرغات لبيوتهن من الشكوى بالملل والفراغ، وقد وهبها الله فرصة عظيمة لعمارة بيتها وقلبها بالعبادة، التي هي الأولوية المطلقة للإنسان المسلم.

الزوجة الصالحة :

الزواج نعمة عظيمة من نعم الله - عز وجل - ربما لا تشعر بقيمتها إلا من افتقدتها ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾().

ولتتأمل كل امرأة هذا الحديثَ الذي أخرجه البيهقي عن وافدة النساء أسماء بنت يزيد الأنصارية، حيث إنها "أتت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بين أصحابه، فقالت: بأبي أنت وأمي، إني وافدة النساء إليك، واعلم - نفسي لك الفداء - أنه ما من امرأة كائنة في شرق ولا غرب سمعت بمخرجي هذا إلا وهي على مثل رأيي، إن الله بعثك بالحق إلى الرجال والنساء، فآمنَّا بك وبإلهك الذي أرسلك، وإنا معشر النساء محصورات مقصورات، قواعد بيوتكم، ومَقضى شهواتكم، وحاملات أولادكم، وإنكم معاشر الرجال فُضِّلتم علينا بالجمعة والجماعات، وعيادة المرضى، وشهود الجنائز، والحج بعد الحج، وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله، وإن الرجل منكم إذا خرج حاجًّا أو معتمرًا أو مرابطًا، حفظنا لكم أموالكم، وغزلنا لكم أثوابكم، وربَّينا لكم أولادكم، فما نشارككم في الأجر يا رسول الله؟

فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه بوجهه كله، ثم قال: ((هل سمعتم مقالة امرأة قط أحسن من مسألتها في أمر دينها من هذه؟))، فقالوا: يا رسول الله! ما ظننا أن امرأة تهتدي إلى مثل هذا؟ فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إليها، ثم قال لها: ((انصرفي أيتها المرأة، وأعلمي مَن خلفك من النساء أن حسن تَبَعُّلِ إحداكن لزوجها، وطلبها مرضاته، واتباعها موافقته: يعدل ذلك كله))، فأدبرت المرأة وهي تهلل وتكبر استبشارًا"، هذا الحديث له شواهد كثيرة تؤكد حق الزوج وأهميته، ومن ذلك:

عن حصين بن محصن رضي الله عنه أن عمة له أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: ((أذات زوج أنت؟))، قالت: نعم، قال: ((فأين أنت منه؟))، قالت: ما آلوه إلا ما عجزت عنه، قال: ((فكيف أنت له؟ فإنه جنتك ونارك)).()

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا صلَّت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحصَّنت فرجها، وأطاعت بعلها، دخلت من أي أبواب الجنة شاءت))().

وللأسف تقع كثير من النساء في فخ تقديم أولوية البيت والأطفال على أولوية الزوج، فتكون النتيجة عكس ما تمنين وتوقعن.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا دعا الرجل زوجته لحاجته، فلتأتِه وإن كانت على التنور))().

أي: إن على المرأة أن تترك أي أمر دنيوي مهما كانت أهميته، حتى لو كانت قد عجنت عجينها وتستعد لخبزه في الفرن، وهو أمر حيوي، والوقت فيه ضيق، لا تعرفه إلا النساء اللاتي لا يزلن يقمن بعملية صناعة الخبز في وقتنا الراهن.

فما بال بعض النساء تماطل الزوج؛ لأنها تغسل وتنظف، أو تعد الطعام، أو تستذكر للأولاد، أو غير ذلك من أمور مهمة، ولكن حق الزوج هو الأكثر أهمية في مخطط أولويات المرأة المسلمة.

وحتى على المستوى الدنيوي، فإن الزوج الذي لا تشبع حاجته يصبح غاضبًا وعصبيًّا، ولا يرى إلا الجانب السلبي في كل شيء: فالطعام الذي تم تفضيله عليه، سيراه مالحًا أو ساخنًا أو طعمه لاذعًا، والبيت الذي بذلت المرأة جهدها لتنظيمه وتنظيفه، سيبحث عن أي شيء ليس في مكانه حتى لو كان لعبة لطفل، ويصرخ بسبب إهمال الزوجة ووقتها الضائع في لا شيء؛ لذلك تعجب بعض النساء عندما يجدن امرأة يعاملها زوجها معاملة كريمة رقيقة على الرغم من أنها في رأيهن لا تقوم بعملها المنزلي كما ينبغي، ولا تتفنن في الطعام مثلهن، والذي لا يعرفنه: أن هذه المرأة قد فقهت أولوياتها، وأعطت كل ذي حق حقه، فبعد عبادة الله - سبحانه وتعالى - فإن الأولوية بالنسبة للمرأة المتزوجة هي زوجها من كافة النواحي المادية والمعنوية، سواء فيما يخص مظهرها، أو نعومة صوتها، أو رقة حديثها ولطفه، أو اهتمامها بأمره وما يشغله، باختصار: ما يمكن أن نستخدم معه عبارة : حسن التبعل .

عمل المرأة في النظافة والترتيب وتلميع الجداران ونحوها.... إذا تعارض مع العمل الدعوي سواء كان في مدرسة أو تجمع عائلي أو زيارة للجارات مثلا فأيهما أولى؟ إن الأعمال الأولى تحسينية والعمل الدعوي فرض كفائي إلا إذا تعين عليها فيصبح فرض عين، فهو أولى.

أما العمل المنزلي من طبخ لا تقوم به إلا هي وذلك في منطقة لا توجد بها المطاعم مثلًا أو أن إمكانيات الأسرة المادية لا تحتمل ذلك. فعملها في المنزل أولى لأنه يكون من فروض العين، والعمل الدعوي فرض كفائي.    

أولوية فرض العين على فرض الكفاية :

وكما أن الفرائض مقدمة في الرتبة على النوافل، بلا نزاع. فالفرائض في نفسها متفاوتة.

فمن المؤكد أن فرض العين مقدم على فرض الكفاية. وذلك لأن فرض الكفاية قد يوجد من يقوم به، فيسقط الإثم والحرج عن الآخرين، أما فرض العين فلا بديل له، ولا يقوم أحد مقام من تعين عليه.

وقد دلت الأحاديث النبوية على تقديم فرض العين على فرض الكفاية.

وأظهر مثال لذلك: ما جاء في شأن بر الوالدين والجهاد في سبيل الله حينما يكون الجهاد فرض كفاية، وهو جهاد الطلب لا جهاد الدفاع. وجهاد الطلب: أن يكون العدو في أرضه، ونحن الذين نطلبه، من باب الحرب الوقائية، ومبادرته بالهجوم إذا ظهرت منه بوادر التربص بنا والطمع فينا. فهنا يغني البعض عن الكل، إلا إذا طلب الإمام النفير من الجميع.

في جهاد الطلب يكون بر الوالدين والقيام على خدمتهما أوجب من الانضمام إلى الجيش المقاتل. وهذا ما نبه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

روى الشيخان عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذنه في الجهاد، فقال: "أحي والداك"؟ قال: نعم، قال: "فيهما فجاهد".

وفي رواية لمسلم قال: أقبل رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله، قال: "فهل من والديك أحد حي"؟ قال: نعم، بل كلاهما حي، قال: "فتبتغي الأجر من الله"؟ قال: نعم، قال: "فارجع إلى والديك، فأحسن صحبتهما".

وعنه أيضا قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: جئت أبايعك على الهجرة، وتركت أوي يبكيان، فقال: "ارجع إليهما، فأضحكهما كما أبكيتهما".

وعن أنس رضي الله عنه قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أشتهي الجهاد ولا أقدر عليه، قال: "هل بقي من والديك أحد؟ قال: أمي، قال: "قابل الله في برها، فإذا فعلت ذلك فأنت حاج ومعتمر ومجاهد".

وعن معاوية بن جاهمة أن جاهمة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أردت أن أغزو، وقد جئت أستشيرك، فقال: "هل لك من أم؟" قال: نعم، قال: "فالزمها، فإن الجنة عند رجلها".

، ولفظه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أستشيره في الجهاد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألك والدان"؟ قلت: نعم، قال: "الزمهما، فإن الجنة تحت أرجلهما".()

فروض الكفاية تتفاوت

وأحب أن أوضح هنا: أن فروض الكفاية تتفاوت أيضا.

فهناك فروض كفاية قام بها بعض الناس، وربما أصبح فيها فائض.

وفروض كفاية أخرى لم يقم بها عدد كاف، أو لم يقم بها أحد قط.

ففي زمن الإمام الغزالي عاب على أهل عصره أنهم تكدسوا في طلب الفقه، وطلب فرض كفاية، على حين تخلفوا عن ثغرة في واجب كفائي آخر، مثل علم الطب، حتى إن البلدة يوجد بها خمسون متفقها، ولا يوجد بها إلا طبيب من أهل الذمة، مع ضرورة الطب الدنيوية، ومع أن للطب مدخلا في الأحكام الشرعية، والأمور الدينية.

ففرض الكفاية الذي لم يقم به أحد يكون الاشتغال به أولى ممن قام به بعض، ولو لم يسد كل الحاجة، وفرض الكفاية الذي قام به عدد غير كاف يكون الاشتغال به أولى من فرض آخر قام به عدد كاف، وربما زائد عن الحاجة.

وقد يصبح فرض الكفاية في بعض الأحيان فرض عين على زيد أو عمرو من الناس، لأنه وحده الذي اجتمعت له مؤهلاته، ووجد الموجب لقيامه، ولم يوجد المانع منه.

كما إذا احتاج بلد ما إلى فقيه يفتي الناس، وهو وحده الذي تعلم الفقه، أو هو وحده القادر على تحصيله.

ومثله المعلم والخطيب والطبيب والمهندس، وكل ذي علم أو صنعة، يحتاج إليها الناس، وهو يملكها دون غيره.

ومثل ذلك إذا كان ذا خبرة عسكرية معينة، وجيش المسلمين يحتاج إليها، ولا يسد غيره مسده، فيجب عليه أن يقدم نفسه لأداء هذه الخدمة.

أولوية حقوق العباد على حق الله المجرد

وإذا كان فرض العين مقدما على فرض الكفاية، فإن فروض الأعيان تتفاوت فيما بينها أيضا. ولذا رأينا الشرع يؤكد في كثير من أحكامه تعظيم ما يتعلق بحقوق العباد.

ففرض العين، المتعلق بحق الله تعالى وحده يمكن التسامح فيه، بخلاف فرض العين المتعلق بحقوق العباد. فقد قال العلماء: إن حقوق الله تعالى مبنية على المسامحة، وحقوق العباد مبنية على المشاحة.

ولهذا إذا كان الحج مثلا واجبا، وأداء الدين واجبا، فإن أداء الدين مقدم. فلا يجوز للمسلم أن يقدم على الحج حتى يؤدي دينه. إلا إذا استأذن من صاحب الدين، أو كان الدين مؤجلا، وهو واثق من قدرته على الوفاء به.

ولأهمية حقوق العباد هنا ـ وبخاصة الحقوق المالية ـ صح الحديث أن الشهادة في سبيل الله ـ وهي أرقى ما يطلبه المسلم للتقرب إلى ربه ـ لا تسقط عنه الدين.

ففي الصحيح: "يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين".

وفيه: أن رجلا قال: يا رسول الله، أرأيت إن قتلت في سبيل الله تكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم، إن قتلت في سبيل الله، وأنت صابر مقبل غير مدبر"، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف قلت"؟ فأعاد الرجل سؤاله، وأعاد الرسول الكريم جوابه وزاد عليه: "إلا الدين، فإن جبريل عليه السلام قال لي ذلك".

وأعجب من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله! ماذا أنزل من التشديد في الدين؟! والذي نفسي بيده، لو أن رجلا قتل في سبيل الله، ثم أحيي، ثم قتل، ثم أحيي، ثم قتل، وعليه دين، ما دخل الجنة حتى يقضى دينه".

ومثل هذا من غل من الغنيمة، وهو في سبيل الله، أي في الجهاد (أي أخذ من الغنيمة لنفسه وهي من حق الجيش كله) فإن مد يده إلى مال الغنيمة قبل أن يقسم، ولو كان شيئا تافها، يحرمه فضل الجهاد، وأجر المجاهد، وإذا قتل يحرمه شرف الشهادة، وأجر الشهيد.

كان على ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم (والثقل: الغنيمة) رجل يقال له: "كركرة" فمات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هو في النار"، فذهبوا ينظرون إليه، فوجدوا عباءة قد غلها.

وتوفى رجل من الصحابة في خيبر، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "صلوا على صاحبكم"، فتغيرت وجوه الناس لذلك فقال: "إن صاحبكم غل في سبيل الله" (أي وهو في الجهاد) ففتشوا متاعه فوجدوا فيه خرزا من خرز يهود لا يساوي درهمين.

من أجل درهمين أعرض النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عليه، ليكون في ذلك أبلغ زاجر عن الطمع في المال العام، قل أو كثر.

وعن ابن عباس قال: حدثني عمر قال: لما كان يوم خيبر أقبل نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: فلان شهيد، وفلان شهيد، حتى مروا على رجل، فقالوا: فلان شهيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلا، إني رأيته في النار، في بردة غلها ـ أو في عباءة غلهاـ "، ثم قال: "يا ابن الخطاب، اذهب فناد في الناس: إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون".

علام تدل هذه الأحاديث؟ إنها تدل على تعظيم حقوق الخلق، ولا سيما ما يتعلق بالمال، سواء أكان خاصا أم عاما، فلا يجوز أخذه من غير حله، وأكله بالباطل، وإن كان تافها، لأن المهم هو المبدأ، ومن اجترأ على أخذ القليل، يوشك أن يجترئ على الكثير، والصغيرة تجر إلى الكبيرة، ومعظم النار من مستصغر الشرر.

أولوية حقوق الجماعة على حقوق الأفراد

ومما يذكر هنا أيضا في فقه الأولويات: أن الفرائض المتعلقة بحقوق الجماعة مقدمة على الفرائض المتعلقة بحقوق الأفراد. فإن الفرد لا بقاء له إلا بالجماعة، ولا يستطيع أن يعيش وحده، فهو مدني بطبعه، كما قال القدماء، أو هو حيوان اجتماعي كما قال المحدثون. فالمرء قليل بنفسه، كثير بجماعته، بل هو عدم نفسه، موجود بجماعته.

ومن هنا كان الواجب المتعلق بحق الجماعة أو الأمة أوكد من الواجب المتعلق بحق الفرد. ولهذا قرر العلماء في التعارض بين الجهاد ـ إذا كان فرض كفاية ـ وبين بر الوالدين، أن بر الوالدين مقدم، كما ثبت من الأحاديث الصحيحة التي ذكرناها. ولكن إذا كان الجهاد فرض عين، كما إذا غزا الأعداء الكفار بلدا من بلاد الإسلام، ففرض على أهله كافة أن يهبوا للدفاع عن بلدهم. فإذا عارض بعض الآباء أو الأمهات ـ بمقتضى عواطفهم ـ في اشتراك أبنائهم في هذا الجهاد الدفاعي، فلا عبرة بمعارضتهم شرعا.

صحيح أن برهما وطاعتهما فرض عين، كما أن الجهاد هنا فرض عين، ولكن فرض الجهاد هنا، لحماية الأمة كلها، ومنها الوالدان، فلو سقط البلد، أو هلك أهله، لهلك الأبوان فيمن هلك. فالجهاد هنا لمصلحة الجميع.

وقد يعبر عن ذلك بأن الجهاد هنا حق الله، والبر حق الوالدين، وحق الله تعالى مقدم على حق خلقه.

وهذا تأكيد للمقولة السابقة، فكثيرا ما تكون كلمة "حق الله" تعبيرا عن حق الجماعة أو الأمة، إذ أن الله تعالى لا تعود عليه مصلحة من وراء هذه الأحكام، فإنما هي أولا وأخيرا لمصلحة عباده.

وتطبيقا لهذه القاعدة: تقديم حق الأمة على حق الفرد، أجاز الإمام الغزالي وغيره رمي المسلمين إذا تترس العدو بهم (أي احتمى بهم وجعلهم ترسا له في مقدمة جيشه) بشروط معينة، مع أن من المقرر الذي لا نزاع فيه: أن حقن دماء المسلمين واجب، وأنه لا يجوز سفك دم من مسلم بغير حق. فكيف استجاز مثل الغزالي رمي هؤلاء المسلمين البرآء في جيش العدو الكافر؟

إنما استجاز ذلك وكل من وافقه، صيانة للجماعة، وحفظا للأمة من الهلاك، فإن الفرد يمكن أن يعوض. أما الأمة فلا عوض عنها.

يقول الفقهاء: لو أن الأعداء تترسوا ببعض المسلمين، كأن كانوا أسرى عندهم أو نحو ذلك، وجعلوهم في مواجهة الجيش المسلم، ليتقوا به، وكان في ترك هؤلاء الغزاة خطر على الأمة الإسلامية جاز قتالهم، وإن قتلوا المسلمين الذين معهم، مع أنهم معصومو الدم لا ذنب لهم، ولكن ضرورة الدفاع عن الأمة كلها اقتضت التضحية بهؤلاء الأفراد خشية استئصال الإسلام واستعلاء الكفر، وأجر هؤلاء الأفراد على الله.

ولهذا، رد الإمام الغزالي اعتراض من يقول في هذه الصورة: هذا سفك دم معصوم محرم، بأنه معارض، لأن في الكف عنه إحلال دماء معصومة لا حصر لها، ونحن نعلم أن الشرع يؤثر الكلي على الجزئي، فإن حفظ أهل الإسلام عن اصطلام الكفار أهم في مقصود الشرع من حفظ دم مسلم واحد، فهذا مقطوع به من مقصود الشرع.

وهذا ـ كما رأينا ـ مبني على فقه الموازنات.

ومثل ذلك إذا اقتضت ظروف الحرب فرض ضرائب على القادرين وأهل اليسار لتمويل الجهاد، وإمداد الجيوش، وإعداد الحصون، ونحو ذلك من احتياجات الحرب، فإن الشرع يؤيد ذلك ويوجبه، كما نص على ذلك الفقهاء، وإن كان الكثير منهم في الأحوال المعتادة لا يطالب الناس بحق في المال غير الزكاة. واستدل الغزالي لذلك بقوله: "لأنا نعلم أنه إذا تعارض شران أو ضرران قصد الشرع دفع أشد الضررين وأعظم الشرين، وما يؤديه كل واحد منهم (أي المكلفين بالضرائب الإضافية) قليل بالإضافة إلى ما يخاطر به من نفسه وماله، لو خلت خطة الإسلام (أي بلاده) عن ذي شوكة يحفظ نظام الأمور، ويقطع مادة الشرور".

ومثل ذلك فك أسرى المسلمين، وتخليصهم من ذل أسر الكفار، مهما كلف ذلك من الأموال. قال الإمام مالك: يجب على كافة المسلمين فداء أسراهم، وإن استغرق ذلك أموالهم.

هذا، لأن كرامة هؤلاء الأسرى من كرامة الأمة الإسلامية، وكرامة الأمة فوق الحرمة الخاصة لأموال الأفراد.

أولوية الولاء للجماعة والأمة على القبيلة والفرد

ومما يؤكد هذا المعنى: ما جاء به القرآن، وأكدته السنة من تقديم الولاء للجماعة، والشعور بمعنى الأمة، على الولاء للقبيلة والعشيرة، فلا فردية، ولا عصبية، ولا شرود عن الجماعة.

كانت القبيلة في المجتمع الجاهلي هي أساس الانتماء، ومحور الولاء. وكان ولاء الرجل لقبيلته في الحق وفي الباطل، يعبر عن ذلك قول الشاعر:

لا يسألون أخاهم حين ندبهم ***في النائبات على ما قال برهانا

وكان شعار كل منهم: "انصر أخاك، ظالما أو مظلوما"! على ظاهر معناها.

فلما جاء الإسلام جعل الولاء لله ولرسوله، ولجماعة المؤمنين، أعني أمة الإسلام. وقال تعالى: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا، الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون، ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون).

ورباهم القرآن والسنة على القيام لله شهداء بالقسط، لا يمنعهم من ذلك عاطفة الحب لقريب، ولا عاطفة البغض لعدو، فالعدل يجب أن يكون فوق العواطف، وأن يكون لله، فلا يحابي من يحب، ولا حيف على من يكره.

يقول تعالى: (يا أيها الذين أمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين).

(يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى، واتقوا الله).

واستخدم الرسول صلى الله عليه وسلم بعض عبارات الجاهلية، وأعطاها مفهوما جديدا، لم يكن لهم به عهد قال: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما" قالوا: يا رسول الله، ننصره مظلوما، فكيف ننصره ظالما؟ قال: "تحجزه عن الظلم فإن ذلك نصره".

وبهذا عدل مفهوم النصرة للظالم فأصبح نصره المطلوب أن ينصره على هوى نفسه، وإغواء شيطانه، ويأخذ على يديه، حتى لا يسقط في هوة الظلم، وهو وبال في الدنيا، وظلمات يوم القيامة.

كما حذر عليه الصلاة والسلام من الدعوة للعصبية، أو القتال تحت رايتها، فمن قتل تحت فقتلته جاهلية.

جاء في الصحيح عند عليه الصلاة والسلام: "من قتل تحت راية عمية، يدعو عصبية، وينصر عصبية، فقتلته جاهلية".

والعمية ـ بضم العين ـ هو الأمر الأعمى لا يتبين وجهه.

وفي حديث آخر: "من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة، فمات، مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عمية، يغضب لعصبة، أو يدعو إلى عصبة، أو ينصر عصبة، فقتل، فقتله جاهلية".

وفي حديث رواه أبو داود: "ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية".

وعن واثلة بن الأسقع، قلت: يا رسول الله، ما العصبية؟ قال: "أن تعين قومك على الظلم".

وروى ابن مسعود موقوفا ومرفوعا: "من نصر قومه على غير الحق، فهو كالبعير الذي ردى، فهو ينزع بذنبه".

قال الإمام الخطابي: معناه: أنه قد وقع في الإثم وهلك، كالبعير إذا تردى في بئر، فصار ينزع ذنبه، ولا يقدر على خلاصه.

وكما أنكر النبي صلى الله عليه وسلم "العصبية" وبرئ منها، وممن دعا إليها، أو قاتل عليها، أو مات عليها: دعا إلى "الجماعة" وأكد أمرها، بقوله وفعله وتقريره، وحذر من الفرقة والخلاف والانفراد والشذوذ. من ذلك قوله عليه الصلاة والسلام:

"يد الله على الجماعة".

"الجماعة رحمة، والفرقة عذاب".

وفي لفظ آخر: "الجماعة بركة والفرقة عذاب".

"عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة".

غرس روح الجماعة في أفراد الأمة

ويتبع ما ذكرناه من غرس الولاء للجماعة المسلمة، والأمة المسلمة، إبراز العناية بكل ما يتعلق بأمر المجتمع والأمة، وإعطاؤه أولوية في سلم المصالح والمطالب.

فالملاحظ أن الشريعة الإسلامية لم تغفل أمر المجتمع في عباداتها ومعاملاتها وآدابها وجميع أحكامها. إنما هي تعد الفرد ليكون "لبنة" في بنيان المجتمع، أو "عضوا" في بنية جسده الحي.

وتصوير الفرد باللبنة في البناء أو العضو في الجسد، ليس من عندي، إنما هو تصوير نبوي بليغ، جاء به الحديث الصحيح.

فعن أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا". وعن النعمان بن بشير أنه صلى الله عليه وسلم قال: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم: كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".()

إن الإسلام بقرآنه وسنة نبيه: يغرس في نفس المسلم الشعور بالجماعة في كل أحكامه، وفي كل تعاليمه. ففي الصلاة شرع الجماعة والعيدين والأذان والمساجد، ولم يرخص الرسول صلى الله عليه وسلم لرجل أعمى يصلي في بيته مادام يسمع النداء للصلاة. وهم أن يحرق على قوم بيوتهم لأنهم يتخلفون عن الجماعة.

وفي المسجد يكره للمسلم أن يصلي وحده خلف الصفوف، لما في ذلك من الظهور بصورة الانفراد والشذوذ عن الجماعة، ولو من جهة المظهر.

وقد روى وابصة بن معبد رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأى رجلا يصلي خلف الصف وحده، فأمره أن يعيد الصلاة.

وعن علي بن شيبان رضي الله عنه قال: خرجنا حتى قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه، وصلينا خلفه، ثم صلينا وراءه صلاة أخرى، فقضى الصلاة، فرأى رجلا فردا يصلي خلف الصف قال: فوقف النبي صلى الله عليه وسلم حين انصرف، قال: "استقبل صلاتك، ولا صلاة للذي صلى خلف الصف".فعلى المسلم إذا دخل المسجد ووجد الصفوف مكتملة أن يلتمس فرجة فيدخل فيها، أو يجر واحدا من المصلين ليصلي بجانبه، ولا يصلي منفردا، وعلى الآخر أن يلين في يده، ويستجيب له، وله في ذلك أجر.وقد أخذ بعض الأئمة بظاهر الحديث فأبطلوا صلاة المنفرد وراء الصف، وقال آخرون بكراهتها.والمقصود بما ذكرناه هو: إظهار حرص الإسلام عل الوحدة والجماعة مضمونا وشكلا، جوهرا ومظهرا. على أن المسلم إذا صلى وحده، فإنه يتمثل جماعة المسلمين في ضميره، ويناجي ربه إذا وقف بين يديه باسم الجماعة فيقرأ: (إياك نعبد وإياك نستعين، اهدنا الصراط المستقيم)، فهو لا يسأل الهداية لنفسه، بل يسألها لنفسه وللجماعة معه: "اهدنا".

وفي الصيام لا يصوم المسلم وحده، ولو رأى هو هلال رمضان، ولا يفطر وحده، وإن رأى بعينه هلال شوال، وإنما الصيام يوم يصوم الناس، والفطر يوم يفطر الناس كما صح ذلك في الحديث.

وكذلك الوقوف بعرفة يقف يوم يقف جماعة المسلمين.

عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون".()

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحي الناس".

وعلى هذا العمل عند أئمة المسلمين كلهم. فإن الناس لو وقفوا خطأ بعرفة في العاشر، أجزأهم الوقوف بالاتفاق، وكان ذلك اليوم هو يوم عرفة في حقهم.  

   

المبحث الثاني

تحديد الأولويات وتقديم الواجبات

لم تزل المجتمعات محتاجةً إلى الآداب والأخلاق التي تضبط تعاملات أفرادها، والتي هي في الحقيقة سياجٌ يجعل الجميع هانئًا مطمئنًا؛ لأنَّ الأخلاق مقصدٌ من مقاصد الشريعة في تكميلها، وترسيخ جذورها وأصولها في المجتمعات، ألم يقل نبيكم محمدٌ صلى الله عليه وآله وسلم: (إنما بُعثت لأُتمم مكارم الأخلاق)، (إنما بُعثت لأُتمم محاسن الأخلاق).

ومن جملة هذه الآداب العظيمة التي تحتاج إليها المجتمعات، ويحتاج إلى أن ينضبط بها الأفراد، وخاصة في مثل زماننا، أدبٌ عظيم هو من أصول الآداب، جاء في حديثٍ شريفٍ صحيح - هو من جوامع كلم نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم - رواه الإمام الترمذي وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (مِن حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه).

فهذا الحديث العظيم دلَّ على هذا الأصل، وهو أنْ يترك الإنسان ما لا يعنيه، وهذه أمارة على حُسْن إسلامه، وهذا يبيِّن أنَّ أهل الإسلام منهم مَنْ حَسُنَ إسلامه وتمَّ وكمل، وصار له ثمراتٌ واضحةٌ ملموسة، ومنهم مَن إسلامه فيه النقص ويلحقه التثريب؛ لأنَّه لم يُكمله كما جاءت به الشريعة، ولذلك حثَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم على هذا المنهج الأخلاقي العظيم، وبيَّن أنَّه دلالة على حُسن إسلام المرء، وإنما حسن إسلامه؛ لأنَّه فَقِهَ هذا العمق العظيم الذي يحتاجه هو ويحتاجه مجتمعه؛ لأنَّ إعراض الإنسان عما لا يعنيه يجعله متفرغًا لما يعنيه، ولأنَّ الإنسان إذا كفَّ عما لا يعنيه، كان هذا نوعًا من تطويق الأمور التافهة التي لا يحتاجها الناس مما فيه ضياع أوقاتهم، وانصراف هِممهم عن الأمور السامية إلى الأمور الدنيئة، ولأن عمل الإنسان بهذا الحديث العظيم يقطع الطريق عن الإرجاف في المجتمع، من خلال أخبار وأقاويل يتناقلها الناس، دون أن يعلموا حقيقتها ومصداقيتها وتناقلوها، مع أنَّه لا صلة لهم بها تجعلهم مؤهلين للحديث عنها أو لتناقُلِها.

والمقصود أنَّ هذا الحديثَ العظيم ينبغي أن يكون مستحضرًا لدى كل فرد من أفراد المجتمع: (مِنْ حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، ولذلك ذكر ابن القيم رحمه الله أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم جمع الورع كله في هذا الحديث، فهو يضع للعبدِ قاعدةً عظيمة فيما يأتي وما يدع، وفيه تنبيهٌ أيضًا على الركن الأول في هذا الحديث، وهو تزكية النفس وتربيتها، وهو جانب التخلية بترك ما لا يعني الذي يلزم منه الركن الثاني، وهو التحلية بالانشغال بما يعنيه.

ولذلك كان حريًّا بالمؤمن أن يكون معتنيًا بتكميل إيمانه وتحسين إسلامه، ألم تروا أن الله سبحانه وتعالى نبَّه عباده إلى أنَّ منهم من كان في حسن إسلامه مضرب المثل؛ ولذا قال جل وعلا: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ﴾().

أما من لم يقم بهذا الدين ظاهرًا وباطنًا، فقد أساء، ولذلك كان من علامات حسن الإسلام انشغال المرء بما يعنيه، وأن يترك ما لا يعنيه، ولذلك فإنَّ من مفهوم هذا الحديث أن انشغال الإنسان بما لا يعنيه من علامات تفريطه في إسلامه.

أيها الإخوة المؤمنون، إنَّ تنبيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن من الاهتمام بما يَعنيه، وهذا ضابطٌ مهمٌّ جدًّا أن يكون شغل الإنسان الشاغل أن يهتمَّ بما يعنيه، وهذا مقتضاه أنْ ينصرف عما لا يعنيه؛ أي: لا يهمه ولا يفيده في دينه ولا دنياه، ويدخل في الأمور التي لا تعنيه المحرَّمات والمشتبهات والمكروهات، وفضول المباحات التي لا يحتاج إليها الإنسان، ذلك أن الذي يعني الإنسان في حقيقة الأمر هو دينه بالدرجة الأولى، وذلك أن يكون مكملًا لدينه، حتى إذا وافته منيته يكون قد أتى ما أحبه الله جل وعلا ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ ().

ومن جملة ما يعتني به الإنسان ما يتعلق بأموره الحياتية، فثمةَ أمور يلزمه أن يبادر إليها، وأن يكون مكتسبًا قائمًا بها؛ لأنه إن فرَّط فيها تَلحقه بذلك الملامة، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (كفى بالمرء إثمًا أن يُضيِّع مَن يقوت).

وها هنا ملحظٌ مهم جدًّا، وهو معرفة الضابط فيما يعني الإنسان وما لا يعنيه، هل هي كما تروق للإنسان أن يقول هذا مما يعنيني أو لا يعنيني؟ الحقيقة أنَّ الضابط في ذلك هو الشرع وليس الهوى، فإنَّ كثيرًا من الناس قد يحلوا له أن يترك أمورًا مهمة، ويقول: هذه لا تعنيني، ولكنَّ هذا الأمر لا يُسلَّم له، فقد تجد بعض الناس يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بدعوى أن ذلك من التدخل في خصوصيات الآخرين، وأنَّ هذا مما لا يعني الإنسان، وهذا أمرٌ يتداوله البعض، وربما تلفَّظ به بعض الناس، حينما يُرشَد إلى خير ويُؤمَر بمعروف، أو يُنهَى عن منكر من أمور الدين والدنيا، تجد الذي يرد عليه يقول: هذا ليس مما يعنيك، أو يقول: اهتم بما يعنيك، أو يقول: لا تتدخل في خصوصيات الآخرين، وهذه الكلمة ليست على إطلاقها، نعم قد توجد بعض الأمور من خصوصيات الآخرين، وهي التي تكون شديدةَ الصلةِ بالإنسان، وليس لها امتداد بالآخرين، فلو أنَّ إنسانًا عمل عملًا وكان خاطئًا - وهو مُستتر به، غير مظهر له، ولا مُستعلن به- فإنَّ الشخص الذي يُنقِّب وراءه، ويفتِّش حوله، لا شك أنَّه تدخل فيما لا يعنيه؛ لأنَّ الشريعة تنهى عن التجسس والتنقيب، وتتبُّع ما سُتِر، لكن إذا ظهر أمرٌ من الأمور الخاطئة وكان له تعلُّق بالآخرين - سواء كان في الأمور الدينية، أو الأمور الحياتية المعيشية - لم يعد حينئذٍ شأنًا خاصًّا؛ لأنه تعلق بالآخرين، وحينئذ وجب على الناس أن يكونوا مبادرين لتعديل هذا الخطأ؛ لأنَّ التغاضي عنه سيؤدي إلى مشكلاتٍ متعددةٍ في أمور حياتهم.

وقد يستدل بعض الناس بحديث أو بآية من القرآن الكريم على أن الشخص لا يتدخل في شؤون الآخرين، وهي قول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾()، وهذا الأمر قد أبانه وأوضحه سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فيما رواه أبو داود أنه رضي الله عنه قام في الناس خطيبًا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (يا أيها الناس، إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها على غير مواضعها: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾()، قال: وإنا سمعنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك الله أن يعمهم بعقاب)، وفي روايةٍ قال:(وإني سمعت رسول الله صلى لله عليه وآله وسلم يقول: ما من قومٍ يعمل فيهم بالمعاصي، ثم يقدرون على أن يغيِّروا، ثم لا يغيِّروا - إلا يوشك أنْ يعمَّهم الله منه بعقاب).

ولذلك فالإنسان يميِّز ما يعنيه وما لا يعنيه، والضابط في هذا هو الشرع المطهَّر، وليس الهوى والادعاء.

وبعد أيها الإخوة المؤمنون، فهذا الحديث العظيم حديثٌ ينبغي أنْ يكونَ محل اهتمام الإنسان، وأن يكون متوجهًا إلى ما يعنيه من أمور دينه ودنياه، وأن يكون مهتمًّا بالأولويات، فلا يدخل عليها الأمور الهامشية؛ لأنَّ كثيرًا من الناس اليوم تجده يتحدَّث في كثيرٍ من الأمور، ولكنَّ أكثرها مما لا يعنيه ويضيع ما يعنيه، ولو أنَّ كل واحد حدَّد ما يهمه وما يعنيه، فبادر إليه في أمور دينه وأمور دنياه، لوجدنا ثمراتٍ كثيرة، وإنتاجًا واضحًا في المجتمع.

وهذا الأمر يتأكد ولا شك في مثل زماننا اليوم، مع وجود وسائل التواصل الاجتماعي والثورة المعلوماتية التي جعلت أكثر الناس يتحدَّثون فيما ليس من تخصُّصهم، ولا مما يعنيهم، فتجده يُفتي ويقضي ويرجِّح، ويُخطِّئ ويُصحِّح في أمور دينية وأمور حياتية، وكأنما جمع هذا الإنسان كل التخصصات في الأمور الدينية والأمور الحياتية، فهو يفتي في أمور طلاق وأمور اقتصاد، وأمور العبادات، وأمور المعاملات، وغير ذلك، ويخطِّئ ويصحح على غير علم ولا هدى، ولا كتاب منير، وإذا جئت له في أمور الدنيا، فهو يتحدث في أمور السياسة وفي أمور الاقتصاد، والتجارات، وغير ذلك من أمور هي أكبر منه لا من جهة التخصص، ولا من جهة ما خَفِي عنه، ولو أن كلَّ أحدٍ تكلم فيما يعنيه، وفيما هو مِن تخصُّصه، فإن ذلك أدعى إلى ضبط الأمور في المجتمع، بل إن الإنسان لو كان له تخصُّص في مجال معين، لكنه لم يطلب منه الحديث في هذا المجال، ولا نقده ولا توضيحه، ثم أتى ليتحدث دون أن يُطلب منه، فإن ذلك سيؤدي به إلى خطأ، وربما إلى ردِّ قوله وإلى تضعيف رأيه، وهذا الحديث النبوي يضبط هذه الأمور كلها، ويجعل الناس يهتمون بما يعنيهم.

هذا الحديث تزداد له الحاجة والضرورة لأن يُعمَل بمقتضاه في زمننا هذا، بعد أن تزاحمت فيه الواجبات، واختلطت فيه الأولويات، ولذلك كانت الخطوة الأولى لنجاح الإنسان، ولأجل أن يطمئن ويبعد عن خاطره ما يشغله - أن يحدِّد الأولويات عنده، ما الذي يجعله ناجحًا في أمور دينه وأمور دنياه؟ وأن يركِّز على ما هو بصدده مما يتعلق به، وأما أمور الآخرين - أن يُخطئهم أو يصحح لهم، وليس ذلك فرضًا عليه - فهذا نوعٌ من تضييع الوقت، ونوعٌ من إضاعة الإنسان لما يهمه، ونوعٌ من التفريط الذي يؤدي إلى ثمرات غير حميدة.

إنَّ انتباه الإنسان وتركيزه فيما ينبغي له، وما يتعين عليه، وما ينبغي له أن ينصرف عنه - أمرٌ مهمٌّ، فتتعين وتتأكد أهميته في مثل زماننا اليوم الذي تحيط بنا أنواعٌ من الفتن، ومن تغيُّرات الأمور وتقلُّبات الأحوال، وبعد أن بات أكثر الناس يستطيعون أنْ يتحدثوا وأنْ يكتبوا، من خلال ما تهيَّأ من وسائل التواصل الاجتماعي، وشبكة الإنترنت، والثورة المعلوماتية، وهذا يوجب على الإنسان أنْ يكون يَقِظًا غير ناقلٍ للأخبار إلا بعد التثبت منها، وبعد أن يتثبت، ينظر هل في نقله لما ينقله مصلحة راجحة؟ وهل فيما يكتبه ويتحدث به نفعٌ له وللآخرين؟ وإلا فليُمسك عن ذلك، وهذا الأمر توارَدت على تأكيده نصوص القرآن والسنة.

ومما يدل على هذا الأصل الذي هو موضِّح ومؤكِّد للأصل النبوي المتقدم: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) - ما جاء في كتاب الله جل وعلا من قوله سبحانه: ﴿ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾().

فهذه الآية الكريمة: ﴿ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ﴾()، إنكارٌ من الله جل وعلا على من يبادر إلى الأمور قبل تحقُّقها، فيخبر بها ويُفشيها وينشرها، وقد لا يكون لها صحة، وإنما هي أقاويل وأحاديث قالها فلان من الناس؛ إما أن يكون مجهولًا غير معروف، وإما أن يكون إنسانًا غير ثبتٍ، ولا مُتحقق من صحة ما يقول، والله جل وعلا يقول في كتابه الكريم: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾()، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم حذَّر من تناقُل الأخبار، ومن تداول الأحاديث دون أن يتأكد منها، فقد روى الإمام مسلم رحمه الله في مقدمة صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:(كفى بالمرء كذبًا أن يحدِّث بكل ما سمع)()، وهذا الحديث يعني أنَّ الإنسان إذا كان من طبعه وسجيته أنَّه يتحدث بكل ما يسمع، فلا بد أن يقع في الكذب؛ لأنَّه ليس كل ما يُنقل صحيحًا متحققًا، وحينئذٍ مع تحدُّثه بكل ما يسمع، سيقع في الكذب والخطأ، وفي البهتان والزور وفي اتهام الآخرين.

وثبت في الصحيح أيضًا أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من حدَّث بحديث وهو يرى أنه كذب، فهو أحد الكاذِبين)، وهذا يرد على ما قد يكون عند بعض الناس حينما يرسل رسالة عبر مواقع التواصل، فيقول: كما وردني، أو منقول، أو كما بلغني، هذا لا يعفيك من مسؤولية ما تنقل، وهذا النص النبوي شاهدٌ على تحميل الإنسان مسؤولية ما يكتب: (من حدَّث بحديث وهو يرى أنه كذب)، والمعنى أنَّ الشخص يُحمَّل المسؤولية، فأنت إنسان عاقل، أنت إنسان راشد، أنت مسلم تستطيع أن تميِّز هل هذا الذي بلغك صحيح أو خطأ؟ هل يصح نقله أو لا يصح؟ أنت عندك عقل وعندك تمييز، وعندك فَهْم بالشرع، وتعلم أن هذا يُنقَل أو لا يُنقَل، وهل إذا كان صحيحًا، أجازَه العقل أن يكون صحيحًا؟ هل من مصلحة الناس أن تنقل لهم هذا؟ أم أنه نوعٌ من الإرجاف؟ ونوع من إدخال الحزن عليهم؟ تجد الشخص ينقل الخبر المحزن المكدر المخوف:﴿ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ ﴾()، أمور عظام أمور كبار، لا يصلح أن يتحدث فيها إلا من هو مؤهل لها، وممن له الصلاحية في ذلك، ثم تجد أفراد الناس وعامتهم ودهماءهم يتداولون هذه الأمور الكبار، فتدخل الحزن أو تدخل الإرجاف، أو تدخل الأقاويل أو الإشاعات، أو تُسبب أنواعًا من المشكلات بين الناس، مما قد يكون فيه ضررٌ واضح بالأفراد والأشخاص، أو بالمجموعات أو بالمجتمع كله، ثم يقول بعد ذلك: كما بلغني أو كما وصلني، لا، أنت مسؤول عما تكتب وعما تنقل، وعما تخبر، وخاصة إذا كان من الأمور العظام التي نهى الله جل وعلا عن تناقلها إلا بردها إلى أهل الاختصاص، وهو ما دل عليه قول ربنا جل وعلا: ﴿ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ ﴾()، إذا جاءهم هذا الأمر، لكن لو أنهم فعلوا الأمر الأرشد الذي أمر الله به، وهو أن يردوه إلى الرسول، وذلك في حياته، وهذا كان سببُ نزول هذه الآية، لَما بلغهم ما بلغهم من خبر، كان الأرشد بهم- بأولئك الذين تناقلوا ما تناقلوا- أن يردوه إلى الرسول، وذلك إبَّان حياته الشريفة عليه الصلاة والسلام، أو إلى أُولي الأمر منهم، إلى الصحابة رضي الله عنهم، أو إلى أهل السلطان وأهل المسؤولية، فإن هذا هو الأرشد: ﴿ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ﴾()، ما الذي يكون؟ ﴿ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ﴾()، سيدرك أهل الاختصاص وأهل العلم والخبرة الذين عندهم القدرة على الاستنباط والفهم، وتمييز الأقاويل والأحاديث، يعلمون حينئذٍ هل هذا حق أو كذب؟ ثم لو كان حقًّا، يعلمون ما الذي ينبغي أن يعمل، وما الذي يجب أن يتصرف فيه.

فهذه الآية ميزانٌ حميدٌ عظيمٌ كريم، والحديث المتقدم أيضًا في هذا السياق، وبذلك تنضبط الأقاويل والأحاديث، وما يكتب وما يتناقل، دون أن يكون الإنسان مجرد ممرر لما يرده، مع ظهور خطئه أو أنه مما لا يَعنيه.

المطلب الأول

فقه الأولويات والموازنات

الأولويات والموازنات :

الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكمليها وتعطيل المفاسد وتقليلها، وترجيح خير الخيرين، ودفع شر الشرين، وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما.

والدليل على ذلك بأن الله تعالى قيد الأمور بالقدرة والاستطاعة والوسع والطاقة: فقال تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾() وقال جل شأنه: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾()

والتعارض إما بين حسنتين لا يمكن الجمع بينهما فيقدم أحسنهما بتفويت المرجوح.

وإما بين سيئتين لا يمكن الخلو منهما فيدفع أسوأهما باحتمال أدناهما.

وإما بين حسنة وسيئة لا يمكن التفريق بينهما، بل فعل الحسنة مستلزم لوقوع السيئة، وترك السيئة مستلزم لترك الحسنة، فيرجح الأرجح من منفعة الحسنة ومضرة السيئة.

فالأول: كالواجب والمستحب. وكفرض العين وفرض الكفاية. مثل تقديم قضاء الدين المطالب به على صدقة التطوع.

والثاني: كتقديم نفقة الأهل على نفقة الجهاد والذي لم يتعين وتقديم نفقة الوالدين عليه كما في الحديث الصحيح: عن الرسول صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على مواقيتها، قلت ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي ؟ قال: الجهاد في سبيل الله.

وتقديم الجهاد على الحج كما في الكتاب والسنة متعين على متعين ومستحب على مستحب وتقديم قراءة القرآن على الذكر، إذا استويا في عمل القلب واللسان وتقديم الصلاة عليهما إذا شاركتهما في عمل القلب وإلا فقد يترجح الذكر بالفهم والوجل على القراءة التي لا تجاوز الحناجر وهذا باب واسع.وأما سقوط الواجب لمضرة في الدنيا، وإباحة المحرم لحاجة في الدنيا فذلك كسقوط الصيام لأجل السفر، وأركان الصلاة لأجل المرض.

إن جلب مصلحة ما لا يصح بسببه الإضرار بالغير. فكيف تلزم المرأة زوجها بالاقتراض، وتتبع لتصل إلى ذلك شتى الأساليب... وهذا لشراء زينة تلبسها أو ثوب تلبسه في مناسبة ما! إن المصالح إذا تعارضت فوتت المصلحة الدنيا في سبيل المصلحة العليا.

وضحي بالمصلحة الخاصة من أجل المصلحة العامة. ويعوض صاحب المصلحة الخاصة عما ضاع من مصالحه أو ما نزل من ضرر. وألغيت المصلحة الطارئة لتحصيل المصلحة الدائمة أو الطويلة المدى.

وأهملت المصلحة الشكلية لتحقيق المصلحة الجوهرية.

وغلبت المصلحة المتيقنة على المظنونة أو الموهومة. وإذا تعارضت المفاسد والمضار ولم يكن بد من بعضها فمن المقرر أن يرتكب أخف المفسدتين و أهون الضررين.

وهكذا قرر الفقهاء أن الضرر يزال بقدر الإمكان. وأن الضرر لا يُزال مثله أو أكبر منه. وأنه يتحمل الضرر الأدنى لرفع الضرر الأعلى، ويتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام...

وإذا تعارضت المفاسد والمصالح أو المنافع والمضار، فالمقرر أن ينظر إلى حجم كل من المصلحة والمفسدة وأثرها ومداها. فتغتفر المفسدة اليسيرة لجلب المصلحة الكبيرة. وتغتفر المفسدة المؤقتة لجلب المصلحة الدائمة أو الطويلة المدى.وتقبل المفسدة وإن كبرت إذا كانت إزالتها تؤدي إلى ما هو أكبر منها. وفي الحالات العادية يقدم درء المفسدة على جلب لمصلحة.وليس المهم أن نسلم بهذا الفقه نظريًا بل المهم كل المهم أن نمارسه عمليًا). فماذا عمن اهتمت بالسواك والمبالغة فيه وأهملت الموالاة في الوضوء أو إسباغ غسل أعضاء الوضوء.

وماذا عن امرأة اهتمت بزينتها للزوج، وأهملت الغسل من الجنابة مثلًا حتى فات وقت الصلاة.

• وأيهما أولى للمرأة الاجتهاد في النوافل، أم متابعة أبنائها وتوجيههم؟

رتبت أولوياتها: إن واجبها نحو أبنائها لا يمكن لأحد القيام به غيرها. وكذلك صلة الرحم وواجباتها الأسرية.

استعانت بأحد محارمها وطلبت مشورته: فلا بد أن تخفف عنها بعض الأعباء مما يخفف عنها الضغوط وبالتالي تحل مشاكلها مع زوجها...

فكان أن تركت التعليم، فتجاوزت المحنة بسلام وعاشت حياة مستقرة وشأنها هذا كما قال الشاعر:

إن اللبيب إذا بدا من جسمه           مرضان مختلفان داوى الأخطرا

ثم إن الوسائل إذا تعددت وكانت مشروعة كلها، فالأصلح منها قد تدخله النسبة الاعتبارية، بمعنى أن الأصلح والأفضل قد يختلف اختلاف الزمان والمكان والأشخاص.

فرب وسيلة تكون أفضل في وقت دون وقت. ورب وسيلة تكون أفضل في مكان دون مكان. ورب وسيلة تكون أفضل بالنسبة لشخص دون شخص آخر. والضابط في ذلك هو ملاحظة المصالح والنظر في مآلات الأفعال).

(فلقد أباح الرسول صلى الله عليه وسلم للنساء الخروج إلى المساجد للصلاة كما أبو داود بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، ولكن ليخرجن وهن تفلات.()

هذا ما كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم حدث بعد ذلك أن تغيرت حالة النساء وأحدثن ما لم يكن في عصره النبوة. حتى قالت عائشة رضي الله عنها ما رواه أبو داوود: لو أدرك رسول الله ما أحدث النساء لمنعهن المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل.

فماذا عن امرأة تجد متعتها في الأسواق وتذهب جل وقتها فيها بحجة متابعة الجديد؟! وهي أبغض الأماكن إلى الله تعالى كما ذكر عليه أفضل الصلاة والسلام:

((أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها)).

وليس ما نقصده التبذل وعدم الاهتمام بالمظهر أمام النسوة المؤمنات حتى يقال: إن المتدينات عديمات الترتيب والأناقة أو نحو ذلك...

إننا نشدد النكير على ذوات الفهم الناقص بالتنسك والتزهد وإهمال النفس. فالنظافة والمظهر اللائق للمرأة ليست هامشية، والله تعالى يحب أن يرى على عبده أثر نعمته... ولكن الاعتدال مطلوب.

فلنجعل شعارنا: أعط كل ذي حق حقه. نعطيه بالتوازن المشروع بين حقوق الروح والنفس والعقل. ولا يراعى حكم تحسيني إذا أخل بحكم ضروري أو حاجي ...

فمن الأولويات عدم تضخيم الأمور أو تقزيمها، بل إعطاء كل أمر حقه وحجمه: قال الإمام العز بن عبد السلام: لا يخفى على عاقل قبل ورود الشرع أن تحصيل المصالح المحضة ودرء المفاسد المحضة عن نفس الإنسان وعن غيره محمود حسن. وأن تقديم أرجح المصالح فأرجحها محمود حسن. وأن درء أفسد المفاسد فأفسدها محمود حسن. واتفق الحكماء على ذلك ... إلى أن قال: ((واعلم أن تقديم الأصلح فالأصلح. ودرء الأفسد فالأفسد مركوز في طبائع العباد. ولا يقدم الصالح على الأصلح إلا جاهل بفضل الأصلح، أو شقي متجاهل لا ينظر إلى ما بيت المرتبتين من التفاوت).

وقد بين ابن حجر رحمه الله:

جواز النهي عن المستحبات إذا خشي أن يفضي ذلك إلى السآمة والملل وتفويت الحقوق المطلوبة الواجبة أو المندوبة الراجح فعلها على الفعل المستحب المذكور.

فقه الأولويات والموازنات :

فقه الأولويات وفقه الموازنات يقتضي منا تقديم الضروريات على الحاجيات عند التعارض وصعوبة التوفيق بينهما، ومن باب أولى على التحسينات، وتقديم الحاجيات على التحسينيات والمكملات.

كما أن الضروريات في نفسها متفاوتة، فهي كما ذكر العلماء خمس: "الدِّين، والنفس، والنسل، والعقل، والمال". وبعضهم أضاف إليها سادسة، وهي: "العِرض". فالدين هو أولها وأهمها وهو مُقدم على كل الضروريات الأخرى حتى النفس، كما أن النفس مقدمة على ما عداها.

وفي الموازنة بين المصالح:

• تُقدم المصلحة المتيقنة على المصلحة المظنونة أو الموهومة.

• وتُقدم المصلحة الكبيرة على المصلحة الصغيرة.

• وتُقدم مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد.

• وتُقدم مصلحة الكثرة على مصلحة القِلَّة.

• وتُقدم المصلحة الدائمة على المصلحة العارضة أو المنقطعة.

• وتُقدم المصلحة الجوهرية والأساسية على المصلحة الشكلية والهامشية.

• وتُقدم المصلحة المستقبلية القوية على المصلحة الآنية الضعيفة.

ومن ذلك ما وقع في صلح الحديبية - مثلًا - حيث غلَّب الرسول صلى الله عليه وسلم المصالح الجوهرية والأساسية والمستقبلية على المصالح الشكلية والآنية التي يتشبث بها بعض الناس، فقبل من الشروط ما قد يُظن - لأول وهلة - أن فيه إجحافًا بالجماعة المسلمة أو رضًا بالدُّون، ورضي صلى الله عليه وسلم أن تحذف البسملة المعهودة من وثيقة الصلح، ويكتب بدلها: "باسمك اللهم"، وأن يحذف وصف الرسالة الملاصق لاسمه الكريم: "محمد رسول الله"، ويُكتفى باسم محمد بن عبد الله، وذلك ليكسب من وراء تلك الهدنة زمنًا يتفرغ فيه لنشر الدعوة ومخاطبة ملوك العالم في وقته، لهذا جاء الوصف القرآني الجميل ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ﴾().

عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صالح قريشًا يوم الحديبية قال لعلي رضي الله عنه: "اكتب بسم الله الرحمن الرحيم" فقال سهيل بن عمرو: لا نعرف الرحمن الرحيم اكتب باسمك اللهم فقال صلى الله عليه وسلم لعلي: "اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم" فقال سُهيل بن عمرو: لو نعلم أنك رسول الله لاتبعناك ولم نكذبك اكتب بنسك من أبيك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: "اكتب محمد بن عبد الله"، فكتب: "من أتى منكم رددناه عليكم ومن أتى منا تركناه عليكم"، فقالوا: يا رسول الله نعطيهم هذا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أتاهم منا، فأبعده الله، ومن أتانا منهم، فرددناه، جعل الله له فرجًا ومخرجًا".()

وعن عكرمة رضي الله عنه أنه لما جاء سهيلٌ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "سهل من أمركم"، قال الزهري في حديثه: فجاء سهيل بن عمرو، فقال: هات اكتب بيننا وبينكم كتابًا. فدعا الكاتب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اكتب بسم الله الرحمن الرحيم"، فقال سهيلٌ: أما الرحمن، فو الله ما أدري ما هو، ولكن اكتب: باسمك اللهم كما كنت تكتب. فقال المسلمون: والله ما نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اكتب: باسمك الله"، ثم قال: "هذا ما قاضى عليك محمد رسول الله" فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "والله إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب: محمد بن عبد الله"، قال الزهري: وذلك لقوله: "لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "على أن تُخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به" فقال سهيل: والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة، ولكن لك من العام المقبل. فكتب، فقال سهيلٌ: على أنه لا يأتيك منا رجلٌ، وإن كان على دينك، إلا رددته إلينا. فقال المسلمون: سبحان الله، كيف يُرد إلى المشركين وقد جاء مسلمًا؟ فبينا هم كذلك، إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف، وقال يحيى عن ابن المبارك: يرصف في قيوده، وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين. فقال سهيل: هذا يا محمد، أول ما أقاضيك عليك أن ترده إليَّ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنا لم نقض الكتاب بعد"، قال: فو الله إذًا لا نصالحك على شيء أبدًا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فأجزه لي" قال: ما أنا بمُجيزه لك. قال: "بلى، فافعل" قال: ما أنا بفاعل. قال مكرزٌ: بلى، قد أجزناه لك. فقال أبو جندل: أي معاشر المسلمين، أرد إلى المشركين وقد جئت مسلمًا، ألا ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عُذب عذابًا شديدًا في الله، فقال عمر رضي الله عنه: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: ألست نبي الله؟ قال: "بلى" قُلت: ألسنا على الحق؟ وعدونا على الباطل؟ قال: "بلى"، قال: قُلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذًا؟ قال: "إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري". قلت: أو لست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: "بلى قال: أفأخبرتك أنك تأتيه العام؟" قُلت: لا. قال: "فإنك آتيه، ومتطوفٌ به"، قال: فأتيت أبا بكر رضي الله عنه، فقلت: يا أبا بكر، أليس هذا نبي الله حقًا؟ قال: بلى. قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى. قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذًا؟ قال: أيها الرجل، إنه رسول الله، ولن يعصي ربه عز وجل، وهو ناصره، فاستمسك بغرزه، وقال يحيى بن سعيد: تطوف بغرزه حتى تموت، فو الله إنه لعلى الحق. قلت: أو ليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى. قال: أفأخبرك أنه يأتيه العام؟ قلت: لا. قال: فإنك آتيه، ومتطوفٌ به.

قال الزهري: قال عمر: فعملت لذلك أعمالًا. قال: فلما فرغ من قضية الكتاب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "قوموا، فانحروا، ثم احلقوا"، قال: فو الله ما قام منهم رجلٌ، حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحدٌ، قام، فدخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة: يا رسول الله، أتُحب ذلك؟ اخرج، ثم لا تُكلم أحدًا منهم كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك. فقام، فخرج، فلم يُكلم أحدًا منهم حتى فعل ذلك، نحر هديه، ودعا حالقه. فلما رأوا ذلك قاموا، فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضًا حتى كاد بعضهم يقتل بعضًا غمًا.

الموازنات بين المفاسد أو المضارِّ بعضها ببعض:

فالمفاسد أو المضارُّ متفاوتة في أحجامها وفي آثارها وأخطارها، وقد وضع الفقهاء جملة قواعد ضابطة لذلك، منها: "لا ضرر ولا ضرار"، "الضر يزال بقدر الإمكان" "الضرر لا يزال بضرر مثله أو أكبر منه"، "يُرتكب أخفُّ الضررين وأهون الشرين"، "يتحمل الضرر الأدنى لدفع الضرر الأعلى"، "يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام".

عن ثعلبة بن أبي مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ضرر ولا ضرار"، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في مشارب النخل بالسيل الأعلى على الأسفل حتى يشرب الأعلى، ويروي الماء إلى الكعبين، ثم يسرح الماء إلى الأسفل وكذلك حتى تنقضي الحوائط أو يفنى الماء.

الموازنات بين المصالح والمفاسد عند التعارض:

فإذا اجتمع في أمر من الأمور مصلحة ومفسدة، أو مضرة ومنفعة، فلا بد من الأولويات بينهما، والعبرة للأغلب والأكثر، فإن للأكثر حكم الكل. فإذا كانت المفسدة أكثر وأغلب على الأمر من المنفعة أو المصلحة التي فيه؛ وجب منعه لغلبة مفسدته، ولم تُعتبر المنفعة القليلة الموجودة فيه، وهذا ما ذكره القرآن في قضية الخمر والميسر في إجابته عن السائلين عنهما، قال تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾().

وبالعكس: إذا كانت المنفعة هي الأكبر والأغلب، فيُجاز الأمر ويشرع، وتهدر المفسدة القليلة الموجودة به، ومن القواعد المهمة هنا أن درء المفسدة مقدَّم على جلب المصلحة.

ويكمل هذه قاعدة أخرى، وهي: أن المفسدة الصغيرة تُغتفر من أجل المصلحة الكبيرة، وتُغتفر المفسدة العارضة من أجل المصلحة الدائمة، ولا تُترك مصلحة محققة من أجل مفسدة متوهمة.

فقه الأولويات والثوابت:

الأولويات: وضع كل شيء في مرتبته، فلا يؤخر ما حقه التقديم أو يقدم ما حقه التأخير، ولا يصغر الأمر الكبير، ولا يكبر الأمر الصغير، وهذا ما تقتضي به قوانين الكون، وما تأمر به أحكام الشرع.

إنها تعني الأمور الهامة والضرورية التي قد لا تكون عاجلة، بل تم التخطيط بهدوء وروية لإنجازها حسب أهداف وبرنامج واضح.

وفي القرآن الكريم والسنة الشريفة نجد الألفاظ التي تشير إلى الأفضلية والخيرية والأحسن والأكمل.

التمسك بالثوابت من الأولويات:

عند تحديد الأولويات، يجب أن ننظر في الحادثة فنعطي لها حجمها المناسب، ونجعل من الشرع الميزان الدقيق لها.

(فأصل الدين أن الحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله. والدين ما شرعه الله ورسوله. ليس لأحد أن يخرج عن الصراط المستقيم الذي بعث الله به رسوله. قال الله تعالى: ((وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون)).

      وفي حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه خط خطًا وخط خطوطًا عن يمينه وشماله. ثم قال: هذه سبيل الله. وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ:﴿ وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ﴾.

فعلينا أن نتمسك بالفرائض، ونبتعد عن المحرمات. فالثوابت لا مجال للخيار فيها. وعند كل أمر ننظر إليه من جميع الزوايا، ونبذل الجهد للالتزام بالضوابط الشرعية، وذلك بالاعتماد على المصادر الأصلية، بالاتباع لا الابتداع: فإن تقرير أحكام الشرع والكلام في الدين لا يكون إلا بأصل شرعي أو بالبناء عليه. وقد نقل الإمام الشافعي، رحمه الله، الإجماع على أنه ليس لأحد كائنًا من كان أن يقول إلا بعلم....

وهذا أمر لا ينبغي لعاقل يحذر على دينه أن يستريب فيه. وإلا هلك مع الهالكين. وهل ضلت الفرق وأضلت إلا بعد أن تركت هذا الأصل).

ثم إن شقاء الناس في هذه الدنيا، والعذاب الذي ينتظر أكثرهم في الآخرة مصدره اتباع الأهواء الضالة: والخير والسعادة فيها لا يحصلان إلا باتباع الشريعة وقهر الهوى الجامح).

وفي مجال القدوة: كان من كبار الصحابة رضوان الله عليهم من يترك المندوب مخافة أن يعتقد الناس أنه واجب.وهذا منهم محافظة على ثبات الحكم الشرعي. لأن ما كان مستحبًا ينبغي أن يكون كذلك. ومن اعتقد أنه واجب يبين له بالقول وبالفعل أنه غير واجب. وترك بعض الصحابة له بيان بالعمل على أنه ليس بواجب. وهذا البيان، وهو المحافظة على ثبات الحكم، آكد فهو إذن مقدم على فعل المستحب.ونضرب لذلك مثالًا يثبت ما نقصد إليه، ونكتفي ببيان موقفهم من الأضحية وهي مستحبة عند أكثر أهل العلم. وقد كان أبو بكر وعمر وأبو مسعود الأنصاري لا يضحون لكي لا يظن الناس أن الأضحية واجبة وحتم عليهم.

روى أبو سريحة الغفاري قال: ما أدركت أبا بكر أو رأيت أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كان لا يضحيان في بعض حديثهم كراهية أن يقتدى بهما).

وعن أبي مسعود الأنصاري قال: (إني لأدع الأضحى وإني لموسر مخافة أن يرى جيراني أنه حتم عليّ).

(ولنذكر أن الأولويات نوعان: نوع ثابت وهو متعلق بالعبادة ويشترك فيه جميع المسلمين على اختلاف قدراتهم وظروفهم وإمكاناتهم.ونوع متغير وهو ما يتعلق بالعمل والظروف الاجتماعية والشخصية. فالنوع الأول معاييره العالية واضحة، والجميع في مضمار سباق لتحقيق أكبر قدر من النقاط. أما النوع الثاني فمعاييره متغيرة وتخضع لتقدير الفرد الشخصي).

وعليه، تكون المسلمة واعية ناضجة وعلى بصيرة من أمرها. ذات شخصية متميزة، لا تقلد غيرها، بعيدة عن أمراض التبعية، فقد جاء فيما أخرجه الترمذي وحسنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا تكونوا إمعة تقولون: إن أحسن الناس أحسنّا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، إن أساؤوا فلا تظلموا).

والإمعة هو المقلد الذي يتبع كل ناعق تابعًا لدين غيره.

فماذا عمن تغالي في الملابس، ليشغلها الترف عن جليل الأمور، وليصبح عدونا هو المستفيد الوحيد، حيث يبتز مالنا وثرواتنا، ويشغل وقتنا وفكرنا بالتوافه...

فلنحاسب أنفسنا قبل أن يستفحل الأمر وبتسع الخرق على الراقع ونكون كما قال الشاعر:

نرقع دنيانا بتمزيق ديننا            فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع

ثم إنه:

(من لبس ثوب شهرة ألبسه الله يوم القيامة ثوبًا مثله، ثم يلهب فيه النار).

فقه الأولويات والمآلات:

تتساند مختلف أنواع الفقه في منهج التفكير الإسلامي ما بين فقه النصوص وفقه الواقع، وما بين فقه الأولويات وفقه الموازنات، وما بين فقه المقاصد وفقه المآلات؛ ومكونات هذه المنظومة المنهجية كلها من أنواع الفقه تساعد في إدراك فقه السنن الشرعية والكونية وفقه الواسع والممكن؛ كما تساعد في إدراك سنن الله في الآفاق وفي الأنفس وفقه السير في الأرض؛ سعيًّا وكسبًا؛ عملاً واجتهادًا.

إن اعتبار مآلات الأحكام هو أمر عظيم الشأن جليل القدر، إذ لولاه لأمكن أن تُؤدي الفتاوى والآراء الاجتهادية إلى عكس مقصود الشارع من النصوص المستخدمة في استثمار تلك الأحكام.

واعتبار مآلات الأحكام أمر تضافرت عليه النصوص الشرعية وتكاتفت على بناءه وتأصيله النظرية العامة للشريعة؛ وأمر أخذ من استقراء عامة النصوص ومفهوماتها، حيث لا بد أن يتحقق قصد الشارع من شرعه ومراد الله في خلقه؛ فكما يقول الإمام الشاطبي رحمه الله: "أن الأفعال ليست مقصودة لذاتها وإنما المقصود منها تحقيق مراداتها".

تعريف فقه المآلات

يشير فقه المآلات إلى ذلك النوع من الفقه الذي يؤكد على أهمية إدراك الفقيه والمجتهد لنتائج الحكم وعواقبه وثمار العمل وآثاره. فالأحكام الشرعية ليست أحكامًا مجردة منبته الصلة عن واقعها؛ بل إن الحكم الشرعي لا يكون حكمًا شرعيًّا حتى يحقق العالم المجتهد مناطه، وهو إنزال ذلك النص الشرعي على واقع معين؛ كما أن اختلاف الأحكام بحسب الزمان والمكان وحال المستفتي معروف في الشرع.

كما أنه لا يكفي معرفة الحكم الشرعي واستخراجه (تنقيح المناط)، بل لا بد من استحضار مآلات هذا الحكم في الواقع وهل يحقق مقصود الشارع من تنزيله أم يترتب عليه عكس مقصوده (تحقيق المناط)" ولقد أكد على هذا النوع من العلم الأصوليون والمحققون والراسخون في العلم من أئمتنا.

والمقصود باعتبار المآلات هو أن المجتهد حين يجتهد ويحكم ويفتي عليه أن يقدر مآلات الأحكام والأفعال التي هي محل حكمه وإفتائه، وأن يقدر عواقب حكمه وفتواه وألا يعتبر أن مهمته تنحصر في "إعطاء حكم شرعي" بل مهمته أن يحكم في الفعل وهو يستحضر مآله أو مآلاته؛ وأن يصدر الحكم وهو ناظر إلى أثره أو آثاره فإذا لم يفعل فهو إما قاصر عن درجة الاجتهاد أو مقصّر فيها؛ كما يقول: د. أحمد الريسوني، في كتابه "نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي".

أما الإمام الشاطبي فيؤصل لهذا الفقه في كتابه العظيم "الموافقات في أصول الشريعة" فيقول: "النظر في مآلات الأفعال مقصود شرعًا؛ وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، فقد يكون مشروعًا لمصلحة فيه تستجلب؛ أو لمفسدة فيه تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها فيكون هذا مانعا من إطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية فربما أدى استدفاع المفسدة بمفسدة تساوي أو تزيد فلا يصلح إطلاق القول بعدم المشروعية، وهو مجال للمجتهد صعب المورد إلا أنه عذب المذاق محمود العاقبة جار على مقاصد الشريعة".

ولقد تضافرت آيات القرآن الكريم ونصوص السنة الشريفة على تأسيس هذا العلم "فقه المآلات" فيقول الله عز وجل:{وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي: لا تسبُّوا الأصنام التي يعبدونها من دون الله فيترتب على ذلك يسبُّوا الله عز وجل، أي لا نسب الأصنام حتى لا نتسبب في سب الذات الإلهية. ويفسرها ابن العربي بقوله: "اتفق العلماء على أن معنى الآية: "لا تسبوا آلهة الكفار؛ فيسبوا الله سبحانه وتعالى، وهذا نهي عن سب آلهة المشركين ولو كان ذلك السب على سبيل الغيظ منها والإهانة لها والحميّة لله عز وجل ولأنه في نفس الوقت يؤدي إلى سب الكفار لله عز وجل ولذلك ورد النهي عنه".

وكذلك آيات سورة الكهف وقصة سيدنا موسى مع العبد الصالح، حيث أن أفعال العبد الصالح كلها عللت بغايات مآلية: خرق السفينة {قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إمْراً} فعلل: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي البَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وكَانَ ورَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} وكذلك المنهج في مسألة قتل الغلام وعملية بناء الجدار.

وفي السنة النبوية تطبيقات هادية في هذا الباب:

فقد امتنع النبي عن قتل المنافقين مع علمه بهم ومع علمه باستحقاقهم القتل وقال: "مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَتَحَدَّثَ الناس أني أَقْتُلُ أصحابي" كما روى أحمد في مسنده.

وتخلي النبي عن إعادة بناء المسجد الحرام على قواعد إبراهيم حتى لا يثير بلبلة بين العرب، وكثير منهم حديثو عهد بالإسلام وقال مخاطبًا عائشة رضي الله عنها: " أَلَمْ تري أن قَوْمَكِ حين بَنَوُا الْكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عن قَوَاعِدِ إبراهيم قالت فقلت يا رَسُولَ الله أَفَلاَ تَرُدُّهَا على قَوَاعِدِ إبراهيم فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم لَوْلاَ حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَفَعَلْتُ" كما رواه مالك في الموطأ؛ وفي رواية أخرى: " لَوْلَا حَدَاثَةُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَنَقَضْتُ الْبَيْتَ ثُمَّ لَبَنَيْتُهُ على أَسَاسِ إبراهيم"؛ والحديث متفق عليه.()

والشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ترك ذلك الفعل مع ما فيه من المصلحة الظاهرة خشية أن يؤول الأمر إلى ما فيه مفسدة؛ ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح كما هو مقرر عند أهل العلم.

أما الأسس الثلاثة لفقه المآلات فهي:

1- استقراء الجزئيّات لصياغة الكليات.

2- فقه سنن القرآن في الأنفس والمجتمعات والحضارات قياما وسقوطًا.

3- الاعتماد على آليات النظر الاستراتيجي المعتمد في الدراسات الإستراتيجية والمستقبلية المعاصرة.

أما الأساس الأول: فهو يعتمد على قراءة متأنّية وعميقة للأحداث التي شكلت المواقف السياسية والأنماط الاجتماعية والثقافيّة للمجتمع الذي نعيش فيه.

أما الأساس الثاني من أسس فقه المآلات فهو فقه السنن الكونية والحضارية التي تضمنها القرآن وهو يفسر لنا قيام وسقوط الأمم والحضارات. حيث زخر القرآن الكريم بجملة من سنن قيام وسقوط الحضارات كثيراً ما نغفل عنها.

أما الأساس الثالث، فهي دعوة للاستفادة من آليات الدراسات الإستراتيجية والمستقبلية التي تستخدمها اليوم الدول والمراكز الخاصة بذلك. فإن معظم الدوائر السياسية والاقتصادية تعتمد على مؤشرات تبنى عليها خططها التنموية، وترسم على ضوئها سياستها المالية تساعدها على تحقيق التنمية المستدامة وضمان الاستقرار العام؛ وهذه الأسس الثلاثة أفرد لها الدكتور يونس صوالحي، بحثا قيما بعنوان: "الشباب الإسلامي المعاصر، وضرورة الاجتهاد الدعوي" فليراجَع.

تطبيقات معاصرة لفقه المآلات

وفي واقعنا المعاصر تتعدد تطبيقات فقه المآلات وهي كلها تصب في عافية الأمة الإسلامية وإنارة سبيل الرشد لها؛ فجوهر فقه مآلات الأفعال هو تتداخل فقه الموازنات وفقه الأولويات وفقه الحال، وبذلك تكون وظيفة فقه المآلات هي: النظر في عواقب كل فعل أو قول ليكون المباح منها مفضيا إلى يسر الناس في حياتهم، وليكون الحرام مفضيا إلى نبذ الشر والضر عن الناس؛ وليكون الواجب مفضيا إلى جلب المصلحة لهم حتى لو شاب تلك المصلحة عنت محتمل في العادة فإذا ما أدى الواجب إلى شدة عنت لا تحتمل في العادة تنزلت الضرورات ثم الحاجات لتفعل فعلها تيسيرا على الناس وإذا ما أدى الحرام إلى شيء من ذلك كان مثل ذلك.

وتتعدد الأمثلة التطبيقية على ذلك سواء في تاريخنا الإسلامي أو في واقعنا المعاصر، فالإمام ابن تيمية منع تلاميذ من نهي التتار عن شرب الخمر لأن الخمر ما حرمت إلا لأنها تصد عن الصلاة وعن ذكر الله أما هؤلاء فإن الخمر تصدهم عن إيذاء المسلمين، وكان رحمه الله كثيرا ما يردد: ليس لأحد أن يزيلَ المنكر بما هو أنكر منه.

وربما كانت أقل فتاوى الأمة هي التي يراعي فيها المفتون مآلات أحكامهم وذلك مثل كثير من فتاوى الأقليات الإسلامية في بلاد الغرب، فالشريعة كما يؤكد دائمًا شيخ الإسلام ابن تيمية ترمي إلى "تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما".

كما أن باب فقه الدعوة إلى الله هو من أوسع الأبواب التي يتجلى فيها فقه مآلات الأحكام والأفعال، حيث يكون مراد الشارع من شرعه هو: تحقيق مصالح خلقه في المعاش والمعاد والعاجل والآجل.

كما أن فقه مآلات الأحكام والأفعال يقوم على كثير من أصول علم استشراف المستقبل والقدرة على التحليل ودراسة النتائج بناء على المعطيات الميدانية ولعل ذلك ما يجنب الفتاوى الشرعية آثار الارتجالية وردات الفعل، حيث تكون الأحكام والأعمال قائمة على الدراسة والتمحيص.

فقه الأولويات في مجال العلم والفكر:

أولوية العلم على العمل:

من أهم الأولويات المعتبرة شرعا: أولوية تقديم العلم على العمل. فالعلم يسبق العمل، وهو دليله ومرشده. وفي حديث معاذ: "العلم إمام، والعمل تابعه".

ولهذا وضع الإمام البخاري بابا في كتاب العلم من جامعه الصحيح جعل عنوانه: "باب: العلم قبل القول والعمل"، وقال شراحه: أراد به أن العلم شرط في صحة القول والعمل، فلا يعتبران إلا به، فهو متقدم عليهما، مصحح للنية، المصححة للعمل. قالوا: فنبه البخاري على ذلك، حتى لا يسبق إلى الذهن ـ من قولهم: بأن العلم لا ينفع إلا بالعمل ـ تهوين أمر العلم، والتساهل في طلبه.

واحتج البخاري لما ذكره ببعض الآيات والأحاديث الدالة على دعواه.

فمن الآيات قوله تعالى: (فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات). فأمر رسوله بالعلم بالتوحيد أولا، ثم ثنى بالاستغفار، وهو عمل. والخطاب وإن كان للنبي صلى الله عليه وسلم، فهو متناول لأمته.

ومنها قوله تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء)، فالعلم هو الذي يورث الخشية، الدافعة إلى العمل.

ومن الأحاديث: قوله صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين"، لأنه إذا فقه عمل، وأحسن ما عمل.

مما يستأنس به لتقديم العلم على العمل: أن أول ما نزل من القرآن: (اقرأ)، والقراءة مفتاح العلم، ثم نزل العمل في مثل: (يا أيها المدثر، قم فأنذر، وربك فكبر، وثيابك فطهر).

وإنما كان العلم مقدما على العمل، لأنه هو الذي يميز الحق من الباطل في الاعتقادات، والصواب من الخطأ في المقولات، والمسنون من المبتدع في العبادات، والصحيح من الفاسد في المعاملات، والحلال من الحرام في التصرفات، والفضيلة من الرذيلة في الأخلاق، والمقبول والمردود في المعايير، والراجح والمرجوح في الأقوال والأعمال.

ولهذا وجدنا كثيرا من المصنفين من علمائنا السابقين يبدأون مصنفاتهم بـ "كتاب العلم".

مثل ما صنع الإمام الغزالي في كتابيه: "إحياء علوم الدين"، و"منهاج العابدين". وكذلك فعل الحافظ المنذري في كتابه "الترغيب والترهيب"، فبعد ذكر أحاديث في النية والإخلاص واتباع الكتاب والسنة ـ بدأ بكتاب "العلم".

وفقه الأولويات الذي نتحدث عنه مبناه ومداره على العلم، فبه نعرف ما حقه أن يقدم، وما شأنه أن يؤخر، وبدون هذا العلم نخبط خبط عشواء.

وما أصدق ما قاله الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز: من عمل في غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح.

وهذا واضح في بعض الفئات من المسلمين، الذين لم تكن تنقصهم التقوى أو الإخلاص والحماس، وإنما كان ينقصهم العلم والفهم بمقاصد الشرع، وحقائق الدين.

وهذا ما وصف به الخوارج الذين قاتلوا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، على فضله ومكانته في نصرة الإسلام، وقربه من رسول الله نسبا وصهرا وحبا، واستحلوا دمه ودماء من سواهم من المسلمين، يتقربون بذلك إلى الله!!

وهؤلاء امتداد لمن اعترض على قسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الأموال، فقال له بجلافة وجهالة: اعدل! فقال: "ويلك! ومن يعدل إذا لم أعدل؟ قد خبت إذن وخسرت إن لم أكن أعدل"!

وفي رواية: أن هذا الجلف الجافي قال له: يا رسول الله، اتق الله! قال: "أو لست أحق أهل الأرض أن يتقي الله"؟!

لم يفقه هذا ومثله سياسة تأليف القلوب، وما تجلبه من مصالح عظيمة للأمة، وقد شرعها الله في كتابه، وأجاز الصرف فيها من الصدقات، فكيف من الغنائم والفيء؟

ولما سأل بعض الصحابة قتل هذا المتطاول منعه الرسول الكريم. وحذر من ظهور طائفة على شاكلته وصفهم بقوله: "تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وعملكم مع عملهم، يقرأون القرآن ولا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية".

ومعنى: "لا يجاوز حناجرهم": أي لا تفقهه قلوبهم، ولا تستضئ به عقولهم، ولا ينتفعون بما تلوا منه، رغم كثرة الصلاة والصيام.

ومما وصفهم به كذلك: أنهم "يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان".

فآفة هؤلاء ليست في ضمائرهم ولا نياتهم، بل في عقولهم وأفهامهم، ولهذا وصفوا في حديث آخر بأنهم: "حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام".

وإنما أتى هؤلاء من قلة العلم، ونقص الفقه، فلم ينتفعوا بكتاب الله، مع أنه يتلونه رطبا، لكنها تلاوة بلا فقه، وربما فقهوه فقها أعوج، يناقض ما أراد به منزله تبارك وتعالى.

ولهذا حذر الإمام الجليل الحسن البصري من الإيغال في التعبد والعمل، قبل التحصن بالعلم والتفقه، وقال في ذلك كلمته البليغة المعبرة: "العامل على غير علم كالسالك على غير طريق، والعامل على غير علم يفسد أكثر مما يصلح، فاطلبوا العلم طلبا لا يضر بالعبادة، واطلبوا العبادة طلبا لا يضر بالعلم، فإن قوما طلبوا العبادة وتركوا العلم، حتى خرجوا بأسيافهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولو طلبوا العلم لم يدلهم على ما فعلوا".

العلم شرط في كل عمل قيادي (سياسي أو عسكري أو قضائي)

ومن هنا كان العلم شرطا في كل عمل قيادي، سواء أكان عملا سياسيا إداريا، مثل عمل يوسف عليه السلام الذي قال له ملك مصر: (إنك اليوم لدينا مكين، قال اجعلني على خزائن الأرض، إني حفيظ عليم)، فأشار إلى مؤهلاته الخاصة التي ترشحه لهذا العمل الكبير الذي كان يشمل المالية والاقتصاد والتخطيط والزراعة والتموين في ذلك الحين. وقوام هذه المؤهلات أمران: الحفظ (وهو يعني الأمانة)، والعلم، ويراد بالعلم، ويراد بالعلم هنا: الخبرة به والكفاية فيه.

وهذا يوافق ما جاء على لسان ابنه الشيخ الكبير في سورة القصص: (إن خير من استأجرت القوي الأمين).

أم كان العمل عسكريا: كما قال تعالى في تعليل اختيار طالوت ملكا على أولئك الملأ من بني إسرائيل: (قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم).

أم كان هذا العمل قضائيا، حتى إنهم اشترطوا في القاضي ـ كما اشترطوا في الخليفة ـ أن يكون مجتهدا، فلم يكتفوا في مثله أن يكون عالما مقلدا لغيره، لأن الأصل في العلم هو معرفة الحق بدليله، دون التزام بموافقة زيد أو عمرو من الناس، أما من قلد غيره من البشر من غير أن تكون له حجة، أو كانت له حجة واهية غير ناهضة، فليس هذا من العلم في شيء.

وإنما قبلوا قضاء المقلد، مثلما قبلوا ولاية من لا فقه له، للضرورة. غير أن هناك حد أدنى من العلم لابد أن يكون لديه، وإلا قضى على جهل فكان من أهل النار.

وفي الحديث الذي رواه بريدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "القضاة ثلاثة: اثنان في النار، وواحد في الجنة، رجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل عرف الحق فجار في الحكم، فهو في النار".()

ضرورة العلم للمفتي :

ومثل القضاء: الفتوى، فلا يجوز أن يفتي الناس إلا عالم متمكن في علمه، فقيه في دينه، وإلا حرم الحلال، وأحل الحرام، وأسقط الواجبات،أوألزم الناس بما لم يلزمهم الله، وأقر المبتدعات، أو بدع المشروعات، وكفر أهل الإيمان، أو برر كفر أهل الكفر. وهذا كله أو بعضه يقع ثمرة لغياب العلم والفقه، ولا سيما مع الجراءة على الفتيا، واستباحة حرمتها لكل من هب ودب. كما نرى ذلك في عصرنا، الذي أصبح أمر الدين فيه كلا مباحا يرعاه كل من شاء، من كل من له لسان ينطق، أو قلم يخط، مع شدة تحذير القرآن والسنة وسلف الأمة من اقتحام هذا الحمى الخطير، دون مؤهلاته وشروطه، وما أصعب استجماعها والتمكن منها!

ولقد شدد النبي صلى الله عليه وسلم النكير على من تسرعوا بالفتوى في عهده، فأفتوا رجلا به جراحة أصابته جنابة أن يغتسل، دون رعاية لما به من جراح، فكان ذلك سببا في موته، فقال عليه الصلاة والسلام: "قتلوه قتلهم الله! ألا سألوا إذا لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم".

فانظر كيف اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم فتواهم قتلا له، ودعا عليهم بقوله: "قتلهم الله"! الفتوى الجاهلة إذن قد تقتل، وقد تدمر. ولهذا نقل ابن القيم وغيره الإجماع على تحريم الإفتاء في دين الله بغير علم، وأدخله ضمن قوله تعالى: (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون).

ونقل من الأحاديث وآثار الصحابة وأقوال السلف ما يسد الطريق على الأدعياء والمتطفلين، وأنصاف العلماء.

قال ابن سيرين: لأن يموت الرجل جاهلا خير له من أن يقول ما لا يعلم.

وقال أبو حصين الأشعري: إن أحدهم ليفتي في المسألة، ولو وردت على عمر لجمع لها أهل بدر!

فكيف لو رأى جرأة أهل عصرنا؟!

وقال ابن مسعود وابن عباس: من أفتى الناس في كل ما يسألونه عنه فهو مجنون!

وقال أبو بكر: أي سماء تقلني، وأي أرض تظلني: إذا قلت ما لا أعلم؟!

وقال علي: وأبردها على كبدي ـ ثلاث مرات ـ أن يسأل الرجل عما يعلم، فيقول: الله أعلم!

وكان ابن المسيب سيد التابعين لا يكاد يفتي إلا قال: اللهم سلمني، وسلم مني!

وهذا كله دليل على خطر الفتوى، وضرورة التأهل لها بالعلم الراسخ، والأفق الواسع، مع الورع العاصم من اتباع هوى النفس أو أهواء الغير.

ومن هنا يعجب المرء غاية العجب من شبان من طلاب العلم الشرعي ـ وكثيرا ما يكونون دخلاء عليه ـ يفتون باستعجال واستعلاء في أعوص المسائل، وأخطر القضايا، ويتطاولون على العلماء الكبار، بل يناطحون الأئمة العظام، والصحابة الأعلام، ويقولون في غرور وانتفاخ: هم رجال، ونحن رجال!!

وأول ما يفتقرون إليه هو معرفة قدر أنفسهم، ثم فقه مقاصد الشرع، وفقه حقائق الواقع، ولكن الغرور حجاب كثيف دون ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ضرورة العلم للداعية والمعلم :

وإذا كان العلم مطلوبا للقضاء والفتوى، فهو مطلوب كذلك للدعوة والتربية. فقد قال الله تعالى لرسوله: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله، على بصيرة أنا ومن اتبعني)

فكل داع إلى الله ـمن أتباع رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ـ يجب أن تكون دعوته على بصيرة. ومعنى هذا: أن يكون على بينة من دعوته، ومعرفة مستبصرة بما يدعو إليه. فيعلم: إلام يدعو؟ ومن يدعو؟ وكيف يدعو؟

ولهذا قالوا عن الرباني: هو الذي يعلم ويعمل ويعلم، وإليه يشير قوله تعالى: (ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون)، وفسر ابن عباس الربانيين فقال: حكماء فقهاء.

ويقال: الرباني: الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره.

قالوا: والمراد بصغار العلم: ما وضح من مسائله، وبكباره: ما دق منها وقيل: يعلمهم جزئياته قبل كلياته، أو فروعه قبل أصوله، أو مقدماته قبل نتائجه.

والمقصود هو: التدرج في التعليم، ومراعاة ظروف المتعلمين، وقدراتهم، والترقي بهم من درجة إلى أخرى.

ومما يوجبه العلم في مقام الدعوة والتعليم: أن يأخذ الداعية والمعلم الناس بالتيسير لا التعسير، وبالتبشير لا التنفير. كما في الحديث المتفق عليه: "يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا".

قال الحافظ في شرح الحديث: المراد تأليف من قرب إسلامه، وترك التشديد عليه في الابتداء، وكذلك الزجر عن المعاصي، ينبغي أن يكون بالتدريج، لأن الشيء إذا كان في ابتدائه سهلا، حبب إلى من يدخل فيه، وتلقاه بانبساط، وكانت عاقبته غالبا الازدياد، بخلاف ضده.

وليس التيسير مقصورا على قريب العهد بالإسلام، كما قد يفهم من كلام الحافظ، بل هو أمر عام ودائم، ولكنه ألزم ما يكون لحديث العهد بالإسلام أو بالتوبة، أو بكل من يحتاج إلى التخفيف من مريض أو كبير سن أو ذي حاجة.

ومن مقتضيات العلم: أن يجرعوا من المعارف الدينية ما يطيقونه، وتسيغه معدتهم العقلية، ولا يحدثوا بما تنكره عقولهم، فيكون ذلك فتنة عليهم أو على بعضهم.

وفي هذا يقول علي رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون: أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟!

ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة.

أولوية الفهم على مجرد الحفظ :

أسبقية العلم على العمل ـ انبه على أمر مهم، يدخل في فقه الأولويات أيضا. وهو: أولوية علم الدراية على علم الرواية، وبعبارة أخرى، أولوية الفهم والفقه على مجرد الاستيعاب والحفظ: والعلم الحقيقي هو الذي يتمثل في الفهم والهضم.

والإسلام إنما يريد منا: التفقه في الدين، لا مجرد تعلم الدين، كما في قوله تعالى: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون).

وفي الحديث الصحيح: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين".

والفقه شيء أعمق وأخص من العلم، إنه الفهم، والفهم الدقيق، ولذا نفاه الله تعالى عن الكفار والمنافقين، حين وصفهم بأنهم: (قوم لا يفقهون).

وفي حديث أبي هريرة عند مسلم: "الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا".

وفي حديث أبى موسى في الصحيحين: "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل الغيث الكثير، أصاب أرضا، فكان منها نقية قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منهم طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلم. ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به".

فالحديث يمثل ما جاءت به النبوة من الهدى والعلم بالغيث العام الذي يحيي الأرض الميتة، كما تحيي علوم الدين القلوب الميتة. كما يمثل أنواع الناس في تلقيهم لهذا العلم بأنواع الأرض المختلفة. فأعلى الأصناف هو الذي يفقه العلم وينتفع به ويعلمه، فهو كالأرض الطيبة النقية التي تشرب الماء، فتنتفع به وتنبت الكلأ والعشب الكثير. وأدنى من ذلك ـ النوع الثاني: من لهم قلوب حافظة، وليست لهم أفهام ثاقبة، ولا رسوخ لهم في العقل يستنبطون به المعاني والأحكام، فهؤلاء يحفظونه حتى يأتي طالب محتاج متعطش لما عندهم من العلم، أهل للنفع والانتفاع، فيأخذه منهم، فينتفع به. فهؤلاء نفعوا بما بلغوا، فهذا الصنف بمنزلة الأرض الجدباء التي يستقر فيها الماء فتمسكه، حتى يأتي من يشرب منها ويسقي ويزرع، وهذا هو المشار إليه في الحديث المشهور: "نضر الله امرئ سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه".

والنوع الثالث: هم الذين ليس لهم فهم ولا حفظ، ولا علم ولا عمل، فهم كالأرض السبخة التي لا تقبل الماء، ولا تمسكه لغيرها.

فدل هذا الحديث على أن أرفع أصناف الناس درجة عند الله وعند رسوله: هم أهل الفهم والفقه، وبعدهم أهل الحفظ، ومن هنا كان فضل "الدراية" على "الرواية"، وفضل "الفقهاء" على "الحفاظ".

وفي خير قرون الأمة ـ القرون الثلاثة الأولى ـ كانت المكانة والصدارة "للفقيه" وفي عصور الانحدار والتراجع كانت المكانة والصدارة "للحفاظ"!

لا أريد أن أقول: إن الحفظ ليس له أي قيمة مطلقا، وإن الذاكرة في الإنسان لا جدوى لها، فهذا غير صحيح. ولكن أقول: إن الحفظ هو مجرد خزن للحقائق والمعلومات، ليستفاد منه بعد ذلك. فالحفظ ليس مقصودا لذاته، وإنما هو وسيلة لغيره. والخطأ الذي وقع فيه المسلمون هو اهتمامهم بالحفظ أكثر من الفهم، وإعطاؤه أكثر من حقه وقدره.

ولهذا نجد مبالغة في تكريم حفاظ القرآن الكريم، على ما لذلك من فضل، حتى إن مسابقات تعقد في عدد من الأقطار، تقدم فيها جوائز قيمة، تبلغ عشرات الآلاف للشخص الواحد، وهذا أمر مقدر ويشكر.

ولكن لم يرصد مثل هذه الجوائز ولا نصفها ولا ربعها للنابغين في العلوم الشرعية المختلفة من التفسير والحديث والفقه وأصوله والعقيدة والدعوة، مع أن حاجة الأمة إلى هؤلاء أكثر، ونفعهم أعظم وأغزر.

ومما يعاب به التعليم العام في أوطاننا: أنه يعتمد على الحفظ و"الصم" لا على الفهم والهضم. ولهذا ينسى المرء غالبا ما تعلمه بعد أداء الامتحان، ولو أن ما تعلمه كان مبنيا على الفهم والفقه والتمثل لرسخ في ذهنه، ولم يتعرض بهذه السرعة للزوال.

قواعد فقه الأولوية:

من قواعد الأولويات معرفة فروض العين وفروض الكفاية، وكذلك معرفة مقاصد الشريعة الضرورية والحاجية والتحسينية، ليسير المسلم على بصيرة من أمره.

وإن الحقوق الواجبة على المكلف على ضربين:

حقوق الله كالصلاة والصيام والحج، أو من حقوق الآدميين كالديون والنفقات والنصيحة... وهي إما حقوق محددة شرعًا أو غير محدودة.

فأما المحدودة المقدرة فلازمة لذمة المكلف حتى يخرج عنها كأثمان المشتريات وفرائض الصلوات.

وأما غير المحدودة فلازمة له، غير أنها لا تترتب في ذمته... مثل الصدقات المطلقة، ويدخل تحته سائر فروض الكفايات).

(وفرض الكفاية: ما له علاقة بإصلاح الخلق ومعاشهم.

والأمر بالمعروف ونحوه من فروض الكفاية. ويتعين على من كان له أهلًا. ومن العلوم: علم القراءات الشاذة والمشهورة والأحاديث الصحيحة وعلم الطب والرسم القرآني، وبعض الأخلاق فرض عين وبعضها فرض كفاية).

(وكل ما كان من حقوق الله فلا خيرة فيه للمكلف على حال. وأما ما كان من حق العبد في نفسه، فله فيه الخيرة).

فالصلاة والصوم والحج والطهارة فكلها من حقوق الله تعالى.

وتكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام : أن تكون ضرورية – حاجية - والثالث أن تكون تحسينية.*

والطاعة إذا كانت تحقيق مصلحة كبرى فهي ركن. وإن كانت تحقيق مصلحة جزئية فهي نافلة.

والمعصية إذا كانت تجلب مضرة كبيرة فهي كبيرة من الكبائر. وإن كانت سببًا في ضرر قليل أو مفسدة جزئية فهي صغيرة من الصغائر التي تمحى بالاستغفار).

ومن المقرر فقهًا أن النافلة لا يجوز تقديمها على الفريضة وأن فرض العين مقدم على فرض الكفاية. وأن فرض الكفاية الذي لم يقم به أحد أو عدد يكفي مقدم على فرض الكفاية الذي قام به من يكفي ويسد الثغرة. وأن فرض العين المتعلق بالجماعة والأمة مقدم على فرض العين المتعلق بحقوق الأفراد.

وأن الواجب المحدد الوقت والذي جاء وقته بالفعل، مقدم على الواجب الموسع في وقته.

ومن المقرر أن المصالح المقررة شرعًا متفاوتة فيما بينها. فالمصالح الضرورية مقدمة على الحاجية والتحسينية والمصالح الحاجية مقدمة على التحسينية).

فالضروريات أهم المقاصد الشرعية تليها الحاجيات تليها التحسينيات .

ومن القواعد الأصولية:

((إذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما نقدم أوكدهما. ولم يكن الآخر في هذه الحال واجبًا. ولم يكن تاركه لأجل فعله الأوكد تارك الواجب في الحقيقة).

((ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب وما لا يتم المندوب إلا به فهو مندوب وما لا يتم فعل الحرام إلا به فهو حرام . وما لا يتم فعل المكروه إلا به فهو مكروه، وما لا يتم المباح إلا به فهو مباح.

مثال ذلك: المشي إن كان لواجب كصلاة جمعة فهو واجب. وإن كان لمحرم كفعل فاحشة فهو محرم. وإن كان لمندوب كزيارة صديق فهو مندوب. وإن كان لمكروه كحضور مجلس لغو فهو مكروه. وإن كان لنزهة فهو مباح).

والواجب تقديم الفرائض كلها على النوافل. وتقديم فروض الأعيان على فروض الكفاية. وتقديم الأهم من فروض الأعيان على ما دونه. وتقديم حاجة الوالدة على حاجة الوالد. ومن لا يفي ماله بنفقة الوالدين والحج فينبغي أن يقدم حقها على الحج)).

• ما حد له الشارع وقتًا محددًا من الواجبات أو المندوبات، فإيقاعه في وقته لا تقصير فيه شرعًا ولا عتب ولا ذم. وإنما العتب والذم في إخراجه عن وقته سواء أكان وقتًا مضيقًا أو موسعًا).

درء المفاسد مقدم على جلب المصالح:

(إن درء المفاسد مطلب شرعي وذلك للمحافظة على الدين.

ولكن من أين نعلم أن هذا مفسدة؟

والجواب: من الشارع. لأنه لا يستقل العقل بدرك المصلحة والمفسدة فإذا قلنا هذا مفسدة، فلا بد من شهادة الشرع لما نقول.

فالضرورة تقدر بقدرها.

ويتحمل الضرر الأخف لدفع الضرر الأشد.

ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح.

وجوب سد الذرائع:

الذرائع هي: ما ظاهره مباح ويتوصل به إلى محرم. أو هي المسألة التي ظاهرها الإباحة ويتوصل بها إلى فعل محظور.

ومما يدل على وجوب سد الذرائع قوله تعالى: ((ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدْوًا بغير علم)).

فمنع الله تعالى من هذا الفعل على ما فيه من المصلحة، وذلك لتحقيق مفسدة أكبر وهي سب المشركين لله تعالى.

ولقد حرم عليه الصلاة والسلام الخلوة بالمرأة الأجنبية، وأن تسافر مع غير محرم، ونهى عن بناء المساجد على القبور وعن الصلاة إليها وعن الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها وقال: ((إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم)).

وحرم نكاح ما فوق الأربع لقوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا ﴾ [النساء: 3].

وحرمت خطبة المعتدة تصريحا ونكاحها، وحرم على المرأة في عدة الوفاة الطيب والزينة وسائر دواعي النكاح...

كل ذلك سدًا لذريعة الفساد.

المطلب  الثاني

ارتباط فقه الأولويات بأنواع أخرى من الفقه

علاقة فقه الأولويات بفقه المقاصد :

ويرتبط فقه الأولويات كذلك بـ" فقه مقاصد الشريعة" فمن المتفق عليه، أن أحكام الشريعة في مجموعها معللة، وأن وراء ظواهرها مقاصد هدف الشرع إلى تحقيقها. فان من أسماء الله تعالى" الحكيم " الذي تكرر في القرآن بضعاً وتسعين مرة. والحكيم لا يشرع شيئاً عبثاً ولا اعتباطاً، كما لا يخلق شيئاً باطلاً، سبحانه.

حتى التعبديات المحضة في الشرع لها مقاصدها، ولهذا علل القرآن العبادات ذاتها، فالصلاة ( تنهى عن الفحشاء والمنكر)()، والزكاة(تطهرهم وتزكيهم بها)()، والصيام (لعلكم تتقون)()، والحج ( ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله)().

ومن حسن الفقه في دين الله أن ندرك مقصود الشرع من التكليف، حتى نعمل على تحقيقه، وحتى لا نشدد على أنفسنا وعلى الناس فيما لا يتصل بمقاصد الشرع وأهدافه.

ومن هنا لا أرى مبرراً للتشديد في ضرورة إخراج صدقة الفطر من الأطعمة في كل البيئات في عصرنا، حتى المدنية والحضرية منها، فليست هي مقصودة لذاتها، إنما المقصود إغناء الفقير في هذا اليوم الأغر عن السؤال والطواف.

ولا أرى معنى للتشديد في رمي الجمار في الحج قبل الزوال، وإن ترتب على ذلك شدة الزحام وموت المئات تحت الأقدام كما حدث في الموسم الماضي، فليس في الشرع ما يدل على أن هذا أمر مقصود لذاته. بل المقصود هو ذكر الله، والمطلوب هو التيسير ورفع الحَرَج.

ومن المهم هنا: التفريق بين المقاصد الثابتة والوسائل المتغيرة، فنكون في الأولى في صلابة الحديد، وفي الثانية في ليونة الحرير. وقد وضَّحنا ذلك في كتابنا " كيف نتعامل مع السُنَّة النبوية".

علاقة فقه الأولويات بفقه النصوص

كما يرتبط فقه الأولويات من غير شك أيضاً بـ" فقه نصوص الشريعة " الجزئية، بحيث يربط بينها وبين المقاصد الكلية، والقواعد العامة، فَتُرد الجزئيات إلى كلياتها، والفروع إلى أُصولها.

ومن الضروري هنا: التمييز بين القطعي والظني من النصوص، وبين المحكم والمتشابه منها. وفهم الظني في ضوء القطعي، والمتشابه في إطار المحكم.

وألزم ما يكون هذا الفقه بالنسبة إلى السُنَّة النبوية، فهي التي كثيراً ما يقع الخلط في فهمها أكثر من القرآن، نظراً لتعرضها للتفصيلات، ودخولها في الكثير من الجزئيات والتطبيقات. ولأن فيها ما هو للتشريع وهو الأصل، وما ليس للتشريع كحديث تأبير النخل وما على شاكلته. وفيها ما هو للتشريع الدائم، وما هو للتشريع الطارئ، وما هو للتشريع العام وما هو للتشريع الخاص، وقد فصَّل ذلك المحققون من العلماء.

وقد بيَّنا ذلك في حديثنا عن " الجانب التشريعي في السُنَّة " في مجلة مركز بحوث السُنَّة والسيرة. وفي كتابنا "السُنَّة .. مصدراً للمعرفة والحضارة " فليرجع إليهما من أراد التوسع .. وبالله التوفيق.

علاقة فقه الأولويات بفقه الموازنات

الموازنة بين المصالح والمفاسد عند التعارض

وإذا اجتمع في أمر من الأُمور مصلحة ومفسدة، أو مضرَّة ومنفعة، فلا بد من الموازنة بينهما. والعبرة للأغلب والأكثر، فإن للأكثر حكم الكل.

فإذا كانت المفسدة أكثر وأغلب على الأمر من المنفعة أو المصلحة التي فيه - وجب منعه، لغلبة مفسدة، ولم تُعتبر المنفعة القليلة الموجودة فيه. وهذا ما ذكره القرآن في قضية الخمر والميسر في إجابته عن السائلين عنهما:( يسئلونك عن الخمر والميسر، قل فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما )().

وبالعكس إذا كانت المنفعة هي الأكبر والأغلب، فيُجاز الأمر ويشرع، وتُهدر المفسدة القليلة الموجودة به.

ومن القواعد المهمة هنا:

أن درء المفسدة مُقدَّم على جلب المصلحة.

يكمل هذه قاعدة أخرى مهمة، وهي:

أن المفسدة الصغيرة تُغتفر من أجل المصلحة الكبيرة.

وتُغتفر المفسدة العارضة من أجل المصلحة الدائمة.

ولا تُترك مصلحة محققة من أجل مفسدة متوهمة.

إن فقه الموازنات هذا له أهمية كبيرة في واقع الحياة، وخصوصاً في باب السياسة الشرعية، لأنها أساساً تقوم على رعايته، وهو في غاية الأهمية لفقه الأولويات.

كيف نعرف المصالح والمفاسد

والمصالح المرعية: إما مصالح دنيوية، أو مصالح أُخروية، أو مصالح دنيوية وأُخروية معاً. ومثل ذلك المفاسد من غير شك.

وكل منها له طريق إلى معرفته من العقل أو من الشرع أو من كليهما.

كلام ابن عبد السلام:

وقد فصَّل الإمام عز الدين بن عبد السلام " فيما تُعرف به المصالح والمفاسد وفي تفاوتهما ".

وما أبلغ ما قاله هنا في كتابه الفريد " قواعد الأحكام في مصالح الأنام ":

"ومعظم مصالح الدنيا ومفاسدها معروف بالعقل، وذلك معظم الشرائع؛ إذ لا يخفى على عاقل قبل ورود الشرع أن تحصيل المصالح المحضة، ودرء المفاسد المحضة من نفس الإنسان وعن غيره محمود حسن، وأن تقديم أرجح المصالح فأرجحها محمود حسن، وأن درء أفسد المفاسد فأفسدها محمود حسن، وأن تقديم المصالح الراجحة على المرجوحة محمود حسن، وأن درء المفاسد الراجحة على المصالح المرجوحة محمود حسن.

واتفق الحكماء على ذلك. وكذلك الشرائع على تحريم الدماء والأبضاع والأموال والأعراض، وعلى تحصيل الأفضل فالأفضل من الأقوال والأعمال.

وإن اختُلِف في بعض ذلك، فالغالب أن ذلك لأجل الاختلاف في التساوي والرجحان، فيتحير العباد عند التساوي ويتوقفون إذا تحيروا في التفاوت والتساوي.

وكذلك الأطباء يدفعون أعظم المرضين بالتزام بقاء أدناهما، ويجلبون أعلى السلامتين والصحتين ولا يبالون بفوات أدناهما، ويتوقفون عند الحيرة في التساوي والتفاوت، فإن الطب كالشرع وُضِع لجلب مصالح السلامة والعافية، ولدرء مفاسد المعاطب والأسقام، ولدرء ما أمكن درؤه من ذلك، ولجلب ما أمكن جلبه من ذلك. فإن تعذر درء الجميع أو جلب الجميع، فإن تساوت الرّتب تخيَّر، وإن تفاوتت استعمل الترجيح عند عرفانه، والتوقف عند الجهل به. والذي وضع الشرع هو الذي وضع الطب، فإن كل واحد منهما موضوع لجلب مصالح العباد ودرء مفاسدهم.

وكما لا يحل الإقدام للتوقف في الرجحان في المصالح الدينية حتى يظهر له الراجح، فكذلك لا يحل للطبيب الإقدام مع التوقف في الرجحان إلى أن يظهر له الراجح، وما يحيد عن ذلك في الغالب إلا جاهل بالصالح والأصلح، والفاسد والأفسد، فإن الطباع مجبولة على ذلك بحيث لا يخرج عنه إلا جاهل غلبت عليه الشقاوة أو أحمق زادت عليه الغباوة. فمن حرَّم ذبح الحيوان من الكفرة، رام ذلك مصلحة للحيوان فحاد عن الصواب؛ لأنه قدم مصلحة حيوان خسيس على مصلحة حيوان نفيس، ولو خلوا عن الجهل والهوى لقدَّموا الأحسن على الأخس، ولدفعوا الأقبح بالتزام القبيح: ( فمن يهدي من أضل الله، وما لهم من ناصرين )؟!(). فمن وفَّقه الله وعصمه أطلعه على دق ذلك وجله، ووفقه للعمل بمقتضى ما أطلعه عليه، فقد فاز، وقليل ما هم.

وكذلك المجتهدون في الأحكام، من وفَّقه الله وعصمه من الزلل أطلعه الله على الأدلة الراجحة فأصاب الصواب، فأجره على قصده وصوابه، بخلاف من أخطأ الرجحان فإن أجره على قصده واجتهاده، ويُعفى عن خطئه وزلَلِه. وأعظم من ذلك الخطأ فيما يتعلق بالأصول.

واعلم أن تقديم الأصلح فالأصلح ودرء الأفسد فالأفسد مركوز في طبائع العباد، نظراً لهم من رب الأرباب، كما ذكرنا في هذا الكتاب، فلو خيَّرتَ الصبي الصغير بين اللذيذ والألذ لاختار الألذ، ولو خُيِّر بين الحسن والأحسن لاختار الأحسن، ولو خُيِّر بين فلس ودرهم لاختار الدرهم، ولو خُيِّر بين درهم ودينار لاختار الدينار. ولا يُقدِّم الصالح على الأصلح إلا جاهل بفضل الأصلح، أو شقي متجاهل لا ينظر إلى ما بين المرتبتين من التفاوت ".

وأما مصالح الآخرة ومفاسدها فلا تُعرف إلا بالنقل.

ومصالح الدارين ومفاسدهما في رتب متفاوتة. فمنها ما هو في أعلاها، ومنها ما هو في أدناها، ومنها ما يتوسط بينهما، وهو مقسم إلى متفق عليه ومختلف فيه.

فكل مأمور به ففيه مصلحة الدارين أو إحداهما، وكل منهي عنه ففيه مفسدة فيهما أو في إحداهما، فما كان من الاكتساب محصلاً لأحسن المصالح فهو أفضل الأعمال، وما كان منهما محصلاً لأقبح المفاسد فهو أرذل الأعمال. فلا سعادة أصلح من العرفان والإيمان وطاعة الرحمن، ولا شقاوة أقبح من الجهل بالديَّان والكفر والفسوق والعصيان.

ويتفاوت ثواب الآخرة بتفاوت المصالح في الأغلب، ويتفاوت عقابها بتفاوت المفاسد في الأغلب، ومعظم مقاصد القرآن الأمر باكتساب المصالح وأسبابها. والزجر عن اكتساب المفاسد وأسبابها، فلا نسبة بمصالح الدنيا ومفاسدها إلى مصالح الآخرة ومفاسدها، لأن مصالح الآخرة خلود الجنان ورضا الرحمن، مع النظر إلى وجهه الكريم، فيا له من نعيم مقيم! ومفاسدها خلود النيران وسخط الديَّان مع الحجب عن النظر إلى وجهه الكريم، فيا له من عذاب أليم!

والمصالح ثلاثة أنواع: أحدها مصالح المباحات، الثاني مصالح المندوبات، الثالث مصالح الواجبات.

والمفاسد نوعان: أحدهما مفاسد المكروهات، الثاني مفاسد المحرَّمات.

ما تعرف به مصالح الدارين ومفاسدهما:

أما مصالح الدارين وأسبابها ومفاسدهما فلا تُعرف إلا بالشرع، فإن خفي منها شيء طُلِب من أدلة الشرع، وهي الكتاب والسُنَّة والإجماع والقياس المعتبر والاستدلال الصحيح، وأما مصالح الدنيا وأسبابها ومفاسدها فمعروفة بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات، فإن خفي شيء من ذلك طُلِب من أدلته، ومن أراد أن يعرف المتناسبات والمصالح والمفاسد راجحهما ومرجوحهمافليعرض ذلك على عقله، بتقدير أن الشرع لم يرد به، ثم يبني عليه الأحكام، فلا يكاد حكم منها يخرج عن ذلك، إلا ما تعبَّد الله به عباده، ولم يقفهم على مصلحته أو مفسدته، وبذلك تعرف حسن الأعمال وقبحها، مع أن الله عز وجل، لا يجب عليه جلب مصالح الحسن، ولا درء مفاسد القبيح، كما لا يجب عليه خلق ولا رزق ولا تكليف ولا إثابة ولا عقوبة، وإنما يجلب مصالح الحسن ويدرأ مفاسد القبيح طَوْلاً منه على عباده وتفضلاً.

الموازنة بين المصالح بعضها وبعض :

وفقه الأولويات هذا يرتبط بأنواع أخرى من الفقه نبهنا على أشياء منها في بعض ما كتبناه من قبل.

فهو يرتبط بـ" فقه الموازنات "، وقد تحدَّثتُ عنه في كتابي " أولويات الحركة الإسلامية "، ونقلت عن شيخ الإسلام ابن تيمية فيه كلاماً نافعاً.

وأهم ما يقوم عليه فقه الموازنات:

1- الموازنة بين المصالح أو المنافع أو الخيرات المشروعة بعضها وبعض.

2- والموازنة كذلك بين المفاسد أو المضار أو الشرور الممنوعة بعضها وبعض.

3- والموازنة أيضاً بين المصالح والمفاسد أو الخيرات والشرور إذا تصادمت وتعارضت بعضها ببعض.

المصالح نجد أن المصالح التي أقرَّها الشرع ليست في رتبة واحدة، بل هي- كما قرر الأُصوليون- مراتب أساسية ثلاث: الضروريات، والحاجيات، والتحسينات. فالضروريات: ما لا حياة بغيره والحاجيات: ما يمكن العيش بغيره ولكن مع مشقة وحرج. والتحسينات: ما يزين الحياة ويجمِّلها، وهو ما نسميه عُرفاً بـ" الكماليات ".

وفقه الموازنات - وبالتالي فقه الأولويات - يقتضي منا:

تقديم الضروريات على الحاجيات، ومن باب أولى على التحسينات.

وتقديم الحاجيات على التحسينات والمكملات.

كما أن الضروريات في نفسها متفاوتة، فهي كما ذكر العلماء خمس: الدين، والنفس، والنسل، والعقل، والمال. وبعضهم أضاف إليها سادسة، وهي: العِرض.

فالدين هو أولها وأهمها، وهو مُقدَّم على كل الضروريات الأخرى، حتى النفس.

كما أن النفس مقدَّمة على ما عداها.

وفي الموازنة بين المصالح:

- تُقدَّم المصلحة المتيقنة على المصلحة المظنونة أو الموهومة.

- وتُقدَّم المصلحة الكبيرة على المصلحة الصغيرة.

- وتُقدَّم مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد.

- وتُقدَّم مصلحة الكثرة على مصلحة القِلَّة.

- وتُقدَّم المصلحة الدائمة على المصلحة العارضة أو المنقطعة.

- وتُقدَّم المصلحة الجوهرية والأساسية على المصلحة الشكلية والهامشية.

- وتُقدَّم المصلحة المستقبلية القوية على المصلحة الآنية الضعيفة.

وفي صلح الحديبية: رأينا النبي صلى الله عليه وسلم، يُغلِّب المصالح الجوهرية والأساسية والمستقبلية، على المصالح والاعتبارات الشكلية، التي يتشبث بها بعض الناس. فقبل من الشروط ما قد يظن - لأول وهلة - أن فيه إجحافاً بالجماعة المسلمة، أو رضا بالدون .. ورضي أن تٌحذف " البسملة " المعهودة من وثيقة الصلح، ويكتب بدلها: " باسمك اللَّهم ". وأن يُحذف وصف الرسالة الملاصق لاسمه الكريم: " محمد رسول الله "، ويُكتفى باسم " محمد بن عبد الله "! ليكسب من وراء ذلك " الهدنة " التي يتفرغ فيها لنشر الدعوة، ومخاطبة ملوك العالم. ولا غرو أن سمَّاها القرآن: " فتحاً مبيناً " .. والأمثلة على ذلك كثيرة.

الموازنة بين المفاسد و المضار بعضها وبعض

- المفاسد والمضار - نجد أنها كذلك متفاوتة كما تفاوتت المصالح.

- فالمفسدة التي تعطل ضرورياً، غير التي تعطل حاجياً. غير التي تعطل تحسينياً.

- والمفسدة التي تضر بالمال دون المفسدة التي تضر بالنفس، وهذه دون التي تضر بالدين والعقيدة.

- والمفاسد أو المضار متفاوتة في أحجامها وفي آثارها وأخطارها.

ومن هنا قرر الفقهاء جملة قواعد ضابطة لأهم أحكامها. منها:

- لا ضَرر ولا ضِرار.

- الضرر يُزال بقدر الإمكان.

- الضرر لا يُزال بضرر مثله أو أكبر منه.

- يُرتكب أخف الضررين وأهون الشرين.

- يُحتمل الضرر الأدنى لدفع الضرر الأعلى.

- يُحتمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام.

- أولوية الكيف على الكم

من الأولويات المهمة شرعا: تقديم الكيف والنوع على الكم والحجم، فليست العبرة بالكثرة في العدد، ولا بالضخامة في الحجم: إنما المدار على النوعية والكيفية.

لقد ذم القرآن الأكثرية إذا كان أصحابها ممن لا يعقلون أو لا يعلمون أو لا يؤمنون أو لا يشكرون: كما نطقت بذلك آيات وفيرة من كتاب الله: (بل أكثرهم لا يعقلون)، (ولكن أكثر الناس لا يعلمون)، (ولكن أكثر الناس لا يؤمنون)، (ولكن أكثر الناس لا يشكرون).

(وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله).

في حين مدح القرآن القلة المؤمنة العاملة الشاكرة، كما في قوله تعالى: (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات قليل ما هم)، (وقليل من عبادي الشكور)، (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض)، (فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم).

ولهذا ليس المهم أن يكثر عدد الناس، ولكن المهم أن يكثر عدد المؤمنين الصالحين منهم.

يذكر كثيرون الحديث النبوي: "تناكحوا تناسلوا تكثروا فإني مكاثر بكم الأمم"، ولكن الرسول لن يباهي الأمم بالجهلة ولا بالفسقة ولا بالظالمين، إنما يباهي بالطيبين العاملين النافعين.

وقد قال عليه الصلاة والسلام: "الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة". دلالة على ندرة النوع الجيد من الناس، كندرة الراحلة الصالحة للسفر والركوب والحمل في الإبل، حتى إن المائة لا يكاد يوجد فيها واحدة من هذا النوع.

والتفاوت في بني الإنسان أكثر منه في جميع الفصائل والأنواع الأخرى من الحيوان وغيره. حتى جاء في الحديث: "ليس شيء خيرا من ألف مثله إلا الإنسان".

إننا مولعون بالكم وبالكثرة في كل شيء، وإبراز الأرقام بالألوف والملايين، ولا يعنينا كثيرا ما وراء هذه الكثرة، ولا ماذا تحمل هذه الأرقام.

والقرآن ذكر لنا كيف انتصر جنود طالوت، وهم قلة على جنود جالون وهم كثرة: (فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده، فشربوا منه إلا قليلا منهم، فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده، قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين)، إلى أن قال: (فهزموهم بإذن الله).

وذكر لنا القرآن كيف انتصر الرسول وأصحابه في بدر، وهم قلة على المشركين وهم كثرة كما قال تعالى: (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة، فاتقوا الله لعلكم تشكرون)، (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره).

على حين كاد المسلمون يخسرون في حنين، إذ نظروا إلى الكم لا الكيف وغرتهم الكثرة، وأهملوا القوة الروحية، والحيطة العسكرية، فدارت الدائرة عليهم أولا، حتى يتعلموا وينتبهوا أو يتوبوا، ثم فتح الله عليهم وأيدهم بجنود لم يروها.

يقول الله تعالى: (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين، ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا، وذلك جزاء الكافرين).

ولقد بين القرآن أن الإنسان إذا اجتمع له الإيمان وقوة الإرادة المعبر عنها بالصبر، يمكن أن تتضاعف طاقته إلى عشرة أضعاف أعدائه ممن لا يملك إيمانه وإرادته: يقول تعالى: (يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال، إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون).

وهذا في حالة القوة، أما في حالة الضعف فيمكن أن تكون طاقته ضعف طاقة خصمه، كما أشارت إلى ذلك الآية اللاحقة في سورة الأنفال: (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا، فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله).

المدار إذن على الإيمان والإرادة لا على العدو والكثرة.

بعث عمر بن الخطاب عمرو بن العاص لفتح مصر، ومعه أربعة آلاف جندي فقط، ثم طلب منه مددا، فأمده بأربعة آلاف، ومعهم أربعة قال عمر: كل واحد منهم بألف، واعتبر المجموع اثنى عشر ألفا*! ولن يغلب اثنا عشر ألفا من قلة.

لقد كان عمر مؤمنا بأن العبرة بنوع الرجال وقدراتهم ومواهبهم لا بأعدادهم وأحجامهم.

روى عنه أنه جلس يوما مع بعض أصحابه في دار رحبة، فقال لهم: تمنوا، فقال أحدهم: أتمنى أن يكون لي ملء هذه الدار دارهم من فضة أنفقتها في سبيل الله، وتمنى آخر أن يكون له ملؤها ذهبا ينفقه في سبيل الله، أما عمر فقال: لكني أتمنى ملء هذه الدار رجالا مثل أبى عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبى حذيفة، فأستعملهم في سبيل الله.

الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود عن ثوبان: "يوشك أن تتداعى عليكم الأمم من كل أفق، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها"، قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: "بل أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولنزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن"، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: "حب الدنيا وكراهية الموت".

لقد بين هذا الحديث أن الكثرة وحدها لا تغني، إذا كانت منتفخة من الخارج، واهنة من الداخل، كما في المراحل "الغثائية" من حياة الأمة، التي تتصف الأمة فيها بما يتصف به الغثاء من الخفة، وعدم التجانس، وفقدان الهدف والطريق، كما هو شأن غثاء السيل.

العناية إذن يجب أن تتجه إلى الكيف والنوع لا مجرد الكم، والمقصود بـ "الكم" هنا: كل ما يعبر عن مقدار الجانب المادي وحده، من كثرة العدد، أو سعة المساحة، أو كبر الحجم، أو ثقل الوزن، أو طول المدة، أو غير ذلك مما يدخل في هذا المجال.

وما قلناه في كثرة العدد نقوله في الأمور الأخرى.

فالإنسان مثلا لا يقاس بطول قامته، أو قوة عضلاته، أو ضخامة جسمه، أو جمال صورته، فهذه كلها خارجة عن جوهره وحقيقة إنسانيته، فما الجسم ـ في النهاية ـ إلا غلاف الإنسان ومطيته، أما حقيقة الإنسان فما هو إلا العقل والقلب.

وقد وصف الله تعالى المنافقين بقوله: (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم).

كما وصف عادا على لسان نبيه هود بقوله: (وزادكم في الخلق بسطة).

ولكن هذه البسطة في الخلق جعلتهم يغترون ويستكبرون كما قال تعالى: (فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة).

وفي الحديث الصحيح: "إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة، فلا يزن عند الله جناح بعوضة. اقرأوا إن شئتم: (فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا)".()

وصعد ابن مسعود يوما شجرة، فظهرت ساقاه، وكانتا دقيقتين نحيلتين، فضحك بعض الصحابة من ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتضحكون من دقة ساقيه؟ والذي نفسي بيده، لهما أثقل في الميزان من جبل أحد"

ليس المهم إذن ضخامة الجسم، إذا لم يكن يسكنه عقل ذكي، وفؤاد نقي، وقديما قال العرب: "ترى الفتيان كالنخل، وما يدريك ما الدخل".

وقال حسان بن ثابت يهجو قوما:

لا بأس بالقوم من طول ومن قصر

جسم البغال وأحلام العصافير!

ليس معنى هذا: أن الإسلام لا يقيم وزنا لصحة الجسم وقوته. كلا، فهو يهتم بذلك غاية الاهتمام، وقد مدح الله طالوت بقوله: (وزاده بسطة في العلم والجسم). وفي الصحيح: "إن لبدنك عليك حقا"، "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف"، ولكنه لا يجعلها معيار الفضل.

وكما أن ضخامة الجسم وقوته ليست هي مقياس الرجولة، ولا معيار الفضل في الإنسان، فكذلك جمال الوجه وحسن الصورة.

وفي الحديث: "إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم".

وقد مدح أحد الشعراء عبد الملك بن مروان بقوله:

يأتلق التاج فوق مفرقه

على جبين كأنه الذهب!

فلام الشاعر، لأنه مدحه بما يشبه مدح الغيد الحسان. وقال له: هلا قلت في ما قاله الشاعر في مصعب بن الزبير:

إنما مصعب شهاب من الله          تجلت بنوره الظلماء

حكمه حكم قوة ليس فيه            جبروت منه ولا كبرياء

أجل، إنما يقاس الرجال بما في رؤوسهم من علم، وما في قلوبهم من إيمان، وما يثمره الإيمان من عمل، على أن العمل في نظر الإسلام لا يقاس بحجمه ولا عدده، إنما يقاس بمدى إحسانه وإتقانه، وإحسان العمل في الإسلام ليس نافلة، بل هو فريضة كتبها الله على المؤمنين، كما كتب عليهم الصيام وغيره من الفرائض.

يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته".

والأصل في كلمة "كتب": أنها تفيد الوجوب والفرضية.

ويقول: "إن الله يحب من العامل إذا عمل أن يحسن".

فكما أن الله تعالى كتب الإحسان في العمل وأوجبه، فهو يحبه ويحب صاحبه.

بل إن القرآن لا يكتفي من المكلفين بعمل "الحسن"، بل يدعوهم إلى عمل "الأحسن" قال تعالى: (واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم).

(فبشر عباد، الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه)

بل القرآن يأمر بجدال المخالفين بالتي هي أحسن: (وجادلهم بالتي هي أحسن).

ويأمر بدفع السيئة بالتي هي أحسن: (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن).

وينهى عن قربان مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن: (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده).

بل جعل القرآن الغاية من خلق الأرض وما عليها، وخلق الموت والحياة، وخلق السموات والأرض وما بينهما: ابتلاء المكلفين: (أيهم أحسن عملا).

كما نطقت بذلك عدة آيات في كتاب الله: ()، فكأن التسابق بينهم ليس بين الحسن والسيئ، بل بين الحسن والأحسن. وينبغي أن يكون هم الإنسان المؤمن التطلع أبدا إلى الأحسن والأرفع، وفي الحديث: "إذا سألتم الله الجنة، فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن".

وفي حديث جبريل المشهور تفسير "الإحسان" حين سأل عنه جبريل فقال النبي عليه الصلاة والسلام: "الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".

وهذا تفسير لمعنى الإحسان في العبادة، وأنه يعني المراقبة والإخلاص لله تعالى، فالأعمال المقبولة عند الله تعالى لا ينظر إلى صورتها ولا إلى كمها، بل إلى جوهرها وكيفها، فكم من عمل مستوف لظاهر الشكل، ولكنه فاقد للروح الذي يهبه الحياة، ولذا لا يعتد به الدين، ولا يضعه في ميزان القبول.

يقول الله تعالى: (فويل للمصلين، الذين هم عن صلاتهم ساهون، الذين هم يراءون).

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم في شأن الصوم: "من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حجة في أن يدع طعامه وشرابه"، ويقول: "رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس من قيامه إلا السهر".

يقول تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء)، ويقول الرسول الكريم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه".

ولهذا عنى علماء الإسلام بهذا الحديث، وبدأ به البخاري جامعه الصحيح، واعتبره بعضهم ربع الإسلام، وبعضهم ثلث الإسلام، لما للنية من أهمية في قبول الأعمال، واعتبروه ميزانا لباطن الأعمال، كما أن حديث: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" ـ أي مردود على صاحبه ـ يعتبر ميزانا لظاهر العمل.

وسئل أبو علي الفضيل بن عياض عن "أحسن العمل" في قوله تعالى: (أيكم أحسن عملا) فقال: أحسن العمل: أخلصه وأصوبه، قيل له: ما أخلصه وما أصوبه؟ فقال: إن الله لا يقبل العمل ما لم يكن خالصا صوابا، فإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، وإذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وخلوصه: أن يكون لله، وصوابه: أن يكون على السنة.

وهذا معنى أحسن العمل في أمر الدين والتعبد، وأما الإحسان في أمر الدنيا، فهو الوصول به إلى درجة الجودة التي ينافس فيها غيره، بل يتفوق عليه، فلا مجال في الحياة إلا للمتقنين.

ومن الأحاديث النبوية التي لها دلالة في هذا المقام: ما رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة مرفوعا: "من قتل وزغا في أول ضربة كتبت له مائة حسنة، وفي الثانية دون ذلك، وفي الثالثة دون ذلك".

فالحديث يرشد إلى أهمية إتقان العمل وحسن أدائه، ولو كان في أمر صغير كقتل الوزغة (ما يسميه العامة: البرص)، فهذا من إحسان القتل: "فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة". وفي القتل السريع إراحة للمقتول أيا كان.

فقه الأولويات علم في كتب تراث الأمة الإسلامية، من كتب الفقه والأصول والعقائد:

فقه هو ما يعرف بفقه مراتب الأعمال ، حيث يتعلم منه المسلم أن للأعمال مراتب متباينة ومتفاضلة في أهميتها وفي ثوابها وفضلها، وأن لكل عمل وقتاً معيناً، وأولوية متقدمة على غيرها. إنه إعادة لترتيب عقل المسلم وصياغته فيدرك من خلاله أن فقه الأولويات هو: مراعاة النسب بين الأعمال والتكاليف الشرعية.

إن الإخلال بفقه الأولويات يحدث ضرراً بليغاً بالدين والحياة. فإن العقيدة في الإسلام مقدمة على العمل، والأعمال متفاوتة تفاوتاً بعيداً، وهي تتفاضل عند الله سبحانه، وليست على درجة واحدة، فالنافلة لا يجوز تقديمها على الفريضة وفرض العين مقدم على فرض الكفاية. وأيضاً مما ينبغي أن نعرفه من فقه الأولويات تلك القضايا والأمور التي هي أولى بالإهتمام فتُعطى من الجهد والوقت أكثر مما يُعطى غيرها، وأن نعرف أولى الأعداء، لكي نوجه قوانا نحوه ونحذره ونحذّر منه أكثر من غيره، وأي المعارك أولى بالبدء من غيرها؟.

وقد أجاب ابن القيم رحمه الله تعالى في مدراج السالكين عن أي العبادات أفضل: هل الأفضل منها: الأشق؟ أو الأفضل: المتعدية النفع؟ ثم رجّح رحمه الله أنه لا يوجد أفضل بإطلاق، وإنما لكل وقت عبادة تكون هي الأفضل بالنسبة له.

ولا ننسى وصيته صلى الله عليه وسلم عندما رتّب أولويات الإنفاق فقال "وابدأ بمن تعول" رواه البخاري.

وكذلك عندما قص علينا صلى الله عليه وسلم أوضح مثال لعاقبة عدم ترتيب الأولويات بما حدث لجريج العابد عندما قدّم الأولوية لعمل صالح مرجوح على عمل صالح آخر أرجح، حيث قدم الاستمرار في صلاته ولم يلبّ نداء أمه ثلاثاً فأغضبها ودعت عليه دعوة استجاب الله لها فيها، وهي أن لا تموت حتى يرى وجوه المومسات، فاتهمته إحدى البغايا بالزنا والفجور ولكن الحق سبحانه وتعالى أنجاه بتوبته وصلاحه.

إن الداعية في هذا الزمان أولى الناس بامتلاك تلك العقلية المرتبة، فيعرف حق الوقت ويفقه الأولويات ويربأ بنفسه أن يكون تعامله مع القضايا تعاملاً مختلاً، مثل ذلك السفيه الذي استجار به غريق فاشترط أولاً أن يستر هذا الغريق المسكين عورته حتى ينقذه.

إن مدخل تحديد "الأولويات" في عصرنا هذا قد استعمل من قبل قوى الشر والضغط على الأمم الضعيفة كأخطر المداخل وأشدها فتكاً. فالنظام العالمي المعاصر والمنظمات الدولية المنبثقة عنه والدائرة في فلكه قد استخدمت مدخل "الأولويات" كأخطر سلاح في هذا العصر وأفتكه، بل لقد حقق هذا المدخل لتلك القوى من انفجارات ما عجزت عن تحقيق مثله الجيوش والأسلحة الفتاكة فكم من شعب أقنع بالحق أو بالباطل بأن أولويته التصنيع فترك الزراعة وأهمل الأرض واتجه نحو التصنيع أو التجميع فإذا به بعد فترة من الزمن يجد نفسه عالة على الآخرين يتكففهم لقمة العيش. وكم من أمة أقنعت بأن أولويتها أن تزرع محصولاً معينا فاتجهت وراء وسوسة من سول لها ذلك فوجدت نفسها بعد فترة على حافة هلكة من المجاعة والفقر. ونظرة إلى البلدان الإسلامية كفيلة بإقناعنا بما يحدث.

وقد اختلفت أنظار العلماء في تفسير هذا التباين في أجوبته صلى الله عليه وسلم وتعليل هذا التفاضل. هل يرجع إلى طبيعة العبادة أم يرجع إلى مقصدها؟ وممن أطال مناقشة هذا الموضوع، ابن القيم رحمه الله في كتابه مدارج السالكين. فذكر أن أهل مقام "إياك نعبد"، لهم في أفضل العبادات أربع طرق:

- الصنف الأول: عندهم أنفع العبادات وأفضلها، أثقلها على النفوس وأصعبها.. قالوا الأجر على قدر المشقة. ورووا حديثاً لا أصل له" أفضل الأعمال أحمرها" أي أصعبها وأشقها.

- الصنف الثاني: قالوا: أفضل العبادات التجرد والزهد في الدنيا والتقلل منها غاية الإمكان.

- الصنف الثالث: رأوا أن أنفع العبادات وافضلها ما كان فيه نفع متعد فرأوه أفضل من ذي النفع القاصر.

- الصنف الرابع: قالوا إن أفضل العبادة، العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت.

فأفضل العبادات في وقت الجهاد، الجهاد، وإن آل إلى تركه الأوراد من صلاة الليل وصيام النهار... والأفضل في وقت حضور الضيف.. القيام بحقه والاشتغال به عن الورد المستحب.. والأفضل في أوقات السحر الاشتغال بالصلاة والقرآن والدعاء والذكر والاستغفار.. والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة.. الاشتغال بمساعدته.. فالأفضل في كل وقت وحال إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال. والاشتغال بواجب ذلك الوقت.. وهؤلاء هم أهل التعبد المطلق والإنصاف قبلهم هم أهل التعبد المقيد. فمتى خرج أحدهم عن النوع الذي تعلق به من العبادة وفارقه، يرى نفسه كأنه قد نقص وترك عبادته. فهو يعبد الله على وجه واحد. وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبد بعينه يؤثره على غيره، بل لا يزال متنقلاً في منازل العبودية كلما رفعت له منزلة عمل على سيرة إليها واشتغل بها".

وهذا هو السر في اختلاف أجوبة الرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان يراعي في كل جواب حال السائل، فيرشده إلى الأولى في حقه.

قال ابن حجر في الفتح: "قال العلماء اختلاف الأجوبة في ذلك باختلاف الأحوال واحتياج المخاطبين".

"والأفضل يتنوع بتنوع الناس.. فمن الأعمال ما يكون جنسه أفضل ثم يكون تارة مرجوحاً أو منهياً عنه.. وقد يكون شخص يصلح دينه على العمل المفضول دون الأفضل فيكون أفضل في حقه. كما أن الحج في حق النساء أفضل من الجهاد، ومن الناس من تكون القراءة أنفع له من الصلاة. ومنهم من يكون الذكر أنفع له من القراءة.. والشخص الواحد يكون تارة هذا أفضل له وتارة هذا أفضل له. ومعرفة حال كل شخص وبيان الأفضل له،لا يكون ذكره في كتاب بل لابد من هداية يهدي الله بها عبده إلى ما هو أصلح. وما صدق الله عبداً إلا صنع له".

وإذا تبين أن إرشاد الرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بعض أفضل الأعمال - جواباً عن أسئلة السائلين - كان يراعي فيه حال كل شخص فإنه لا ينبغي المغالاة في عبادة معينة واعتبارها أولى من غيرها احتجاجاً بأن الرسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيها: إنها أفضل الأعمال أو إنها أحب الأعمال إلى الله.. والحال أن هذه الأفضلية كانت شخصية وظرفية فكثير من الأعمال الفاضلة تصبح لظروف معينة مفضولة - كما قرر ابن تيمية في النص السابق - كما أن العمل المفضول قد يقترن به ما يجعله فاضلاً. إلا أن هذا التغيير في قيمة العمل بناء على الظرف وعلى الحاجة إليه، لا يعني أن الأعمال الشرعية لا تتفاضل. فالتفاضل ثابت. فقط أريد التنبيه إلى أن الأحاديث النبوية ذات الطابع الخاص والتي راعت ظروفاً معينة لشخص معين أو لواقع معين لا ينبغي أن تُجعل نصوصاً عامة. فيعتبر المسلم ما قررته من أفضل الأعمال لظرفية معينة هو الإيمان كله.

وفيما عدا الأحاديث ذات الطابع الخاص يبقى ما تقرره الأحاديث العامة من التفاضل ثابتاً كما قلت. وقد أوردت أمثلة كثيرة لتفاضل العبادات منها:

1 - جنس الجهاد أفضل من الحج.

2 - جنس الصدقة أفضل من الصيام.

3 - جنس تلاوة القرآن أفضل من جنس الذكر.

4 - جنس الذكر أفضل من جنس الدعاء.

5 - جنس الصلاة أفضل من قراءة القرآن.

6 - جنس الحسنات أنفع من جنس السيئات.

إلا أن هذا التفاضل ليس ثابتا.

إذ يمكن أن يتغير فيصبح الفاضل مفضولاً أو العكس. إما لظروف زمانية أو مكانية أو شخصية. وقد أورد ابن تيمية أمثلة كثيرة لهذا التغير.

فمثلاً في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها تكون القراءة والذكر أفضل من الصلاة. وفي الأماكن المنهي عن الصلاة فيها كالحمام والمقبرة يكون الذكر والدعاء أفضل. كما أن الذكر في حق الجنب أفضل من القراءة. والقراءة والذكر في حق المحدث أفضل من الصلاة. ثم إن كان العمل الفاضل يؤدي إلى مفسدة، فالمفضول يكون افضل. وما شرع له وقت معين يكون أفضل، كترديد قول المؤذن عند الأذان فإنه أفضل من القراءة.. وهكذا. فليس كل فاضل يكون فاضلاً دائماً وليس كل مفضول يكون مفضولاً دائماً كما أنه"ليس كل ما كان أفضل يشرع لكل أحد. بل كل واحد يشرع له أن يفعل ما هو أفضل له.

المبحث الثالث

ضوابط تحديد الأولويات في ضوء واقعنا المعاصر

إن تحديدَ مراتب الأعمال واختيارَ الأَولى أمرٌ ليس بالهيِّن، بل هو وظيفة العلماء من هذه الأمة، من هنا كان لتحديد ذلك ضوابط لا ينبغي أن يتجاهلها من ينظر في الأدلة، ويعمد إلى تحديد المراتب والأولويات؛ ليقوم فيها بالواجب. فنذكر من هذه الضوابط ما يلي:

1- الاعتماد على المصادر الأصيلة في الاستدلال والتلقي:

لقد بُليت الأمة الإسلامية بألوان من التفرق والاختلاف، وأصابها ما أصابها من الانحراف والبعد عن دين الله عز وجل، ولم يسلم من ذلك بعض الدعاة والمصلحين؛ حيث راح بعضهم يُشرق وبعضهم يغرب، ويتقلب في متاهات علمية وعملية، بلا ضابط علمي أو منهجي، وأصبحت الأولويات الدعوية تحدد في كثير من الأحيان بناء على الاجتهادات والأهواء الشخصية، أو بناء على تجارب ورؤى قاصرة ضيقة الأفق، فرأينا من يقدم ما حقه التأخير، ويؤخر ما حقه التقديم، ولا مخرج للأمة من هذه الكبوة إلا بالعودة الصادقة إلى المصادر الأصيلة للاستدلال والتلقي، وهي الكتاب والسُّنة، أو ما دل عليه الكتاب والسُّنة كالإجماع والقياس ونحوهما، ومن ثم تحدد الأولويات الدعوية، بالرجوع إلى هذه المنابع الكريمة التي لم تكدرها شوائب البدع والضلالات والأهواء.

قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾()، وقال سبحانه وتعالى: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ﴾().

2- النظرة الشمولية للإسلام:

إن من فضل الله عز وجل على أمة الإسلام أن جعل هذا الدين دينًا شاملًا لجميع شؤون الحياة، ولا يجوز بحال قصر الدين على شعبة من شعبه وإهمال شعبة الأخرى؛ ولذا قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ﴾()

يقول ابن كثير رحمه الله: "يقول الله سبحانه وتعالى آمرًا عباده المؤمنين به، المصدقين برسوله، أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه، والعمل بجميع أوامره، وترك جميع زواجره ما استطاعوا من ذلك".

ومن الأخطاء التي تُرتكب :

أ‌- وضع الجزئيات في موضع الكليات، والاشتغال بها على حساب الكليات؛ فمن الناس من لا يعرف من الإسلام  علمًا وعملًا ودعوة  إلا مجموعة من الفروع، مع إهمال مفرط لأصول الدِّين وأركانه..!

ب‌- التهوين من شأن السنن، بل والواجبات أحيانًا؛ بحجة أنها من الجزئيات الفرعية التي لا ينبغي الانشغال بها، وإهدار الوقت في تحصيلها..! وكلا هذين الأمرين خطأ بلا شك؛ فكل ما ثبت في الشرع فحقه التقدير، ووضعه في مكانه اللائق به شرعًا؛ فكما أنه لا يجوز الاشتغال بالجزئيات على حساب الكليات، أو تقديم التحسينيات على الحاجيات أو الضروريات، فكذلك لا يجوز الإعراض عن الجزئيات استخفافًا بها، أو تهوينًا من قدرها؛ فإن في ذلك قدحًا في الشارع الحكيم الذي سنَّها وحثَّ على فعلها. والتوازن مطلوب في إعطاء النُّصوص حقها علمًا وعملًا ودعوة.

ومن الشواهد المفيدة التي تدل على عظيم فقه الصحابة رضي الله عنهم ورسوخهم في العلم والعمل: أن الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان ينتظر أخبار فتوح الشام، فقدم عليه عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه يبشره بفتح الشام، وعليه خفان غليظان، فنظر إليهما عمر، فقال: "كم لك منذ لم تنزعهما؟ فقال عقبة: لبستهما يوم الجمعة، واليوم يوم الجمعة ثمان، فقال: أصبت السُّنة".

فحِرص عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أخبار الجهاد في سبيل الله عز وجل وفتح الديار، لم يمنعه من سؤال عقبة عن مسألة علمية ربما يتهاون في شأنها بعض الناس...!.

3- تقديم ما قدَّمه الشارع الحكيم:

فمن الأصول العقدية وجوب تقديم ما قدمه الشارع الحكيم علمًا وعملًا، وإعطاء كل أمر شرعي حقه من التعظيم والإجلال.

فالدعوة إلى توحيد الله عز وجل وإفراده بالعبادة، ونبذ الشرك والبراءة منه ومن أهله، هي المنطلق والأساس الذي بدأ به جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام دعوتهم، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾().

ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا رضي الله عنه إلى اليمن قال له: "إنك ستأتي قومًا أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجابٌ".

فبدأ بالدعوة إلى التوحيد الذي هو أول واجب على العبد ثم ثنَّى بعد ذلك بالدعوة إلى بقية الأركان، "وفيه دليل على أن التوحيد الذي هو إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، وترك عبادة ما سواه هو أول واجب؛ فلهذا كان أول ما دعت إليه الرسل كما قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾().

إن الشرك والخرافات والبدع والضلالات تنتشر في العالم الإسلامي اليوم انتشارًا عظيمًا، حتى أصبح التوحيد الخالص غريبًا في كثير من الديار؛ ولهذا كان الواجب على العلماء والدعاة والمؤسسات الإسلامية أن يتصدروا الدعوة إلى الإيمان والتوحيد علمًا وعملًا، وتقديم ذلك على كل معروف، وأن يحذروا من الشرك وأهله، قديمه وحديثه، ويجعلوا ذلك مقدمًا على التحذير من كل منكر؛ فصلاح التوحيد سبب لكل صلاح بإذن الله عز وجل، كما أن الشرك سبب لكل فساد.

ومع تفوق الحضارة الغربية المادية المعاصرة واغترارها بتفوقها الصناعي غزت العالم كله المذاهب الإلحادية والمبادئ المادية التي كفرت بالله سبحانه وتعالى، وراحت تقدس الأهواء وتعبد المادة وتنفلت من قيود الفضيلة، ومسخت هذه المذاهب الكفرية بعض العقول المريضة في العالم الإسلامي التي انسلخت من دينها وهويتها، وسقطت مسلوبة القوى تحت أعتاب الغرب. ويحزن المرء أشد الحزن عندما يرى بعض المؤسسات أو المراكز الإسلامية أو الدعاة يقصرون في الدعوة إلى التوحيد الخالص، ويفرطون في الرد على التيارات الإلحادية المعاصرة، ويشتغلون في المفضول على حساب الفاضل، وهذا بلا شك من نقص العلم وقلة الفقه في دين الله سبحانه وتعالى.

4- معالجة حاجات البيئة:

تختلف البيئات من حيث احتياجاتها الدعوية، ومن حيث الانحرافات السائدة فيها، ولهذا يجب أن تحدد الأولويات الدعوية التي تتصدر لها المؤسسات والمراكز الإسلامية بناءً على حاجات كل بيئة.

فما يجب تقديمه في البيئة العربية قد يختلف عن البيئة في أوروبا الشرقية أو الغربية أو أفريقيا... وهكذا.

نعم هناك قواسم مشتركة بين جميع البيئات يجب مراعاتها، ولكن هناك اختلافات لا ينبغي إغفالها، وهذا يؤكد ضرورة إدراك بيئة العمل التي تتحرك فيها المؤسسة أو الداعية، والفقه الدقيق في واقع الناس واحتياجاتهم؛ ولهذا كانت وصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حيث بعثه إلى اليمن: "إنك ستأتي قومًا أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله...".

فبصَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالواقع الذي سيبلغ فيه دين الله عز وجل؛ ليكون على بينة من أمره.

ولهذا قال ابن حجر: "قوله: "ستأتي قومًا أهل كتاب" هي كالتوطئة للوصية ليستجمع همته عليها؛ لكون أهل الكتاب أهل علم في الجملة، فلا تكون العناية في مخاطبتهم كمخاطبة الجهال من عبدة الأوثان".

فتوافر المعلومات الصحيحة هو محور أساس لسلامة التصور واستقامة التخطيط ولهذا لا بد من حرص الدعاة والمؤسسات الإسلامية على توفير المعلومات الصحيحة عن بيئة العمل والبرامج المنفذة والمستجدات الحادثة.. ونحوها، ثم يتم تبادل هذه المعلومات وتوظيفها التوظيف الأمثل.

5- تقديم العناية بالأعمال التي يبنى عليها غيرها:

إن من دلائل الحكمة والرشد والفقه في دين الله عز وجل، تقديم العناية بالأعمال والبرامج التي تبنى عليها أعمال كثيرة، ولا يحسن قيامها إلا بإتقانها وإحكامها، والأمثلة التي توضح هذا كثيرة جدًا؛ نذكر منها ما يأتي:

أ- العناية بالبناء المؤسسي المحكم:

إن البرامج والأنشطة الدعوية المختلفة تحتاج إلى تخطيط وتنظيم، كما تحتاج إلى متابعة دائمة وتقويم مستمر من شتى النواحي المنهجية والعلمية الإدارية والمالية... وهكذا.

فإذا كان البناء المؤسسي محكمًا باستيفاء جميع الآليات والأدوات العلمية؛ كانت إدارة جميع البرامج والأنشطة - بإذن الله - محكمة، أما إذا كان البناء المؤسسي ضعيفًا فإن إدارة البرامج والأنشطة ستكون في الغالب ضعيفة.

ب- العناية بإعداد الدعاة:

فلا يخفى أن لإعداد الدعاة أهمية كبيرة جدًا في النجاح الدعوي؛ فالداعية هو عماد العملية الدعوية، وبناؤه المحكم هو البداية الصحيحة لعمل سليم متين، ومهما صح المنهج وتوافرت الإمكانات المادية فإنه لا مضاء للدعوة نحو الأمام ما لم يعط بناء الدعاة أولوية مطلقة.

وهناك أصول علمية ودعوية عامة يحتاجها جميع الدعاة لا يصح التقصير فيها، وهناك أصول خاصة يحتاج إليها الداعية تختلف باختلاف التخصص وباختلاف البيئة التي ينشط فيها الداعية، فالداعية الذي يخاطب الخاصة يختلف عن الداعية الذي يخاطب العامة، والداعية الذي يخاطب المسلمين يختلف عن الداعية الذي يخاطب النصارى أو الوثنيين، والداعية الذي يعمل في وسط الصوفية الغلاة المتعصبة يختلف عن الداعية الذي يعمل في أوساط أخرى... وهكذا.

ولهذا فإن العناية بإعداد الدعاة وصقل قدراتهم وتدريبهم كل ذلك من الأوليات المهمة التي تفتح أبوابًا من الخير كثيرة جدًا.

ج- العناية بالعلم الشرعي:

فالعلم هو الطريق الصحيح للبصيرة والفقه في دين الله عز وجل، وعليه تبنى كل الأعمال والأنشطة؛ فكلما رسخ العلم استقام العبد على جادة الصراط المستقيم، وسلم من الزيغ والانحراف.

فالعلم مقدَّم على كل عمل، ولهذا قال الإمام البخاري في كتاب العلم من صحيح: "باب العلم قبل القول والعمل" لقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ﴾() .

والعلم هو طريق الإيمان بالله عز وجل، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ ﴾() [الحج: 54]؛ فالعلم يبني الإيمان، والإيمان يبني الإخبات، ولهذا رفع الله عز وجل أقدار العلماء وفضلهم على غيرهم. قال الله سبحانه وتعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾() .

ومن الظواهر اللافتة للنظر في حقل العمل الإسلامي تقصير كثير من المؤسسات الإسلامية في نشر العلم الشرعي؛ مما أدى إلى خلل عريض وشرخ واسع في كثير من الأنشطة والبرامج، وأولى الناس بالعلم والفقه في دين الله عز وجل هم الدعاة والمصلحون؛ لأنهم حملة رسالة عظيمة، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾().

6- تقديم الأعمال ذات النفع المتعدي إلى الآخرين على النفع الخاص:

من تمام الفقه والبصيرة في دين الله عز وجل تقديم الأعمال ذات النفع المتعدي على الأعمال ذات النفع الخاص؛ لأن فوائدها أكثر نفعًا للناس؛ فالذي يتقرب إلى الله تعالى بالعبادة الخاصة مأجور إن شاء الله؛ لكن الذي يتقرب إلى الله عز وجل بالجهاد في سبيل الله عز وجل والسعي في حاجات الناس أفضل عند الله عز وجل، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾().

فسقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام من أعمال البرِّ المحمودة؛ لكن الإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيل الله أعظم درجة عند الله عز وجل لأن نفعها أعظم للأمة.

7- مراعاة قدرات الأشخاص:

تختلف قدرات الناس وملكاتهم باختلاف أشخاصهم؛ فما يصلح لبعضهم قد لا يصلح للآخرين؛ ولهذا كان من الفقه أن يقدم المرء ما يستطيع أن يبدع فيه وينفع به الأمة على الأعمال الأخرى التي نفعه فيها أقل. فمن وهبه الله عز وجل قوة في الفهم والحفظ وقوة في العقل والبصيرة فالمقدم في حقِّه طلب العلم.

قال الإمام ابن القيم: "إن العلم إمام العمل وقائد له، والعمل تابع له ومؤتم به؛ فكل عمل لا يكون خلف العلم مقتديًا به فهو غير نافع لصاحبه بل مضرة عليه".

ومن وهبه الله عز وجل شجاعة وقوة في القلب؛ فالمقدَّم في حقه الجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... وهكذا بقية الأعمال، وبهذا يحدث التآلف والتكامل بين أعمال الناس.

ولهذا تنوعت إجابات الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه عندما كان يُسأل عن أفضل الأعمال، وفسَّر الحافظ ابن حجر سبب ذلك بقوله: "اختلف لاختلاف أحوال السائلين؛ بأن أعلم صلى الله عليه وسلم كل قوم بما يحتاجون إليه، أو بما لهم فيه رغبة، أو بما هو لائق بهم، أو كان الاختلاف باختلاف الأوقات بأن يكون العمل في ذلك الوقت أفضل منه في غيره".

ويحسن التنبيه هنا على خللين يقع فيهما بعض الناس:

الأول: أن بعض المربِّين يريد أن يربِّي تلاميذه على هيئة رجل واحد دون مراعاة للقدرات والميول الفردية؛ مما يؤدي إلى ضعف ظاهر في التربية.

الثاني: أن بعض الدعاة قد يضخِّم من أهمية العمل الذي يقوم به بسبب استعراضه فيه وحرصه عليه، وقد يؤدي ذلك أحيانًا إلى ازدراء الأعمال والتخصصات الأخرى والتهوين من شأنها، دون نظر فقهي وبصر علمي، وربما يكون بعض تلك الأعمال المهوَّن من شأنها أولى من العمل الذي يقوم به!! والواجب أن يعطي كل عمل ما يستحقه، وكل عامل ما يتقنه ليحدث التكامل بين العاملين والأعمال.

وقد كان الإمام مالك فقيهًا فطنًا، فعندما كتب إليه عبد الله العمري يحضه على الانفراد والعمل، ردَّ عليه قائلًا: "إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فربَّ رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له بالصوم، وآخر فتح له بالصدقة ولم يفتح له بالصوم، وآخر فتح له في الجهاد، فنشر العلم من أفضل أعمال البرِّ، وقد رضيت بما فتح لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير".

8- الإعراض عن المسائل التي لا ينبني عليها عمل جاد:

الاشتغال بالمسائل النظرية التي لا ينبني عليها عمل جاد سبيل من سبل البطالين العجزة الذين يهدرون أوقاتهم وأوقات مؤسساتهم فيما لا نفع فيه للأمة، وكثيرًا ما رأينا من يهدر أوقاته في قيل وقال، وجدل عقيم لا فائدة من ورائه على الإطلاق.

قال الإمام الشاطبي: "كل مسألة لا ينبني عليها عمل، فالخوض فيها خوض فيها لم يدل على استحسانه دليل شرعي، وأعني بالعمل: عمل القلب وعمل الجوارح من حيث هو مطلوب شرعًا؛ والدليل على ذلك استقراء الشريعة؛ فإنا رأينا الشارع يعرض عما لا يفيد عملًا مكلفًا به؛ ففي القرآن الكريم ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ﴾()، فوقع الجواب بما يتعلَّق به العمل، إعراضًا عما قصده السائل من السؤال عن الهلال....". ثم قال رحمه الله: "... ومنها أن الشرع قد جاء ببيان ما تصلح به أحوال العبد في الدنيا والآخرة على أتم الوجوه وأكملها؛ فما خرج عن ذلك قد يظن أنه على خلاف ذلك، وهو مشاهد في التجربة العادية، فإن عامة المشتغلين بالعلوم التي لا تتعلق بها ثمرة تكليفية تدخل عليهم فيها الفتنة والخروج عن الصراط المستقيم، ويثور بينهم الخلاف والنزاع المؤدي على التقاطع والتدابر والتعصب، حتى تفرقوا شيعًا، وإذا فعلوا ذلك خرجوا عن السُّنة، ولم يكن أصل التفرق إلا بهذا السبب؛ حيث تركوا الاقتصار من العلم على ما يعني، وخرجوا إلى ما لا يعني؛ فذلك فتنة على المتعلم والعالم. وإعراض الشارع مع حصول السؤال عن الجواب؛ من أوضح الأدلة على أن اتِّباع مثله من العلم فتنة أو تعطيل للزمان في غير تحصيل" .

المطلب الأول

الخلل في ترتيب الموازنات والأولويات في واقعنا المعاصر

في مجالات شتى.. عقدية، وتربوية، واجتماعية، ودعوية، وجهادية، بل وفقهية.

أمثلة على:

الخلل في الموازنات وترتيب الأولويات في واقعنا المعاصر

تقديم الدنيا على الآخرة وأمور الدين

ترتيب الأوامر والمنهيات

في أعمال القلوب وأعمال الجوارح

ترتيب منازل الخصوم والأعداء

الخلل في الموازنات وترتيب الأولويات في واقعنا المعاصر

يتميز عصرنا الحاضر بكثرة مشكلاته وهمومه ونوازله، وكثرة الواردات على التفكير من أمور وقضايا بعضها أهم من بعض، وبعضها يعارض بعضا. وتتزاحم الواردات على الفكر حتى لا يدري صاحب التفكير بأيها يبدأ، ولا أيها يترك عند التزاحم.

ولذلك يقع كثير من الناس في الخلل الفكري والعملي في ترتيب هذه الأولويات فيقدم الأقل أهمية على المهم، والمهم على الأهم ويقدم الصغير التافه على الكبير الخطير؛ مما ينشأ عنه فوات مصالح كبيرة أو الوقوع في مفاسد كبيرة.

مجمل قواعد التعارض بين المصالح والمفاسد

وقد قعّد أهل العلم قواعد عظيمة مستنبطة من الكتاب والسنة يتم بها ترتيب الأولويات، وذلك عند تعارض المصالح بعضها مع بعض أو عند تعارض المفاسد، أو تعارض المصالح مع المفاسد. وإذا تعارضت مصلحتان بأيهما يبدأ ويهتم، فإنه ينظر إلى أيهما يغلب على الظن تحققه منهما فيأخذ بالغالب، ويترك المتوهم؛ فإن تساويتا في درجة تحققهما فإنه ينظر إلى أيهما أعظم خيرا ومصلحة فيقدم المصلحة العظمى على الأقل منهما، وكذلك الحال في تعارض مفسدتين يخشى من الوقوع فيهما فإنه ينظر إلى أيهما يغلب على الظن وقوعها فتدفع.

وإن تساويتا في تحقق وقوعهما فإن المتعين حينئذ ارتكاب أهون المفسدتين لدفع أعظمهما.

فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير، ولا دفع أخف الضررين بتحصيل أعظم الضررين؛ فإن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان.

ومطلوبُها ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا جميعا ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعا.

ثم يضرب لهذه القاعدة مثالا فيقول:

فإذا لم يمكن منع المُظهر للبدعة والفجور إلا بضرر زائد على ضرر إمامته لم يجز ذلك؛ بل يصلى خلفه ما لا يمكنه فعلها إلا خلفه؛ كالجمع والأعياد والجماعة إذا لم يكن هناك إمام غيره.

ولهذا كان الصحابة يصلون خلف الحجاج، والمختار بن أبي عبيد الثقفي وغيرهما الجمعة والجماعة، فإن تفويت الجمعة والجماعة أعظم فسادا من الاقتداء فيهما بإمام فاجر، لا سيما إذا كان التخلف عنهما لا يدفع فجوره فيبقى ترك المصلحة الشرعية بدون دفع تلك المفسدة.

ينبغي أن يجلس كل واحد منا مع نفسه يفكر بما يعتقد أنه في مقدمة الأمور المهمة في حياته ـ وبالنسبة للمسلم فإن أهم شيء في حياته دينُه ورضا ربه سبحانه ـ لكن لو سأل الواحد منا نفسه بعد ذلك: هل أعطى هذه الأمور التي هي أهم شيء في حياته الاهتمام والوقت اللازمين أم أنه أعطى ما دون ذلك الاهتمام والوقت؟

إننا وللأسف نلحظ فجوة واسعة بين ما نعتقد أنه هو المهم في حياتنا وبين الأمور التي نعطيها فعلا اهتمامنا وأوقاتنا ولتوضيح هذا الكلام أضرب لذلك الأمثلة التالية:

*المثال الأول:

تقديم الدنيا على الآخرة وأمور الدين

لقد خلقنا الله عز وجل لغاية عظيمة: لنعبده ونوحده، ثم يميتنا، ثم يبعثنا ليوم الجزاء والحساب. ومن رحمته سبحانه أن سخر لنا ما في الأرض جميعا لنستعين به على عبادته سبحانه، وإقامة دينه في الأرض. ومع هذا فقد انعكس الأمر عند أكثر الخلق، ولم يسلم منه كثير من المسلمين..

فبدلا من أن تكون الدنيا خادمة ومملوكة في سبيل عبادة الله عز وجل، أصبحت مالكة مخدومة، ولو تعارضت مع الدين قُدمت عند كثير من الناس على عبادة الله عزوجل ومرضاته، وبذلك تنقلب الأولويات، لتصبح الغاية وسيلة والوسيلة غاية.

وإذا أردنا أن نختبر أنفسنا لنكتشف أهم الأمور التي تشغل تفكيرنا فلنسأل أنفسنا عن الأمور التي تحتل مكان الأولوية في اهتمامنا وتفكيرنا وما ترتيبها في سلم الأولويات.

وعندئذ سيظهر التفاوت بين الناس، ويعرف كل شخص أهم الأولويات في تفكيره ـ سواء كانت خطأ أو صوابا ـ وعند الامتحان يُكرم المرء أو يهان؛ فمن الناس من يسيطر على فكره واهتمامه توافهُ الأمور من هذه الدنيا الفانية غافلا عن عظائم الأمور في دينه وآخرته.

وذلك كمن يسيطر على فكره منزله الجديد وما يحتاج إليه من أنواع الزخارف والألوان والكماليات، وغيرها من التوافه التي تشغل فكره وتقوم وتقعد معه في اليوم والليلة غافلا عن مصاب المسلمين وجراحاتهم في كل مكان، غافلا عن الموت والاستعداد للرحيل.

*المثال الثاني:

في تربية الأولاد

إن تربية الأولاد تربية إسلامية يدركون من خلالها لماذا خُلقوا فيعبدون ربهم ويستعدون ليوم رحيلهم ويتخلقون بالأخلاق الإسلامية الرفيعة ويجاهدون في سبيل الله عز وجل مهمة عظيمة.

وإن هذه المهمة لمن أهم المهمات وأوجبها على الآباء، ولكن كثيرا منا اليوم قد غفلوا عن هذه المهام العظيمة والتفكير فيها، وقدموا عليها ما هو أقل منها كالانشغال بالعمل والوظيفة والتجارة والانتدابات؛ فآثروها على جلوسهم مع أولادهم ليسمعوا منهم ويؤدبوهم ويربوهم.

ومن ذلك تقديم الانشغال في التفكير بدراسة الأولاد وطعامهم ولباسهم وصحتهم ـ مع أهميتها ـ على التفكير في دينهم وأخلاقهم وتربيتهم التربية الإسلامية التي تجلب لهم السعادة في الدنيا والآخرة.

*المثال الثالث:

في باب بر الوالديْن

بر الوالدين وخدمتهم واجب شرعي لا يقدّم عليه إلا ما هو أوجب منه..

ومع ذلك نجد الكثير منا من يقدم بعض النوافل على طاعة الوالدين، أو ينشغل بأصدقائه أو ببعض جوانب الدعوة الكفائية عن خدمة والديه وإرضائهما. بل قد يقدم بعض التوافه من المباحات على هذا الواجب العظيم.

*المثال الرابع:

في الصلاة المكتوبة والنافلة

في أداء الصلاة المكتوبة، أو النافلة نجد الكثير منا ينصرف بفكره عن عبادته العظيمة التي يناجي فيها ربه، ويشغل فكره بأمور الدنيا التي لا تساوي شيئا عند تدبر الصلاة وأذكارها.

ولذلك ـ والله أعلم ـ شرع لنا في الصلاة أن نقول «الله أكبر» بين كل ركن وآخر حتى ينتبه الشارد ويرجع الفكر إلى الأمر المهم، وكأنه يقول: الله أهم وأعظم وأكبر مما يشرد إليه الذهن وينشغل به الفكر عن صلاته.

*المثال الخامس:

عيوب النفس وعيوب الآخرين

الانشغال عن النفس وإصلاحها ومحاسبتها والتفكير في عيوبها وآفاتها بالانشغال بالناس وعيوبهم.

*المثال السادس:

ترتيب الأوامر والمنهيات

الخلل في ترتيب الاهتمام بالأوامر والمنهيات حيث نجد من يعطي اهتمامه وأولوياته في النوافل من العبادات على حساب الفرائض والواجبات أو يتورع ويسأل عن صغائر الذنوب والمكروهات مع تلبسه ببعض الكبائر من الذنوب.

كمن سأل ابن عمر رضي الله عنهما ـ من أهل العراق ـ عن نجاسة دم البعوض فقال لهم: «ما أسألَكم عن الصغيرة وأجرأكم على الكبيرة ، تقتلون الحسين ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسألون عن دم البعوضة!!».

ومثل ذلك من يهتم ببعض المنكرات الصغيرة فيهتم بها وبإنكارها وتحذير الناس منها وهناك من المنكرات الكبيرة التي يلحق بعضها بالشرك والنفاق ولم تأخذ حظها من الانكار والبراءة وبيانها للناس.

وكمن يتمعّر ويشتد على المظاهر التي تتعلق بالمرأة ولباسها وعملها ولا يكون هناك مثل هذا التمعر والإنكار على من يوالي الكفار ويظاهرهم على المسلمين.

*تنبيه مهم

لا يفهم من الكلام السابق عدم العناية بالمستحبات أو التورع عن الشبهات والمكروهات، أو ترك المنكرات الجزئية دون إنكار كلا بل يجب على كل قادر الإنكار والتغيير حسب الاستطاعة.

وإنما أردت الإشارة إلى الخلل في ترتيب الأولويات في العبادات وإنكار المنكرات وأن تكون الأولوية عند التزاحم للأهم قبل المهم والكبير قبل الصغير. وإن جاء بالجميع فهذا هو الكمال. قال بعض السلف: «من شغله الفرض عن النفل فهو معذور، ومن شغله النفل عن الفرض فهو مغرور».

*المثال السابع:

الخلل في ترتيب الفروع والأصول

حيث يوجد من يجعل جُلّ اهتمامه وأولوياته بالمحافظة على الفروع والالتزام بها ولو أدى ذلك إلى التفريط في بعض الأصول، وهذا خلل في معرفة الأولويات؛ فلو تعارض أصل وفرع فإنه ينبغي تقديم الأصل ولو فات الفرع أو ضعف.

*مثال واقعي

وأوضّح ذلك بمثال واقعي ألا وهو ذلك التفرق الداخلي بين بعض الجماعات الدعوية أو الجهادية بسبب الاختلاف على مسائل اجتهادية من فروع الدين لا تصل إلى المعادات والتفرقة.

ومع ذلك نجد من يهدم أصل التجمع والحرص على الجماعة لأجل أن يحافظ على فرع. مع أن الأوْلى المحافظة على اجتماع الكلمة ولو بقي الاختلاف في الفرع أو فات الفرع.

وهذا هو منهج الصحابة رضي الله عنهم؛ فهذا عبدالله ابن مسعود رضي الله عنه صلى خلف عثمان رضي الله عنه أيام الحج بمنى وكان عثمان يتم الصلوات الرباعية ولا يقصرها مع أن قصرها هو السنة وهو الذي عليه أكثر الصحابة ومنهم عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه، فكان يتم مع عثمان الصلاة فقيل له في ذلك فقال: «الخلاف شر».

فالأوْلى عند عبدالله ابن مسعود اجتماع الكلمة ولو فاتت بذلك سنة.

*المثال الثامن:

في أعمال القلوب وأعمال الجوارح

تقديم الاهتمام بأعمال الجوارح على أعمال القلوب مع أن عمل القلب هو الأصل لأعمال الجوارح..

فمن الخلل في ترتيب الأولويات تقديم العناية بأعمال الجوارح الظاهرة على العناية بإصلاح القلب وأعماله والتخلص من آفاته ومفسداته.

*المثال التاسع:

ترتيب منازل الخصوم والأعداء

الخلل في ترتيب منازل الخصوم والأعداء؛ لأن الأعداء ليسوا على درجة واحدة، وليس انحرافهم على مرتبة واحدة؛ فخطورة الكافر والمنافق وعداوتهما ليست كالمبتدع من أهل القبلة.

وخطورة الكافر تختلف أيضا حسب شدة الكفر وإفساده؛ فالكافر المسالم ليس كالكافر المحارب الصّادّ عن سبيل الله عز وجل.

وفي ضوء هذه الأنواع من الكفرة وغيرهم نستطيع أن نحدد أولوياتنا في من نوجه إليه حربنا وصراعنا؛ لأنه كلما حُصرت بؤرة الصراع وركّز عليها كانت أشد أثرا ونكاية في العدو.

والعكس من ذلك فيما لو تعددت بؤر الصراع، وبخاصة في مثل زماننا اليوم الذي ليس للمجاهدين فيه شوكة قوية تستعد لمواجهة أكثر من عدو وجبهة في وقت واحد.

فتحديد الأولويات في جهادنا مع الأعداء أمر مهم ومطلوب حتى لا نترك الأخطر ونشتغل بما دونه، وهذا الأمر يحتاج إلى فقه عميق بالموازنة بين المصالح والمفاسد، وإلى فقه بمقاصد الشريعة وترجيح خير الخيرين، ودفع شر الشرين.

وخير مثال لذلك موقف ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ في تجييش الأمة بما فيها بعض المبتدعة كالأشاعرة والصوفية من أهل القبلة في حرب التتار الكفرة.

إن معركتنا اليوم في ظل هذه النوازل العظيمة التي تمر بالأمة ليست مع الجماعات الإسلامية التي عندها شيء من الانحراف، وليست مع أهل البدع من أهل القبلة، ولكنها مع الكفرة والملاحدة الذين يريدون سحق الإسلام من جذوره ومسخ الهوية الإسلامية وعلى رأسهم أمريكا الطاغية ومشروعها الإجرامي في حرب المسلمين السُنة.

وهذا لا يعني السكوت عن أخطاء أهل البدع بل يناصَحون عليها ولكن دون أن ننشغل بهم عن العدو الأعظم.

*المثال العاشر:

في ترتيب الحقوق

الخلل في ترتيب الحقوق بحيث لا يتقدم حق على حق آخر؛ فقد يجد المسلم لذة وأنسا في عبادة من العبادات قد تُنسيه أو تجعله يغفل عن عبادة أخرى أو حق آخر يتعلق بحقوق العباد هو أوجب عليه، وأحب إلى الله عز وجل وأرضى له سبحانه.

وخير مثال لذلك ما جاء في الرواية الصحيحة التالية:

«عن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذّلة. فقال لها: ما شأنك؟ فقالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا.

فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما، فقال له: كل فإني صائم. قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل.

فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، فقال: نم، فنام. ثم ذهب يقوم، فقال: نم. فلما كان من آخر الليل قال سلمان: قم الآن، فصليا.

فقال له سلمان: إن لربك عليك حقا، وإن لنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه.

فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدق سلمان».

*المثال الحادي عشر:

الترتيب فيما يُدعى الناس اليه

وهذا المثال كان الأوْلى في حقه التقديم على كل ماسبق من الأمثلة..

ألا وهو الخلل في ترتيب الأهم والمهم في دعوة الناس.

حيث نجد من بعض الدعاة أو بعض الجماعات الإسلامية من لا عناية له بأمر العقيدة والتوحيد وما يضاده من الشرك، ويقدم على ذلك ما هو دون ذلك كالدعوة إلى فضائل الأعمال والأخلاق والأحكام، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يوصي دائما رسله الذين يرسلهم يدعون الناس في الآفاق إلى أن يكون أول ما يدعوهم إليه عبادة الله وحده لا شريك له وتوحيده.

ومن هذا ما رواه عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن:

«إنك ستأتي قوما أهلَ كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله.

فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة.

فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينه وبين الله حجاب».

وعن التفاوت بين العبادات وكيف يرتبها المسلم حسب الأولوية عند التزاحم يقول ابن القيم ـ رحمه الله تعالى:

والأفضل في وقت حضور الضيف مثلا القيام بحقه والاشتغال به عن الورد المستحب وكذلك في أداء حق الزوجة والأهل.

والأفضل في أوقات السحر: الاشتغال بالصلاة والقرآن والدعاء والذكر والاستغفار…

والأفضل في أوقات الأذان: ترك ما هو فيه من وِرْده والاشتغال بإجابة المؤذن…

والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالجاه، أو البدن أو المال: الاشتغال بمساعدته، وإغاثة لهفه، وإيثار ذلك على أورادك وخلوتك…

والأفضل في أيام عشر ذي الحجة: الإكثار من التعبد ـ لا سيما التكبير والتهليل والتحميد ـ فهو أفضل من الجهاد غير المتعين.

والأفضل في العشر الأخيرة من رمضان: لزوم المسجد فيه والخلوة والاعتكاف، دون التصدي لمخالطة الناس والاشتغال بهم، حتى إنه أفضل من الإقبال على تعليمهم وإقرائهم القرآن عند كثير من العلماء.

والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته: عيادته وحضور جنازته وتشييعه، وتقديم ذلك على خلوتك وجمعيتك…

فالأفضل في كل وقت وحال: إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال، والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه.

*أمثلة أخرى

ويضاف إلى ما ذكره ابن القيم – رحمه الله تعالى – الأمثلة التالية

إذا ضاق وقت صلاة حاضرة وفائتة فيقدم أداء الحاضرة على الفائتة في الأداء.

إذا تزاحم واجب بأصل الشرع وواجب بالنذر قدم الواجب بأصل الشرع؛ كمن نذر أن يتصدق وعليه زكاة ولا يمكن أن يؤدي الواجبين معا؛ فإنه يؤدي الزكاة ولو فات الوفاء بالنذر.

ومثال ذلك أيضا: لو ضاق الوقت على قضاء رمضان وهناك نذر صوم فعليه أن يقدم القضاء على النذر.

لو تزاحم واجب عيني متعلق بمصلحة عامة للمسلمين مع واجب عيني متعلق بمصلحة خاصة؛ فإن الواجب العام مقدم على الخاص، كما لو تعارض أداء الجهاد العيني مع طاعة الوالدين.

لو تعارض واجب مقطوع بوجوبه مع واجب مختلَف في وجوبه فإن الواجب المقطوع بوجوبه يقدَم على المختلف في وجوبه، كما لو تعارض الجهاد المختلَف في وجوبه مع طاعة الوالدين المقطوع بوجوبها.

ثقافة فقه الأولويات في ضوء واقعنا المعاصر:

علم الأولويات مع الفروض الكفائية، يساهم في تحديد المبادئ التي ينطلق منها كل من الفرد والأسرة والجماعة والمنظمة والجمعية والهيئة والحكومة والدولة، من خلال مفاهيم واضحة، تشكل مبادئ مستقرة نفسياً وعقلياً. فما أكثر الخلط الذي سقطت فيه أنفسٌ نتيجة غياب القواعد الحاكمة، وعدم نضج الفهوم لمعنى الأولويات في الشريعة والحياة.

بداية، نشير إلى أن المقصود بالخطاب الديني هو: " الأقوال والنصوص المكتوبة التي تصدر عن المؤسسات الدينية أو عن علماء الدين، أو التي تصدر عن موقف إيديولوجي ذي صبغة دينية أو عقائدية، والذي يعبّر عن وجهة نظر محددة، إزاء قضايا دينية أو دنيوية أو الذي يدافع عن عقيدة معينة ويعمل على نشر هذه العقيدة"

يتميز هذا التعريف بأنه حصر الخطاب الديني في كل من يتولّى الحديث عن الدين عقيدة وشريعة وقضايا. فهناك مؤسسات دينية معتمدة في الخطاب الديني الرسمي، مثل وزارات الأوقاف، وأهل الفتوى، وعلماء الدين، والباحثين الشرعيين، والدعاة... إلخ. وعندما نتحدث عن هؤلاء، فنحن نحدد المنوط بهم تقديم الخطاب الديني، بعيدا عن غير المتخصصين، وعندما نؤكد على دور هؤلاء، فإننا نريد وضع مهمة الخطاب الديني الكفائي على شخصيات تمتلك الفهم المكتمل، والمرجعية الصافية، بعيداً عن ذوي الأفكار المشوشة، والنفوس المريضة، المنشغلة بأمور دنيوية: مال، شهرة، منصب، أو يتملكها الكسل والفتور، فلا ترى في الإمكان أفضل مما هو كائن.

فلو تمكنّا أن ندخل في ثقافة الفردِ المسلم إدراكَ الأولويَّات بالنسبة له وأن يكون له منهجيةُ تحديدها، وكيفية تطبيقها في واقعه، فهذا سيعود بالنفع على الفرد وأسرته ومجتمعه، التي من الصعب ترتيبها نظرا لتشابكها مع مجموعة من القضايا والشؤون المختلفة، وعليه أن يرسم خارطة لأولوياته فيقدّم ما حقه التقديم، ويؤخر ما حقه التأخير، ذلك لأن طموحات الإنسان تتجاوز في الغالب أوقاته ووسائله وأدواته كما تتجاوز قدراته الآنيّة سواء في إطار عدم توافر الشروط أو في دائرة وجود موانع، وهذا في اختياره لأولوياته الشخصية والأسرية، أما أولويات المجتمع والأمة، فلابد من تضافر الجهود واستخدام الشورى بأوسع معانيها وأشكالها، والقيام بالدراسات والمكثفة لسائر الجوانب الفاعلة والمؤثرة في حياة الأمة: السياسية منها والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، واستخدام سائر العلوم الإنسانية والاجتماعية، ورصيد الخبرات والتجارب الإنسانية للوصول إلى تحديد مناسب لأولويات الأمة في مرحلة زمنية ما، لذلك فإن من التبسيط؛ اختزال كل هذا في دائرة فقهية ضيقة أو أحادية البعد[

إن علم الأولويات وفقهها يفيدنا في علاج الكثير من أمراض الأمة، والتي يمكن ملاحظتها في أمور عديدة، تشكّل تكبيلا كبيرا لكل من العقل، والقلب، والأداء للمسلم وجماعته المسلمة وفي هذا الصدد يمكن أن نتناول الدور المبتغى لكل من الفرد والجماعات في سبيل إحياء الفروض الكفائية  في النقاط الآتية:

§ النهوض من الاستغراق في الجزئيات والتفاصيل والانشغال عن الكليات والعجز عن رد الجزئيات إلى الكليّات، والفروع إلى الأصول، وفهم العلاقة الدقيقة بينها، بالسعي إلى النظرة الشاملة المستندة إلى مقاصد الشريعة وكليّاتها. وهذا أساس في الفروض الكفائية، لأننا في حاجة إلى الاهتمام بالكليات أولا، وإنجازها، قبل أن ننشغل بالجزئيات والفروع. وكم من طاقات من علماء الأمة تبددت بسبب إصرار القائمين على إنجاز فرع ناسين الأصل. والمثال الأبرز لذلك: اهتمام المسؤولين ببناء مستشفيات كبيرة ومستوصفات، ثم إهمال اختيار الكادر الصحي المناسب، سواء من داخل الوطن أو خارجه، والكارثة أشد، حين يحضرون الكادر من الخارج، ولا يسعون إلى تعليم الكوادر الوطنية وتجهيزها على أيدي الأجنبي المستقدم.

§ التشبث بالتقليد والتبعية واعتبارها مصدر أمن للنفس يحميها من المغامرة لاكتشاف المجهول بالإبداع أو الاجتهاد. فدائما المقلّدون محتمون بجهود سابقيهم، وغير مستعدين لتحمّل عواقب النقاش لإتيانهم بالجديد. فتكون الدعوة المتوخاة: لنترك العقول تبدع، والنفوس تشرق، والأجساد تنطلق.

§ تقديم الضعيف على القوي، والفرع على الأصل، كما نرى بالبدء بالنوافل على الفرائض، أو التحسينيات على الحاجيات، والحاجيات على الضروريات، وهذا عائد لافتقاد التفكير المنهجي العلمي الرصين المنضبط. وهذه القاعدة موجهة لكل داعية، يقيم الدنيا ولا يقعدها لوجود مخالفة شرعية بسيطة (قد تكون من باب النوافل)، ويغض النظر عن أمور مفصلية في حياة الناس.

§ العزوف عن الأخذ بالأسباب والميل إلى تجاوزها لأدنى سبب توكلا أو تواكلا أو اعتمادا على مفترضات أو متوهمات، وعدم اتخاذ السببية منهجا في التفكير. فالسببية تعني التفكير العلمي في القضايا، بالولوج فيها، ومعرفة أسباب حدوثها، ومن ثم التفكير العقلاني في ضوء مبادئ الشريعة.

§ عدم التفريق بين الحق والرجال والركون إلى معرفة الحق بالرجال بدلاً من معرفة الرجال باتباع الحق، بعيداً عن الصنمية والشخصنة، من خلال إطراء المدح، والتركيز الإعلامي على شخصيات بعينها، قد يكون لها ما لها، وعليها ما عليها، خصوصا من الدعاة وعلماء الشريعة، فلابد من وضع الحق نصب أعيننا، بعيدا عن الرجال وإن علوا.

§ انحراف التفكير الناجم عن انحراف المنهجية وهذا واقع في أساليب البحث وإصدار الأحكام، وتحديد المهام والواجبات، والمنهجية لابد أن تكون علمية، بعيدا عن العشوائية، وتغليب حظ النفس.

§ الخلط بين الثوابت والمتغيرات، فالثوابت هي المبادئ والمصالح الدائمة والضروريات وكل ما يتصل بالكليات الخمس، أما المتغيرات فهي وقتية تنصرف للفروع لا الأصول، وللآني لا الدائم.

§ عدم التأصيل الدقيق والتمحيص العميق، والميل إلى الارتجال والتبسيط المخل، بحجة تساوي النتائج أو تقارب المحصّلة.

§ تبرئة الذات - من قبل العالم أو المكلَّف - واتهام الآخرين بالتقصير، هروباً من المسؤولية، وهذا ينعكس في مظاهر منها: المفاخرة بالذات، والتمدح بإنجازات لا قيمة لها أو لم يقم بها، أو نسب جهود الآخرين لذاته. ولعل هناك مثال حاضر، فعندما أرادت دولة عربية كبرى إطلاق قمر صناعي خاص بها، فإن الوزير المسؤول رفض اقتراحا مفاده أن تعلّم الكفاءاتُ الأجنبية الكوادرَ المحلية عمليةَ التصنيع والإطلاق والتشغيل، وفضّل المسؤول أن يتم إطلاق القمر من قاعدة فرنسية، خلال ثلاثة أشهر ليسارع بالتباهي بالإنجاز، وظل علماء الوطن يصرخون عندما وجدوا أن مشغّلي القمر من الأجانب أيضا، وباتت العملية الفنية رهينة بهم.

§ بغياب الأولويات، يفصل الناس بين العلم والعمل، والنظر والتطبيق، وقد يؤدي إلى صراع بين أهل العلم وأهل العمل، لعدم تحديد العلاقات من جهة، ولعدم الفهم من جهة أخرى.

§ فهم الأولويات حماية من الكسل والفتور النفسي والعقلي، ورفضاً لهيمنة الأوهام على العقل الإنساني، وما يسمى التعارض بين النقل والعقل.

§ بتراجع علم الأولويات يسود الأمة الاتجاه الشكلي والرسوم، ولجوء البعض إلى الحيل والمخارج، هروبا من مواجهة الواقع أو إرجاء القضايا، كما يؤدي إلى تناقضات غير مبررة ولا مفهومة في سلوك الناس. وهناك من يتجاوز الواقع إلى خياله الخاص أو إلى ماض بعيد.

§ يحفظ علم الأولويات الناس من خلط قيم عديدة، مثل خلط الشجاعة بالتهور، والبخل بالاقتصاد، والكرم بالإسراف، هذا على مستوى الفرد، وأيضا يكون على مستوى الجماعة وهذا هو الأنكى، فمثلاً، حين يبالغ المسؤولون في الإنفاق على مؤتمراتهم ولقاءاتهم دون أن تسفر عن شيء ذي جدوى تحت دعوى الكرم والاستضافة فهذه مصيبة.

§ في تجاوز الأولويات فقدان للموازين الدقيقة، لما يأخذ أو يدع، ولما يجب أن ينحاز إليه، أو في خياراته في التفكير والإنجاز وما يفيده شخصياً أو يفيد أسرته الصغيرة أو جماعته الوطنية. كما يؤدي إلى هيمنة التفكير الأحادي، والتسرع في إصدار الأحكام، لأنه لا معايير لديه في الحكم، ولا صبر على الدراسة الموضوعية الدقيقة.

§ تجاوز الأولويات، يؤدي إلى النقد والتصحيح، لأن غياب المعايير الواضحة في الاختيار، يؤدي إلى غياب معايير النقد والتقويم.

§ المشكلات الحادثة والخلافات الناجمة بين الحركات الإصلاحية وتيارات التغيير الاجتماعي سببها غياب فهم الأولويات المتفق عليها، وفي حالة الاتفاق على الأولويات، ينقشع الخلاف، وتتآلف القلوب.

ضعف مراعاة فقه الأولويات:

يحتاج الكثير من الناس، وبعض المجتمعات الإسلامية للتعرف على فقه الأوليات في معالجة المشكلات والقضايا، أو عند التخطيط والتطوير والتجديد، فأي شيء يقدم، وأي شيء يؤخر، الحلول كثيرة، والخطوات والمراحل كثيرة، والآمال والطموحات متعددة ومتنوعة، ولكن الأهم كيف تكون البداية؟ وكيف الأخذ بالأهم قبل المهم؟

هذا الموضوع على درجة كبيرة من الأهمية والخطورة، فيجب أن يُعتنى به فلا تترك الأمور دون عناية ودراسة واهتمام، فيتم حصر المشكلات والقضايا الأساسية والآمال والطموحات، ويتم العمل على ترتيبها بحكمة وعقلية واعية وفق أهميتها، لأنه قد يتم البدء بأمور ليست ذات أهمية في الوقت الحاضر، فيكون فيها خطورة على الفرد والمجتمع، ويتسبب في تراجع الأمة وتخلفها.

ومن الأمثلة الواقعية في حياة الناس من ينفق أمواله أولاً بأول، ولا يدخر منها شيئاً البتة، فتجده يسافر شرقاً وغرباً، ويأكل ويشرب ويلبس بدون حساب، ويتجاهل الأمور المهمة في حياته وأولها حُسن اختيار الزوجة، ثم العناية بتربية أولاده، ومن ثم توفير السكن المناسب لأسرته، فتجد هؤلاء الصنف من الناس قد أمضوا عشرات السنين، وتنقلوا بين البلدان شرقها وغربها وأكل ألذ المأكولات في أشهر المطاعم في الداخل والخارج، ولكن بعد مرور السنين تجده قد أضاع نفسه وأهله وأولاده وماله، فيندم ويتحسر ولا ينفع الندم.

فيجب أن يحرص الأفراد والمنظمات والهيئات على ترتيب وتنظيم أعمالهم وأوقاتهم، ويقدمون الأهم فالمهم، وفق رؤية علمية واضحة، ولا شك أن ذلك يحتاج بعد توفيق الله تعالى إلى مراعاة بعض الجوانب، منها:

1- العناية بوضع معايير لاختيار أفضل الكفاءات الإدارية، يمتلكون سعة أفق وبعد نظر وحكمة في معالجة القضايا والمشكلات.

2- القيام بدراسات مستفيضة للواقع والقضايا والمشكلات، ومعرفة آثارها وخطورتها وما يجب تقديمه، وما يمكن تأخيره.

3- الاستفادة مما توصل إليه الآخرون في المجتمعات الأخرى المتشابهة في الثقافة، والبيئة، والتوجهات الفكرية والسياسية والتطلعات والآمال.

4- الاهتمام بالزيارات الميدانية، والدورات التدريبية وورش العمل لتطوير القدرات الإدارية، لمعرفة الجديد في العلوم الإدارية والتخطيط والتطوير.

المطلب الثاني

تطبيق فقه الأولويات في ضوء واقعنا المعاصر

التطبيق ضرورة من ضروريات العصر الحالي, وإن اختلال أو غياب هذا الفقه عن الواقع الديني والدنيوي من ضمن أسباب التأخر في عالمنا الاسلامي وظهور كتير من الظواهر الخاطئة

بعض من الأولويات

من أهم الأولويات المعتبرة شرعاً : أولوية تقديم العلم على العمل.

الأولويات في مجال العلم والفكر:

1) أولوية العلم عل العمل

العلم شرط في كل عمل قيادي

ضرورة العلم للمفتي

ضرورة العلم للداعية والمعلم

2) أولوية الفهم على مجرد الحفظ

3) أولوية المقاصد على الظواهر

4) أولوية الاجتهاد على التقليد

5) أولوية الدراسة والتخطيط لأمور الدنيا

في ضوء واقعنا المعاصر:

لو نظرنا في حال مجتمعاتنا اليوم لوجدنا الخلل واضحًا في باب الأولويات بين الأعمال حتى بين بعض الصالحين... فنرى البعض يهتم ببناء المساجد في أماكن فيها مساجد أصلًا بدل اهتمامه ببناء المؤسسات التربوية والتعليمية التي تعلم الخير وترشد للهدى، وتستظل بمظلة شرع الله سبحانه وتعالى.

كما نرى البعض يقيمون بين الناس معارك حامية الوطيس من أجل مسائل جزئية أو خلافية، مهملين أصول الإسلام الكبرى وقضاياه الملحة.. فالبعض مثلًا وجد أكبر همه في البحث في محل لبس الساعة: أفي اليد اليمنى أم اليسرى؟!.. والأكل على المنضدة، والجلوس على الكرسي للطعام: هل يدخل في التشبه بالكفار أو لا؟!.. وغير ذلك من المسائل التي أعطيت قدرًا أكبر من حجمها الحقيقي مقارنة بالمسائل الهامة والملحة الأخرى فضلًا عما يترتب على الانشغال بها من تضييع الجهود والأوقات وإهدار الطاقات، وتمزيق الجماعات...، وهذا لا يعني عدم الاهتمام بشعائر ديننا وسنة نبينا الظاهرة، ولكنها إشارة فقط إلى بعض مظاهر الخلل في تديُّننا، والعجز في الجمع بينها.

كما أن البعض كذلك يعاملون آباءَهم بقسوة، وأمهاتهم بغلظة، وإخوانهم وأخواتهم بعنف، وحجتهم في ذلك أنهم عصاة أو منحرفون عن الدين! ناسين أن الله سبحانه وتعالى أوصى بالوالدين إحسانًا، وإن كانا مشركين يجاهدان ولدهما على الشرك، ويحاولان بكل جهدهما فتنته عن إسلامه:

قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ* وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾().

ونجد من يهتمُّ بالنوافل أكثر من اهتمامه بالفرائض والواجبات، كما هو ملاحظ عند بعض الذين يكثرون من الأذكار والتسابيح والأوراد ولم يولوا هذا الاهتمام لكثير من الفرائض وخصوصًا الاجتماعية منها مثل: بر الوالدين، وصلة الأرحام، والإحسان إلى الجار، والرحمة بالضُّعفاء، ورعاية اليتامى والمساكين..!، لذا لا بد من التوازن بينهما بحيث لا يطغى فرض على سُنة، ولا سُنة على فرض.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رجلٌ: يا رسول الله، إن فلانة يُذكر من كثرة صلاتها، وصيامها، وصدقتها، غير أنها تُؤذي جيرانها بلسانها، قال: "هي في النار"، قال: يا رسول الله، فإن فلانة يُذكر من قلة صيامها، وصدقتها، وصلاتها، وإنها تصدق بالأثوار من الأقط، ولا تُؤذي جيرانها بلسانها، قال: "هي في الجنة".

ونجد الاهتمام بالعبادات الفردية كالصلاة والذِّكر وإهمال بعض العبادات الاجتماعية التي يتعدى نفعها، كالفقه والإصلاح بين الناس والجهاد الواعي، والتعاون على البر والتقوى، والتواصي بالصبر والمرحمة، والدعوة إلى العدل والشورى، ورعاية حقوق الإنسان عامة والإنسان الضعيف خاصة!

كما نجد على العكس من ذلك: من الناس من يهتم بالعبادات الاجتماعية بينما هو مهمل لعقيدته وأركان دينه، فلا بد لنا من مراجعة شاملة لقيمنا في ضوء الشرع الحنيف.

فقه الأولويات في تراثنا

من جال في تراث هذه الأمة الرحب، وجد لعلمائها اهتماما بفقه الأولويات والتنبيه على الاختلال فيه، في صور شتى متناثرة في المصادر المختلفة، تذكر في مناسباتها.

السائلون عن قتل المحرم الذباب!

ولعل من أوائل ما نرى فيه هذا الاهتمام، ما صح عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، فيما رواه عنه ابن أبي نعيم، قال: جاء رجل إلى ابن عمر وأنا جالس، فسأله عن دم البعوض! وفي رواية: "فسأله عن المحرم يقتل الذباب"! فقال له: ممن أنت؟ قال: من أهل العراق، قال: ها، انظروا إلى هذا! يسأل عن دم البعوض، وقد قتلوا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم!! وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "هما ـ يعني الحسن والحسين ـ ريحانتي من الدنيا". وفي الرواية الأخرى: "أهل العراق يسألون عن الذباب، وقد قتلوا ابن بنت رسول الله.." الحديث.

قال الحافظ ابن حجر في شرح الحديث في فتح الباري: "أورد ابن عمر هذا متعجبا من حرص أهل العراق على السؤال عن الشيء اليسير، وتفريطهم في الشيء الجليل"، وقال ابن بطال: "يؤخذ من الحديث أنه يجب تقديم ما هو أوكد على المرء من أمر دينه، لإنكار ابن عمر على من يسأله عن دم البعوض، مع تركه الاستغفار من الكبيرة التي ارتكبها بالإعانة على قتل الحسين، فوبخه بذلك. وإنما خصه بالذكر، لعظم قدر الحسين، ومكانه من النبي صلى الله عليه وسلم".

فليس المقصود الإنكار على شخص السائل بعينه، إنما المقصود الإنكار على اتجاه سائد لدى فئة من الناس، يدققون في الأمور الصغيرة، ويشغلون أنفسهم والناس معهم بالتوافه، على حين يضيعون الأمور الكبار!!

وما حدث لابن عمر حدث لابنه سالم، مع أهل العراق أيضا، فيبدو أنهم سألوه عن بعض صغائر الأمور، في حين أنهم سقطوا في عظائم الأمور، من الاقتتال وسفك بعضهم دماء بعض، مع التحذير الشديد من ذلك في الحديث المتفق عليه: "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض"!

فقد روى مسلم في كتاب الفتن عن سالم بن عبدالله أنه قال: يا أهل العراق، ما أسألكم عن الصغيرة، وأركبكم للكبيرة! سمعت أبي عبدالله بن عمر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الفتنة تجئ من ههنا ـ وأومأ بيده نحو المشرق ـ من حيث يطلع قرنا للشيطان"! وأنتم يضرب بعضكم رقاب بعض، وإنما قتل موسى الذي قتل خطأ، فقال الله عز وجل له: (وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا).

ومما يذكر في فقه الأولويات في تراثنا: هذه الرسالة النابضة التي رواها الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبدالله بن المبارك من طريق محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة، قال: أملي علي عبدالله بن المبارك هذه الأبيات بطرسوس، وودعته للخروج، وأنشدها معي إلى الفضيل بن عياض في سنة سبعين ومائة، وفي رواية: سنة سبع سبعين ومائة:


يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعــب  

من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضـــــب  

أو كان يتعب خيله في باطـــل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب  

ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب  

ولقد أتانا من مقال نبينا قول صحيح صـــادق لا يكــــــــذب  

لا يستوي غبار خيل الله فــي أنف امرئ ودخان نار تلهـــب  

هذا كتاب الله ينطق بيننا ليس الشهيد بميت لا يكذب

قال: فلقيت الفضيل بن عياض بكتابه في المسجد الحرام، فلما قرأه ذرفت عيناه وقال: صدق أبو عبد الرحمن ونصحني! ثم قال: أنت ممن يكتب الحديث؟ قال: قلت: نعم. قال: فاكتب هذا الحديث كراء حملك كتاب أبى عبد الرحمن إلينا، وأملى علي الفضيل بن عياض: حدثنا منصور بن المعتمر عن أبي صالح عن أبي هريرة: أن رجلا قال: يا رسول الله، علمني عملا أنال به ثواب المجاهدين في سبيل الله؟ فقال: "هل تستطيع أن تصلي فلا تفتر، وتصوم فلا تفطر؟" فقال: يا رسول الله، أنا أضعف من أن أستطيع ذلك، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فوالذي نفسي بيده لو طوقت ذلك ما بلغت المجاهدين في سبيل الله! أو ما علمت أن الفرس المجاهد ليستن في طوله، فكتب له بذلك الحسنات".

ذكرت هذه القصة في أحد ملتقيات الكفر الإسلامي بالجزائر، فاعترض عليها أحد الدعاة الكبار، وأنكر أن يكون لها أصل صحيح!! إذ كيف يسمى ابن المبارك العبادة في الحرمين لعبا؟!

والحق أن القصة صحيحة، ذكرها ابن عساكر بسندها في ترجمة عبدالله بن المبارك، ونقلها الحافظ ابن كثير في تفسيره في آخر سورة آل عمران مقرا لها. كما ذكرها الحافظ الذهبي في ترجمة ابن المبارك في موسوعته "سير أعلام النبلاء". وليس فيها ما يخالف أصول الإسلام أو نصوصه، بل استدل ابن المبارك في شعره بالكتاب والسنة، كما أيد ذلك العابد الزاهد الفضيل بما أملى من حديث على ناقل الرسالة.

وقد ذكرها شيخنا البهي الخولي في كتابه الرائد "تذكرة الدعاة" وعلق عليها بقوله: "كتب ابن المبارك هذا الكلام لصديقه "الفضيل" في وقت لم يكن الجهاد فيه فرض عين، ومع هذا وصف عبادته بأنها لعب، وهي عبادة تقع في أشرف بقعة على ظهر الأرض! ترى ماذا يقول ابن المبارك لصديقه لو كان الجهاد فرض عين؟! وماذا كان يقول عن العبادة لو أنها كانت في غير المسجد الحرام"؟!

الاختلاط عند الفساد أم العزلة؟

ومن ذلك بحثهم: أيهما أولى بالمسلم في أزمان الفتن وانتشار المعاصي والفساد: الاختلاط بالمجتمع ومحاولة إصلاحه أم العزلة والنجاة بالنفس؟

أما الصوفية .. ففضل جمهورهم الاختيار الثاني، وأما العلماء الربانيون المجاهدون ففضلوا طريق الأنبياء، وهو المخالطة والمجاهدة والصبر على أذى الناس.

روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم".

وللإمام أبي حامد الغزالي كتاب في "إحيائه" حول العزلة والخلطة، وما في كل منهما من فوائد، وما يحذر من آفات.

ومنها: بحثهم حول الدنيا ومتاعها أيهما أولى بالنسبة لها: الدخول في معمعتها، والمشي في مناكبها ومزاحمة أهلها والاستمتاع بطيباتها مع الالتزام بحدود الله، أم الانصراف عنها والزهد فيها وفي أهلها وزينتها وأموالها؟

آثر جمهور الصوفية الاختيار الثاني، لكن الربانيين المحققين من علماء الأمة آثروا الاختيار الأول، وهو الذي مضى عليه الأنبياء أمثال يوسف وداود وسليمان، وكبار الصحابة مثل عثمان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعد وغيرهم.

ورد العلامة أبو الفرج الجوزي (المتوفى سنة 597هـ) على الصوفية الذين ذموا المال بإطلاق، واعتبروه شرا وآفة، وأنكروا على من ملكه واكتسب الغنى ولو من حلال. واستدل ابن الجوزي في كتابه النقدي الرائع "تلبيس إبليس" بالكتاب والسنة وهدي الصحابة، وقواعد الشريعة.

ترك المنهيات أم فعل الطاعات؟

أيهما أولى وأفضل عند الله: ترك المناهي والمحرمات أم فعل الأوامر والطاعات؟

قال بعضهم: ترك المناهي أهم وأشد خطرا من فعل الأوامر، واستدلوا بالحديث الصحيح المتفق عليه، الذي ذكره النووي في أربعينه، وشرحه ابن رجب في جامعه، وهو: "إذا نهيتكم عن شيء، فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر، فأتوا منه ما استطعتم" .. قالوا: هذا يؤخذ منه أن النهي أشد من الأمر، لأن النهي لم يرخص في ارتكاب شيء منه، والأمر قيد بحسب الاستطاعة، وروى هذا عن الإمام أحمد.

ويشبه هذا قول بعضهم: أعمال البر يعملها البر والفاجر، وأما المعاصي، فلا يتركها إلا صديق.

وروى عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "اتق المحارم، تكن أعبد الناس".

وقالت عائشة رضي الله عنها: "من سره أن يسبق الدائب المجتهد، فليكف عن الذنوب"، وروى عنها مرفوعا.

وقال الحسن: ما عبد العابدون بشيء أفضل من ترك ما نهاهم الله عنه.

والظاهر أن ما ورد في تفضيل ترك المحرمات على فعل الطاعات، إنما أريد به على نوافل الطاعات، وإلا فجنس الأعمال الواجبات أفضل من جنس ترك المحرمات، لأن الأعمال مقصودة لذاتها، والمحارم المطلوب عدمها، ولذلك لا تحتاج إلى نية، بخلاف الأعمال، ولذلك كان جنس ترك الأعمال قد يكون كفرا كترك التوحيد، وكترك أركان الإسلام أو بعضها، على ما سبق، بخلاف ارتكاب المنهيات فإنه لا يقتضي الكفر بنفسه، ويشهد لذلك قول ابن عمر: لرد دانق حرام أفضل من مائة ألف تنفق في سبيل الله.

وعن بعض السلف قال: ترك دانق مما يكره الله أحب إلي من خمسمائة حجة.

وقال ميمون بن مهران: ذكر الله باللسان حسن، وأفضل منه أنه يذكر الله العبد عند المعصية فيمسك عنها.

وقال ابن المبارك: لأن أرد درهما من شبهة أحب إلي من أن أتصدق بمائة ألف ومائة ألف، حتى بلغ ستمائة ألف.

وقال عمر بن عبد العزيز: ليست التقوى قيام الليل، وصيام النهار، والتخليط فيما بين ذلك، ولكن التقوى أداء ما افترض الله، وترك ما حرم الله، فإن كان مع ذلك عمل، فهو خير إلى خير، أو كما قال.

وقال أيضا: وددت أني لا أصلي غير الصلوات الخمس سوى الوتر، وأن أودي الزكاة، ولا أتصدق بعدها بدرهم، وأن أصوم رمضان ولا أصوم بعده يوما أبدا، وأن أحج حجة الإسلام ثم لا أحج بعدها أبدا، ثم أعمد إلى فضل قوتي، فأجعله فيما حرم الله علي، فأمسك عنه.

وحاصل كلامهم يدل على أن اجتناب المحرمات ـ وإن قلّت ـ أفضل من الإكثار من نوافل الطاعات، فإن ذاك فرض، وهذا نفل.

وقالت طائفة من المتأخرين: إنما قال صلى الله عليه وسلم: "إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر، فأتوا منه ما استطعتم" لأن امتثال الأمر لا يحصل إلا بعمل، والعمل يتوقف وجوده على شروط وأسباب، وبعضها قد لا يستطاع، فلذلك قيده بالاستطاعة، كما قيد الله الأمر بالتقوى بالاستطاعة، قال تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم)، وقال في الحج: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا).

وأما النهي: فالمطلوب عدمه، وذلك هو الأصل، والمقصود استمرار العدم الأصلي، وذلك ممكن، وليس فيه ما لا يستطاع، وهذا أيضا فيه نظر، فإن الداعي إلى فعل المعاصي قد يكون قويا، لا صبر معه للعبد على الامتناع عن فعل المعصية مع القدرة عليها، فيحتاج الكف عنها حينئذ إلى مجاهدة شديدة، ربما كانت أشق على النفوس من مجرد مجاهدة النفس على فعل الطاعة، ولهذا يوجد كثيرا من يجتهد فيفعل الطاعات، ولا يقوى على ترك المحرمات. وقد سئل عمر عن قوم يشتهون المعصية ولا يعلمون بها، فقال: "أولئك قوم امتحن الله قلوبهم للتقوى، لهم مغفرة وأجر عظيم".

وقال يزيد بن ميسرة: يقول الله في بعض الكتب: "أيها الشاب التارك شهوته، المبتذل شبابه لأجلي، أنت عندي كبعض ملائكتي".

وقال: "ما أشد الشهوة في الجسد، إنها مثل حريق النار، وكيف ينجو منها الحصوريون"؟

والتحقيق في هذا أن الله لا يكلف العباد من الأعمال ما لا طاقة لهم به، وقد أسقط عنهم كثيرا من الأعمال بمجرد المشقة رخصة عليهم، ورحمة لهم، وأما المناهي، فلم يعذر أحدا بارتكابها بقوة الداعي والشهوات، بل كلفهم تركها على كل حال، إنما أباح أن يتناول من المطاعم المحرمة عند الضرورة ما تبقى معه الحياة، لا لأجل التلذذ والشهوة، ومن هنا يعلم صحة ما قاله الإمام أحمد: إن النهي أشد من الأمر. وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ثوبان وغيره أنه قال: "استقيموا ولن تحصلوا".

يعني: لو تقدروا على الاستقامة كلها.

الغنى مع الشكر أم الفقر مع الصبر؟

ومن المباحث التي تدخل هنا في فقه الموازنات أو فقه الأولويات: ما بحثه العلماء قديما حول الإجابة عن هذا السؤال: أيهما أفضل وأكثر أجرا: الغنى مع الشكر أم الفقر مع الصبر؟ وبعبارة أخرى: الغني الشاكر أم الفقير الصابر؟

تفاوتت الإجابة على السؤال ما بين مرجح للأول، ومرجح للآخر.

والذي يترجح لي من خلال التدبر في النصوص والمقارنة بينها: أن الغنى مع الشكر هو الأولى، والأفضل، وليس هو بالشيء الهين، كما قد يظن. فقد قال الله تعالى: (وقليل من عبادي الشكور).

وقال تعالى على لسان إبليس لعنه الله: (ولا تجد أكثرهم شاكرين).

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل الله الغنى، ويتعوذ بالله من الفقر.

قال عليه الصلاة والسلام: "اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى".

"اللهم إني أعوذ بك من الفقر، والقلة، والذلة، وأعوذ بك من أن أظلم أو أظلم".

"اللهم إني أعوذ بك من الفقر، والكفر، والفسوق، والشقاق، والنفاق".

"اللهم إني أعوذ بك من الجوع، فإنه بئس الضجيع".

وقال لسعد: "إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي".

وقال لعمرو: "يا عمرو، نعم المال الصالح للمرء الصالح".

ودل حديث: "ذهب أهل الدثور بالدرجات العلا.." على أن الأغنياء إذا شكروا نعمة الله، وقاموا بحقها، كان لهم من فرص الطاعات ما ليس للفقراء، ولذا قال في الحديث: "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء".

وقد أثنى الله تعالى على عدد من رسله الأكرمين فوصفهم بفضيلة الشكر.

مثل شيخ المرسلين نوح عليه السلام، حيث مدحه بقوله: (إنه كان عبدا شكورا).

وإبراهيم أبي الأنبياء وأبي المسلمين، حين مدحه بقوله: (شاكرا لأنعمه، اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم).

وداود وسليمان في قوله تعالى: (اعملوا آل داود شكرا، وقليل من عبادي الشكور).

وحكى عن سليمان أنه قال بعد أن سمع كلام النملة: (رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي).

وحكى عن يوسف قوله: (رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث).

وامتن على خاتم رسله بقوله: (ووجدك عائلا فأغنى)، ثم قال له: (وأما بنعمة ربك فحدث).

وامتن على أصحابه فقال: (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره، ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون).

الإمام الغزالي وفقه الأولويات

نموذج من الإخلال بالترتيب الشرعي للأعمال

ومن العلماء الذين عنوا بفقه الأولويات، ونقدوا المجتمع المسلم بالتفريط فيه: الإمام الغزالي. وهذا ظاهر في موسوعته "إحياء علوم القرآن" يجدها قارئه في "أرباعه" الأربعة، وفي كتبه الأربعين، ولكنه يجدها أوضح ما تكون في كتابه "ذم الغرور" وهو العاشر من ربع "المهلكات".

وفيه ذكر أصنافا من الذين أوبقهم الغرور، وهم لا يشعرون.

فذكر من هؤلاء أرباب العلم، وأرباب العبادة والعمل، وأرباب التصوف، وأرباب الأموال، وآخرين من العوام، وذكر فرق المغترين من كل صنف، وكيف خدعتهم أنفسهم، أو زينت لهم شياطينهم سوء أعمالهم، فرأوها حسنة، وقد أبدع في الوصف والتصوير هنا أيما إبداع. كما أشار إلى العلاج الواجب الاتباع.

واكتفى هنا بذكر نموذجين من نماذج نقده القوي العميق البصير، لنرى منه مقدار فقهه في دين الله، وفهمه لدنيا الناس، وحرصه على إصلاحهم في ظواهرهم وبواطنهم، وعنايته ـ رضي الله عنه ـ بفقه الأولويات.

نموذج من الإخلال بالترتيب الشرعي للأعمال

النموذج الأول: من فرق المغترين من المتدينين من أهل العبادة والعمل يقول فيه:

"فمنهم فرقة أهملوا الفرائض، واشتغلوا بالفضائل والنوافل، وربما تعمقوا في الفضائل حتى خرجوا إلى العدوان والسرف، كالذي تغلب عليه الوسوسة في الوضوء فيبالغ فيه، ولا يرضى الماء المحكوم بطهارته في فتوى التشريع، ويقدر الاحتمالات البعيدة قريبة من النجاسة، وإذا آل الأمر إلى أكل الحلال قدر الاحتمالات القريبة بعيدة! وربما أكل الحرام المحض، ولو انقلب هذا الاحتياط من الماء إلى الطعام لكان أشبه بسيرة الصحابة، فقد توضأ عمر رضي الله عنه بماء في جرة نصرانية، مع ظهور احتمال النجاسة، وكان ـ مع هذا ـ يدع أبوابا من الحلال، مخافة من الوقوع في الحرام".

وفرقة أخرى حرصت على النوافل، ولم يعظم اعتدادها بالفرائض، ترى أحدهم يفرح بصلاة الضحى، وبصلاة الليل، وأمثال هذه النوافل، ولا يجد للفريضة لذة، ولا يشتد حرصه على المبادرة بها في أول الوقت، وينسى قوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: "ما تقرب المقربون إلي بمثل أداء ما افترضت عليهم"، وترك الترتيب بين الخيرات من جملة الشرور.

بل قد يتعين في الإنسان فرضان: أحدهما يفوت والآخر لا يفوت، أو فضلان، أحدهما يضيق وقته، والآخر يتسع وقته، فإن لم يحفظ الترتيب فيه كان مغرورا.

ونظائر ذلك أكثر من أن تحصى، فإن المعصية ظاهرة، والطاعة ظاهرة، وإنما الغامض تقديم بعض الطاعات على بعض، كتقديم الفرائض كلها على النوافل، وتقديم فروض الأعيان على فروض الكفاية، وتقديم فرض كفاية لا قائم به على ما قام به غيره، وتقديم الأهم من فروض الأعيان على ما دونه وتقديم ما يفوت على ما لا يفوت، وهذا كما يجب تقديم حاجة الوالدة على حاجة الوالد، إذا سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له: من أبرّ يا رسول الله؟ قال: "أمك"، قال: ثم من؟ قال: "أمك"، قال: ثم من؟ قال: "أمك"، قال: ثم من؟ قال: "أباك"، قال: ثم من؟ قال: "أدناك فأدناك"، فينبغي أن يبدأ في الصلة بالأقرب، فإن استويا فبالأحوج، فإن استويا فبالأتقى والأورع.

وكذلك من لا يفي ماله بنفقة الوالدين والحج، فربما يحج، وهو مغرور، بل ينبغي أن يقدم حقهما على الحج، وهذا من تقديم فرض أهم على فرض هو دونه.

وكذلك إذا كان على العبد ميعاد، ودخل وقت الجمعة فالجمعة تفوت، والاشتغال بالوفاء بالوعد "حينئذ" معصية، وإن كان هو طاعة في نفسه.

وكذلك قد تصيب ثوبه النجاسة، فيغلظ القول على أبويه وأهله بسبب ذلك، فالنجاسة محذورة، وإيذاؤهما محذور، والحذر من الإيذاء أهم من الحذر من النجاسة.

وأمثلة تقابل المحذورات والطاعات لا تنحصر، ومن ترك الترتيب في جميع ذلك فهو مغرور. وهذا غرور في غاية الغموض، لأن المغرور فيه في طاعة، إلا أنه لا يفطن، لصيرورة الطاعة معصية، حيث ترك بها طاعة واجبة هي أهم منها.

وهذا الذي ذكره الغزالي الفقيه في غاية الأهمية، وما أحوج دعاة الصحوة الإسلامية إلى فقهه ووعيه، وطالما دعوت منذ مدة شباب الصحوة والجماعات الدينية إلى ما سميته "فقه مراتب الأعمال"، وإعطاء كل عمل "سعره" الشرعي، ومكانه في سلم المأمورات والمنهيات، ولم أكن قرأت ما كتبه الغزالي هنا بهذا العمق والوضوح، وعبر عنه بهذه الكلمة الناصعة: "ترك الترتيب بين الخيرات من جملة الشرور". وسيأتي في كلامه مزيد أمثلة.

نموذج من إنفاق الأموال في غير ما هو أولى بها

والنموذج الآخر: يتمثل في بعض أرباب الأموال، والمغترون منهم فرق: (ففرقة بينهم) يحرصون على بناء المساجد والمدارس والرباطات والقناطر، وما يظهر للناس كافة، ويكتبون أساميهم بالآجر عليهم، ليتخلد ذكرهم، ويبقى بعد الموت أثرهم، وهم يظنون أنهم قد استحقوا المغفرة بذلك، وقد اغتروا فيه من وجهين:

أحدهما: أنهم يبنونها من أموال اكتسبوها من الظلم والنهب والرشا والجهات المحظورة، فهم قد تعرضوا لسخط الله في كسبها، وتعرضوا لسخطه في إنفاقها. وكان الواجب عليهم الامتناع عن كسبها، فإذ قد عصوا الله بكسبها فالواجب عليهم التوبة والرجوع إلى الله، وردها إلى ملاكها، إما بأعيانها، وإما برد بدلها عند العجز، فإن عجزوا عن الملاك، كان الواجب ردها إلى الورثة، فإن لم يبق للمظلوم وارث فالواجب صرفها إلى أهم المصالح، وربما يكون الأهم التفرقة على المساكين، وهم لا يفعلون ذلك، خيفة من أن لا يظهر ذلك للناس، فيبنون الأبنية بالآجر، وغرضهم من بنائها الرياء، وجلب الثناء، وحرصهم على بقائها، لبقاء أسمائهم المكتوبة فيها لإبقاء الخير.

والوجه الثاني: أنهم يظنون بأنفسهم الإخلاص، وقصد الخير في الإنفاق على الأبنية. ولو كلف واحد منهم أن ينفق دينارا، ولا يكتب اسمه على الموضع الذي أنفق عليه ذلك، لم تسمح به نفسه، والله مطلع عليه كتب اسمه أو لم يكتب، ولولا أنه يريد به وجه الناس لا وجه الله لما افتقر إلى ذلك.

اشتغال الأغنياء بالعبادات البدنية

وفرقة أخرى من أرباب الأموال اشتغلوا بها يحفظون الأموال، ويمسكونها بحكم البخل، ثم يشتغلون بالعبادات البدنية التي لا يحتاج فيها إلى نفقة، كصيام النهار، وقيام الليل، وختم القرآن، وهم مغرورون، لأن البخل المهلك قد استولى على بواطنهم، فهو يحتاج إلى قمعه بإخراج المال، فقد اشتغل بطلب فضائل هو مستغن عنها! ومثاله مثال من دخل في ثوبه حية، وقد أشرف على الهلاك، وهو مشغول بطبخ السكنجبين ليسكن به الصفراء، ومن قتلته الحية متى يحتاج إلى السكنجبين؟

ولذلك قيل لبشر: إن فلانا الغني كثير الصوم والصلاة! فقال: المسكين ترك حاله ودخل في حال غيره! وإنما حال هذا إطعام الطعام للجياعـ والإنفاق على المساكين، فهذا أفضل له من تجويعه نفسه، ومن صلاته لنفسه، من جمعه للدنيا ومنعه للفقراء.

إنفاق المال في حج التطوع

ومما عاب الغزالي كذلك على المتدينين من أرباب الأموال: أنهم ربما يحرصون على إنفاق المال في الحج، فيحجون مرة بعد أخرى، وربما تركوا جيرانهم جياعا!

فلذلك قال ابن مسعود: في آخر الزمان يكثر الحاج بلا سبب، يهون عليهم السفر، ويبسط لهم في الرزق، ويرجعون محرومين مسلوبين. يهوى بأحدهم بعيره بين الرمال والقفار، وجاره مأسور على جنبه لا يواسيه .

علماء آخرون شاركوا في فقه الأولويات

ومن معاصري الغزالي: العلامة الراغب الأصفهاني (ت 502هـ) وله كلمات مشرقة في فقه الأولويات نقلنا شيئا منها في الاشتغال بالسنن عن الفرائض، وقوله: من شغله الفرض عن الفضل (النفل) فهو معذور، ومن شغله النفل عن الفرض فهو مغرور.

وبعده نجد الإمام النقاد أبا الفرج ابن الجوزي (ت 597هـ) وله باع طويل في نقد المجتمع وفئاته المختلفة، واختلال الأولويات عندها، وتلبيس الشيطان عليهم في ذلك، وهذا ما نراه في كتبه "تبليس إبليس"، و"صيد الخاطر"، و"ذم الهوى" وغيرها. وقد تنبه ابن الجوزي إلى جانب مهم له أثره في الإخلال بالأولويات عند عموم الناس، وهو الأحاديث الواهية والموضوعة، فألف كتابيه الكبيرين: "الموضوعات"، و"العلل المتناهية في الأحاديث الواهية".

وبعده نجد سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام (ت 660هـ) وله نظر ثاقب، وفكر صائب، في فقه الموازنات، وفقه الأولويات، تجلت آثاره في كتابه الأصيل "قواعد الأحكام في مصالح الأنام".

المطلب الثالث

تأصيل الأولويات وإدراك كيفية تحديدها:

تناولت الدراسة موضوع مفهوم الأولويات لما له من أهمية خاصة لكثرة تداوله في واقعنا، وتوصلت إلى أنه القاعدة المبنية على فهم الأنسب والأجدر من الأعمال، ومعرفة فاضل الأعمال ومفضولها، وراجحها ومرجوحها، بناء على العلم بمراتبها، وبالواقع الذي يتطلبها، بغرض تحقيق أهم المصالح بأخف الأضرار، ومعرفة النتائج التي يؤول إليها تطبيق تلك الأعمال.

وقد قمت بتأصيل مفهوم الأولويات شرعاً باستقراء نصوص القرآن الكريم، والسنة، وأقوال بعض العلماء وتحليل هذه النصوص والأقوال، وأبرزت الدراسة أن مبدأ مراعاة الأولويات ثابت ومحدد في الشريعة الإسلامية وأن الشواهد على ترتيب الأولويات كثيرة.

وتبين من خلال الدراسة أن هناك بعض المحددات التي تساعد على ضبط منهجية ترتيب الأولويات وكيفية مراعاتها.

أعطى الإسلام العقل أهمية كبرى، فهو مناط التكليف وأساس التفكير، وأراد أن يصل بالعقل إلى أحسن مستوى بتقديم أفضل أداء، فالعقل شرط في معرفة العلوم وبه يكمل العلم والعمل.

ومن هنا أصبح لزاماً على كل فرد الحرص على ترتيب واجباته وحقوقه، وتنظيم احتياجاته وغاياته وذلك بمعرفة ماذا يقدّم؟ وماذا يؤخّر؟ وأي المجـالات أولى بالتقديم؟ وأي ميدان يجب أن يكون له القسط الأكبر من الرعاية والاهتمام عن غيره، حتى يكون قادراً على الإنتاج والعطاء، والمساهمة في بناء مجتمعه.

وهذا أصل عظيم في الشريعة إذ جاءت لتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، كما أنها ترجح خير الخيرين، وشر الشرين وتحصل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما.

وقد كثر ترداد مصطلح الأولويات على الألسنة في حياتنا المعاصرة، فأمتنا لم تكن في يوم بحاجة إلى مراعاة تقديم الأولى كما هي اليوم، فمعرفة أولويات الأعمال، ومعرفة ترتيبها وضوابطها، تُعين المسلم على الخروج من الحيرة والتردد عندما تواجهه الحياة بمشكلات وأحوال يصعب ردّها إلى آحاد الأحكام والفتاوى التي صيغت في إطار نظري أُحادي، كما تُعين على تقدير الخصوصيات التي تُؤثر على اختيار حلّ من الحلول المتعددة والذي يحقق أكبر قدر من المصالح المعتبرة.

وعليه فإن موضوع مراعاة الأولويات الذي نود دراسته، والتعرف إلى مفهومه وتأصيله في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وكذلك في أقوال العلماء، وإدراك كيفية تحديد الأولويات، سيؤدي - بلا شك - إلى رفع مستوى التفكير لدى المسلم بأسلوب مرن يتكيف مع الواقع، وبعقل نيّر وفق منهجية واضحة، وبالتالي سيساعد في تمكين الأمة الإسلامية من القدرة على مواجهة المتغيرات بحكمة، دون المعاناة من التعميمات والمتناقضات، وغير ذلك من انعكاسات سلبية على تربية الجيل.

*تأصيل الأولويات :

يهدف هذا المطلب إلى عرض نماذج لمراعاة الأولويات في الشريعة الإسلامية من مصادرها الأصلية:

القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، كما يذكر بعض الأمثلة في أقوال العلماء.

نماذج من القرآن الكريم لمراعاة الأولويات:

المتأمل في آيات القرآن الكريم يجد أنها لم تأت بأوامر مطلقة مجردة عن اعتبار الزمان والمكان والأشخاص، فجميع الأوامر والتوجيهات كانت تأتي مع إشارات واضحة إلى اعتبار ظروف التطبيق، وتقرير البديل الذي يتناسب مع حال المكلّف، وهذا الاعتبار لظروف تطبيق الأوامر الشرعية هو ما يسمى بمراعاة الأولويات، وهو منهج سار عليه القرآن الكريم في معالجة قضايا تقديم الأولى، الأهم فالمهم ومثاله بيّن في المحافظـة على الضروريات ثم الانتـقال إلى تحقيق الحاجيات فالتحسينيات.

وقد جاءت بعض الآيات لتؤصّل مراعاة  الأولويات كمبدأ وفكرة عامة دون تخصيص لمسألة عامة وحكم جزئي، وهي كُثر في القرآن الكريم مثل قوله تعالى: (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى* وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى* أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى* أَمَّا مَنْ اسْتَغْنَى* فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى* وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى* وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى*وَهُوَ يَخْشَى*فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى)()، والقصة من الشهرة بمكان، فالسورة الكريمة تصور لنا مجلساً من مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعو فيه إلى الله تعالى، حريصاً على هداية زعماء قريش، إذ جاءه ابن أم مكتوم، وكان ضريراً أعمى، جاءه مقبلاً، فلما لم يلتفت إليه، وعبس في وجهه عبسة المهتم بأمر خطير وما ذاك إلا لشدة حرصه على أولئك الزعماء، نزلت هذه السورة .

فلم تكن هذه الآيات مجرد تبيان لحقيقة كيف يُعامل فرداً من الناس؟ كما هو المعنى القريب للحادث، وإنما هي أبعد من هذا، وهي كيف يزن الناس كل أمور الحياة، وكيف يقدّمون الأَولى؟ ومن أين يستمدون القيم التي يزنون بها؟ وهذه القيم هي التي يحددها الله تعالى لا المتعارف عليها عند الناس .

فهذه المعاتبة كانت بسبب التصرف بخلاف الأولى، فكان الاهتمام والاشتغال بأمر سؤال ابن أم مكتوم

عن الإسلام وأموره أَولى من الاشتغال بالكفار والإقبال على المدبر في الموازين الإلهية .

وهناك آيات جاءت لتؤصل مراعاة الأولويات عن طريق مقارنة بين مسألتين فقهيتين ومفاضلة الأحكام التي يفضل بعضها بعضاً، مع إشارة واضحة إلى اعتبار ظروف التطبيق لكل حالة. فقد وردت بعض الآيات القرآنية بأحكام فيها مجموعة من البدائل فكانت تفاضل بين الأحكام وتقدم بعضها على بعض، وهي على قسمين:

القسـم الأول: منها ما كـان للمفاضـلة بين الأعمـال وإظهار التفاوت بين مراتبها.

القسم الثاني: ما كان للمفاضلة بين البشر وإظهار التفاوت بين مراتبهم.

القسم الأول: أدلة المفاضلة بين الأعمال في القرآن الكريم:

يقول العز بن عبد السلام: "أمر الله تعالى بإقامة مصالح متجانسة، وأخرج بعضها عن الأمر إما لمشقة ملابستها وإما لمفسدة تعارضها، وزجر عن مفاسد متماثلة وأخرج بعضها عن الزّجر، إما لمشقة اجتنابها وإما لمصلحة تعارضها، ويعبّر عن المصالح والمفاسد بالقرآن الكريم بالخير والشرّ، والنفع والضرّ، والحسنات والسيئات؛ لأن المصالح كلها خيور نافعات حسنات والمفاسد بأسرها شرور ومضرات وسيئات"

فللأولويات بين الأعمال ثلاثة أنواع :

1- الأولويات في المصالح (تقديم خير الخيرين).

2- الأولويات في المصالح والمفاسد (تقديم المصلحة على المفسدة).

3- الأولويات في المفاسد (تقديم أخف الضررين).

1-الأولويات في المصالح (تقديم خير الخيرين)

الشاهد الأول قوله تعالى: (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)() ، فالآية فيها دلالة على أن إسرار الصدقة أفضل من إظهارها؛ لأنه أبعد عن الرياء، إلا إذا ترتب على الإظهار مصلحة راجحة من اقتداء الناس، فيكون أفضل من هذه الحيثية، ثم إنّ الآية عامة في أنّ إخفاء الصدقة أفضل سواء كانت مفروضة أو مندوبة وبذلك يحصل الخير ورفع الدرجات، فإخفاء الصدقة هو الأولى، وتستثنى حالة رجحان مصلحة إقتداء الآخرين بالمتصدق.

الشاهد الثاني قوله تعالى: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)() ، وقد علّق الشوكاني على الآية مُبيناً أن الله تعالى أنكر على من ساوى بين ما كانت تعمله الجاهلية من الأعمال التي صورتها صورة الخير، وإن لم ينتفعوا بها، وبين إيمان المؤمنين وجهادهم في سبيل الله، وقد كان المشركون يفتخرون بالسقاية والعمارة ويفضلونها على عمل المسلمين، فأنكر الله عليهم ذلك، ثم صرّح سبحانه بالمفاضلة بين الفريقين وتفاوت مراتبهم وعدم استوائهم فقال: "لا يستوون عند الله"، ودلّ سبحانه بنفي الاستواء على نفي الفضيلة التي يدعيها المشركون: أي إذا لم تبلغ أعمال الكفار إلى أن تكون مساوية لأعمال المسلمين فكيف تكون فاضلة عليها كما يدّعون .

فبالنظر إلى ماهية الفعلين، نجد أنّ كلا الأمرين طاعة وقربة إلى الله تعالى، لكنّ العمل المقترن بالإيمان هو المقدّم دائماً، وهذا ما يجب إعطاؤه الأولوية في حياتنا، فمهما بلغت أعمال الكفار من الأهمية فهي بلا قيمة إذا ما قورنت بعملٍ صادرٍ عن مؤمنٍ بالله واليوم الآخر.

2- الأولويات في المصالح والمفاسد (تقديم المصلحة على المفسدة)

الشاهد الأول: قوله تعالى: (وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ)() ،  جاء في سبب نزول هذه الآية "عن كعب ابن عجرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه وقمله يتساقط على وجهه، فقال: "أيؤذيك هوّامك([28])؟" قال: نعم، فأمره أن يحلق وهو بالحديبية، ولم يبين لهم أنهم يحلون بها، وهم على طمع أن يدخلوا مكة فأنزل الله الفدية، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطعم فرقاً([29]) بين ستة مساكين أو يهدي شاة أو يصوم ثلاثة أيام"([30]). فحلق الرأس من محظورات الإحرام، ولكن إذا ما ترتبت المفسدة من مرض وأذى، قدمت المصلحة، وهي حلق الرأس أي الإخلال في ترتيب مناسك الحج، بغرض التيسير ورفع المشقة، ففي هذه الحالة القيام بحلق الرأس مع الفدية أولى من المحافظة على المحظورات والتمسك بترتيب مناسك الحج.

الشاهد الثاني: قوله تعالى: (وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا) ()، أخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قوله: نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار كان مريضاً، ولم يستطع أن يقوم فيتوضأ، ولم يكن له خادم يناوله. وأخرج ابن جرير عن إبراهيم النّخعي، قال: نال أصحاب النبي جراحة، ففشت فيهم، ثم ابتلوا بالجنابة فشكوا للنبي فنزلت "وإن كنتم مرضى…"([31]). فالمقارنة حاصلة بين طهارة أصيلة: الوضوء، وطهارة بديلة: التيمم، وتقرير البديل يجب أن يناسب حال المكلف، واعتبار ظروف التطبيق، فإذا كان الوضوء يترتب عليه المشقة والحرج والمرض (مفسدة)، والتيمم بديل مناسب لرفع هذه الأمور (مصلحة)، فالنتيجة هي أولوية التيمم في هذه الظروف، هذه هي المنهجية التي تعلمنا إياها الآية الكريمة.

3- الأولويات في المفاسد (ارتكاب أخف الضررين)

الشاهد الأول: قوله تعالى: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيم)() ، أي من دعته الضرورة إلى تناول شيء من المحرمات المذكورة من غير ميل ورضاً منه، ومع انتفاء البغي والعدوان في الأكل؛ فله أن يأكل بما يسدّ رمقه، ليحافظ على حياته وهذا مقصد ضروري.

الشاهد الثاني: قوله تعالى: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَاذِبُونَ* مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)()، ذكرت الآية أمرين وهما إما التلفظ بالكفر أو القتل دون ذلك، وكما يقال: أحلاهما مرّ، فكلا الأمرين مفسدة، فأما فوات النفس فمفسدة أعظم من مفسدة التلفظ بالكفر مكرهاً، وهذا ما قرره العلماء، "فإجراء كلمة الكفر على اللسان مفسدة، لكنه جائز بالحكاية والإكراه إذا كان قلب المكره مطمئناً بالإيمان؛ لأن حفظ المهج والأرواح أكمل مصلحة من مفسدة التلفظ بكلمةٍ لا يعتقدها الجنان، وقد نزلت هذه الآية في عمار بن ياسر، فقد أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرهاً" فأخف الضررين التلفظ بالكفر والنجاة من القتل.

القسم الثاني: أدلة المفاضلة بين البشر في القرآن الكريم.

يتساوى الناس جميعاً في النسبة الطينية، وهم في درجة واحدة مهما كان نسبهم، ولكن فضّل الله تعالى في بعض الآيات الكريمة بعضهم على بعض بتقواهم وطاعتهم له ولرسوله صلى الله عليه وسلم وهو أصل كل تفاوت بين البشر، فإذا كانت طبيعة الإنسان تسعى دائماً إلى نيل أعلى الدرجات والحصول على الأفضلية والأسبقية في كل المجالات، فإنه يسعى إلى تحصيل معيار التفاضل، وهو ثابت لا يتغير، هذا المعيار تُبينه الآيات الآتية:

الشاهد الأول: قوله تعالى: ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِير)() ، قيل إن التقسيم في هذه الآية راجع إلى أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وقيل إنه راجع إلى العباد وقد كثرت الأقوال في تحديد هذه الفئات، والذي يعنينا منها أنّ البشر على درجات، وهم في هذه الآية ثلاث فرق، تفاضلت أعمالهم، كلّ له منزلته، فهناك الظالم وهناك المقتصد، وهناك السّابق بالخيرات، فالله تعالى ذكر أنهم متفاوتون عنده بالقُرب وإن كانوا متساوين في أصل الخلقة، وأساس التفاوت مبنيّ على العمل والتقوى .

الشاهد الثاني: قوله تعالى:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير)()، يقول تعالى مخبراً الناس أنه خلقهم من نفسٍ واحدة، وهما آدم وحواء -عليهما السلام- وجعلهم شعوباً وهي أعم من القبائل، فجميع الناس متساوون، وإنما يتفاضلون بالأمور الدينية وهي طاعة الله ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم أي: بالتقوى لا بالأحساب. والله تعالى فاضل بين البشر وقدّم بعضهم على بعض فالأولى والأحسن عنده هو الأتقى.

نماذج من السنة النبوية لمراعاة الأولويات :

بانتقالنا إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم نجد معنى مراعاة الأولويات مبثوثاً في كثير من المواقف والأوامر والتوجيهات التي تلقاها الصحابة رضي الله عنهم وفهموا منها ترتيب الأولى. فنجد فيها جملة من المعايير لبيان الأفضل والأحب إلى الله تعالى من الأعمال والقيم والتكاليف، وبيان ما بينها من تفاوت كبير. وفي الجانب المقابل وضعت معايير لبيان الأعمال السيئة، كما بينت تفاوتها عند الله من كبائر وصغائر ومكروهات وشبهات، وذكرت أحياناً بعض النسب بين الأعمال، وحذرت من أعمال أكثر شراً مما سواها.

ومن استقراء الأحاديث الشريفة نجد أن لمراعاة الأولويات بين الأعمال ثلاثة أنواع هي: الأولويات في المصالح، والأولويات في المصالح والمفاسد، والأولويات في المفاسد.

1- الأولويات في المصالح (أولوية خير الخيرين في السنة النبوية)

الحديث الأول: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الإيمان بضع وسبعون شعبة: أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق".() نَبّه صلى الله عليه وسلم على أن للإيمان شعباً أفضلها: التوحيد المتعين على كل فرد والذي لا يصح شيء من الشعب إلا بعد صحّته، وأدناها: ما يُتوقع ضرره بالمسلمين من إماطة الأذى عن طريقهم، وبقي بين هذين الطرفين أعداد كثيرة من الشعب ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم للعقول السليمة البحث عنها، ولو حاول المجتهد تحصيلها بغلبة الظـنّ وشـدّة التتبع لأمكنه ذلك.

وقد قام النووي بعملية إحصائية لما في الكتـاب من خصال الخير، فوجدها تنقص عن السبعين، ولما في السنة النبوية فوجدها كذلك، وجمع ما في القرآن وما في السنة فوجدها تزيد عن ذلك، فعرف أن المقصود ليس عين العدد .

الحديث الثاني: صحّ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل: أيّ العمل أفضل؟ فقال: "إيمان بالله ورسوله"، قيل: ثم ماذا؟ قال: "الجهاد في سبيل الله"، قيل: ثم ماذا؟ قال: "حج مبرور".()

وقد كثرت الأحاديث النبوية في مثل هذا السياق، فكانت الأسئلة عن أي العمل أفضل؟ وأيها خير؟ وأيها أحب إلى الله ورسوله؟ ولم تكن الإجابة واحدة بل متعددة، والاختلاف قد يعود إلى اختلاف أحوال السائلين وظروفهم، وقد أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم كل قوم بما يحتاجون إليه، أو بما لهم فيه رغبة، أو بما هو لائق بهم، أو لاختلاف الأوقات وما يتناسب معها.

ونجد الحديث الشريف يُعطي الأولوية للإيمان، ثم الجهاد، ثم الحجّ، وفي حديث آخر عن عبد الله بن مسعود قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ قال: "الصلاة لوقتها"، قال: قلت: ثمّ أي؟ قال: "برّ الوالدين"، قلت: ثمّ أي: قال: "الجهاد في سبيل الله"، فما تركت أستزيده إلا إرعاءً عليه.

فهذا الحديث يقرر إعطاء الأولوية للصلاة لوقتها، وبرّ الوالدين ثانياً، والجهاد ثالثاً، وما اختلاف الترتيب إلا ويرجع لأحد الأسباب السابقة.

الحديث الثالث: جاء رجل إلى النّبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد، فسأله النبي: "أحيٌّ والداك؟" قال: نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ففيهما فجاهد".() والحديث يبيّن فضل تعظيم الوالدين، وأن أعمال البرّ يَفضل بعضها على بعض، وفي هذا الحديث تقديم البرّ على الجهاد وتوقفه على إذن الوالدين، ومن لم يبرَّ والديه مع وفور حقهما عليه كان لغيرهما أقلّ براً. والحديث دليل لعظم فضيلة البرّ وأنه آكد من الجهاد في حال السائل، وفيه حجة لما قاله العلماء: أنه لا يجوز الجهاد إلا بإذنهما إن كانا مسلمين، وهذه الإجابة ملائمة لحال السائل، فبرّ الوالدين مُقدّم على الجهاد إذا كان الجهاد في بلاد العدوّ، أما إذا كان العدو قد غزا بلاد المسلمين، فالجهاد فرض عين على كل مسلم، ولا يجب فيه الاستئذان.

وقد بوّب النووي لأحاديث رواها مسلم في صحيحه من هذا النوع فقال: "باب بيان تفاضل الإسلام أو أي أموره أفضل،" ذكر فيه أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير؟ قال: "تطعم الطعام وتُقرأ السلام على من عرفت وعلى من لا تعرف". وفي رواية أخرى: "أيُّ المسلمين خير، قال:"من سَلِم المسلمون من لسانه ويده".()

وقد ذكر العلماء أن معنى الرواية الأولى: أيُّ خصاله وأموره وأحواله أفضل، وقالوا: وقع الاختلاف في الجواب من خير المسلمين لاختلاف حال السائل والحاضرين، فكان في أحد الموضعين الحاجة إلى إفشاء السلام وإطعام الطعام أكثر وأهمّ  لِما حصل من إهمالهما والتساهل في أمورهما ونحو ذلك، وفي الموضع الآخر كان الكفّ عن إيذاء المسلمين بالقول والفعل أفضل.

والأحاديث في هذا الباب كثيرة، ويرى الباحث أن أغلب الأحاديث التي تكون بصيغة الأحاديث السابقة تدل على أن أعمال البرّ كثيرة وهي ذات منزلة رفيعة عند الله، وذات دلالة واضحة على مبدأ الأولويات فأعلاها فرض العين، فالمستحب فالمباح وهكذا.

إلا أن بعض الناس يقع في خلل ترتيب الأَولى خاصةً في أعمال البرّ والخير؛ لأنهم يظنون أنها بالدرجة نفسها، ولها الأجر ذاته، فلا يفرّقون بينها ولهذا يضيع عليهم الأجر الكبير.

ومن الصور الحيّة لنماذج الإخلال في مراعاة الأولويات في واقعنا التبرع بالأموال الطائلة لبناء المساجد في بلدٍ تكثُر مساجده، مع وجود الحاجة لهذه الأموال في أعمال خير أخرى. أو القيام بالحج والعمرة عشرات المرات ، مع أن هنـاك من البـلدان المسلمة المجاهدة من تحتاج إلى اليسير من تكلفتها.

2- الأولويات في المصالح والمفاسد (أولوية المصلحة على المفسدة).

الحديث الأول: عن جابر قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منا حجر فشجّه في رأسه، ثم احتلم فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم، فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أُخبر بذلك، فقال: "قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العيّ السؤال، إنما يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب على جرحه خرقة ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده".()

والحديث دالّ على جواز العدول إلى التيمم خشية الضرر، فالمرض الذي يباح له التيمم هو الذي يُخافُ فيه فوات الروح أو فوات بعض الأعضاء لو استعمل الماء.

فالقصة توضّح سوء الفهم للأولويات، فعند سؤال الرجل أصحابه هل يصلح في حاله التيمم أو الاغتسال، كان حكمهم بالاغتسال لعلّة وجود الماء فلا حاجة للتيمم، فلما رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أوضح لهم أن المقارنة يجب أن تحصل بين: الاغتسال والتيمم في حالة المرض أو خوف فوات النفس، فالتيمم يؤدي إلى مصلحة وهي الحفاظ على النفس، والاغتسال يؤدي إلى مفسدة الضرر وفوات النفس. فاعتبار رخصة التيمم مقدّمة على واجب الغسل للتطهر من الجنابة عند المرض. و في الحديث إشارة صريحة إلى وجوب التفقه بالأولويات لعامّة الناس وإلا لما دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب فتواهم بغير علم.

3- الأولويات في المفاسد (أولوية أخفّ الضررين)

الحديث الأول: عن أنس بن مالك أن أعرابياً بال في المسجد، فقـاموا إليـه، فقال رسـول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزرموه"، ثم دعا بدلوٍ من ماء، فصبّ عليه.()

ولم ينكر النّبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه -رضوان الله عليهم- فعلهم، ولم يقل لهم لم نهيتم الأعرابي، بل أمرهم بالكفّ عنه لدفع أعظم المفسدتين باحتمال أيسرهما.

فلو قمنا بمقارنة سريعة للوصول إلى الحكم بأولوية أحد الأمرين على الآخر فستكون على النحو التالي:

- لو تُرك الصحابة ينهونه عن فعله فقطع بوله، فما النتائج المترتبة على ذلك؟

أولاً: احتمال حدوث داء في بطنه جرّاء ذلك.

ثانياً: لنجس بدنه وثيابه أو مواضع أخرى من المسجد.

أمّا القيام بتركه وعدم زجره فنتيجته واحدة: وهي حصول المنهي عنه بتنجيس موضع واحد من المسجد.

فالأولوية تكون لدفع أعظم المفسدتين، وارتكاب أخف الضررين وهي تركه ومعالجة فعله بتطهير النجاسة، وهذا هو خيار رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أمر بدلوٍ من ماء لتطهير مكان النجاسة.

الحديث الثاني: عن عبد الله بن مسعود قال:" قلت يا رسول الله: أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندّاً وهو خلقك قلت: ثمّ أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك قلت: ثمّ أي؟ قال: "أن تزاني حليلة جارك".()

والحديث دلّ على أن بعض الذنوب أعظم من بعض، فإذا كانت الذنوب الثلاثة المذكورة على ترتيبها في العظم فهناك ذنوب أخرى قد تساوي ما ذُكر في التقدير، أو تكون هي أعظم من تلك المذكورة، ولكن قُصد بالأعظم ما تكثر مواقعته، ويظهر الاحتياج إلى بيانه في ذلك الوقت .

ولا يمتنع أن يكون الذنب أعظم من غيره، وبعض أفراده أعظم من بعض، فهو على درجات ومستويات، فأعلاها الكفر، وأدناها المكروه تنزيهاً، حتى الكفر على درجات فمنه كفر الإلحاد وكفر الشـرك وكفر النفـاق، وغيرها، وكذلك الصغائر فهي أيضا على مراتب.

نماذج من أقوال العلماء في مراعاة الأولويات:

اهتم العلماء بموضوع مراعاة الأولويات وجوهرها- وان لم يذكروها اسماً- وألمحوا إلى أهميتها في الشريعة الإسلامية، فكثرت أقوالهم وفتاواهم وتعليقاتهم على الأوامر والتوجيهات التي وردت في القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة، والتي تنبع بوضوح من فكرة الأولويات وتعدّ شواهد على وجودها.

وهذه الأقوال تعمل على توضيح ما سبق من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة بصيغة قواعد ترشد الخلق لما به صلاحهم، وتُحفظ بها النِّسب الشرعية بأسرها. والعلماء الذين عُنوا بموضوع مراعاة الأولويات كُثر، وأقوالهم هي التي تدل على ذلك من خلال استقراء كتبهم ومؤلفاتهم، ومن هؤلاء العلماء: الغزالي، والعز بن عبد السلام، وابن تيمية، وابن القيم، وابن الجوزي، والشاطبي، وغيرهم. ويكتفي الباحث هنا بذكر ثلاثة نماذج من أقوال العلماء هي: بعض  أقوال للعز بن عبد السلام، وابن تيميه، وابن القيم، وسيتم انتقاء بعضها للدلالة على الموضوع.

أولاً: العز بن عبد السلام (ت660ه).

يُعدّ العز بن عبد السلام من أوائل من أشار إلى علم المقاصد، ومن أبرع من تكلم في مراعاة الأولويات خاصةً في كتابه القواعد الكبرى أو قواعد الأحكام في مصالح الأنام، وقد قال في مقدمة كتابه: "الغرض بوضع هذا الكتاب بيان مصالح الطاعات والمعاملات وسائر التصرفات، ليسعى العباد في كسبها، وبيان مقاصد المخالفات ليسعى العباد في درئها، وبيان مصالح المباحات ليكون العباد على خبرة منها، وبيان ما يقدّم من المصالح على بعض، وما يؤخّر من بعض المفاسد عن بعض، مما يدخل تحت إكساب العباد دون ما لا قدرة لهم عليه، ولا سبيل لهم إليه" .

ومقاصد الشريعة تُعدّ ضابطاً هاماً لتحديد الأولويات في كل مكانٍ وزمان: أقسام مقاصد الشريعة ومراتبها. : دور مقاصد الشريعة في تحديد الأولويات وأهميتها في ذلك، : تطبيق عملي لكيفية تحديد الأولويات عن طريق فهم المقاصد

1- أقسام مقاصد الشريعة وترتيبها.

الشاهد الأول قوله: "أما مصالح الدارين ومفاسدهما في رتب متفاوتة، فمنها ما هو في أعلاها، ومنها ما هو في أدناها، ومنها ما يتوسط بينهما، وهو منقسم إلى متفقٍ عليه ومختلفٍ فيه، فكل مأمورٍ به ففيه مصلحة في الدارين أو أحدهما، وكل منهيٌ عنه ففيه مفسدة فيهما أو في إحداهما، فما كان من الأكساب محصِّلاً لأحسن المصالح فهو أفضل الأعمال، وما كان منها محصِّلاً لأقبح المفاسد فهو أرذل الأفعال"

ولو قمنا بتحليل كلام العز بن عبد السلام لوجدناه يقسّم مراتب المصالح والمفاسد إلى قسمين: الأول في الدنيا، والثاني في الآخرة، وكلُّ قسم يقسّم إلى ثلاثة مراتب:

- المرتبة العليا.

- المرتبة المتوسطة.

- المرتبة الدنيا.

وهذه المراتب للمصالح، وثلاث غيرها للمفاسد. وقد عرّف لنا ما هي المصلحة، وما هي المفسدة، فالمأمورات هي مصالح، والمنهيات هي مفاسد، كما عرّف لنا أعلى مرتبة في المصالح بأنها ما كان من الأعمال محصِّلاً لأحسن المصالح، وعليها نقيس المراتب الأخرى، وعرّف المرتبة العليا في المفاسد بأنها ما حصل أرذل الأعمال وعليها نقيس ما دونه.

الشاهد الثاني قوله: "فمن وفّقه الله تعالى للوقوف على رتب المصالح عَرف فاضلها من مفضولها، ومقدّمها من مؤخّرها، وقد يختلف العلماء في بعض رتب المصالح، فيختلفون في تقديمها عند تَعذّر الجمع، وكذلك من وفّقه الله لمعرفة رتب المفاسد، فإنه يدرأ أعظمها بأخفها عند تزاحمها وقد يختلف العلماء في بعض رتب المفاسد، فيختلفون فيما يُدرأ منها عند تعذّر دفع جميعها"

يُشير العز بن عبد السلام إلى ما يأتي:

- ضرورة مراعاة الأولويات ومن عرف هذا الأمر فهو بتوفيق من الله عزّ وجل، فيستطيع تقديم الفاضل على المفضول، ويدرأ أعظم المفاسد بأخفها.

- حالات التزاحم تُنشئ هذه الضرورة، ويترتب على ذلك اختلاف العلماء في التقديم والتأخير وقد يرجع هذا إلى اعتبار ظروف التطبيق ومكانه وزمانه.

- يؤكد في موضع آخر بقوله: "بأن الاعتماد في جلب معظم مصالح الدارين ودرء مفاسدهما يُبنى في الأغلب على ما يظهر من الظنون"، على أن الحكم بالأولوية مبنيّ على غلبة الظنّ، كما أن أهل الدنيا يتصرفون بناءً على غلبة الظن، فالبشر يأخذون الدواء لعلهم يشفون ويبرؤون، ومعظم هذه الظنون صادق، فاعتمد عليها لأن الغالب صدقها عند قيام أسبابها.

الشاهد الثالث قوله: "تنقسم المصالح والمفاسد إلى نفيس وخسيس، ودقٍّ وجلّ، وكُثر وقلٍّ، وجليّ وخفيّ، وآجل أخروي، وعاجل دنيوي، والدنيوي منقسم إلى متوقّع وواقع، ومختلف فيه ومتفق عليه، وكذلك ترجيح بعض المصالح على بعض، وترجيح بعض المفاسد على بعض، وتقسم إلى المتفق عليه، والمختلف فيه"

وقد أوضح أيضاً  أن من أخذ بمبدأ الحيطة بالتزام المتفق عليه واجتناب المختلف فيه فقد نال صلاح الدنيا والآخرة، وذكر أن الناس في معرفة الأولويات ثلاثة هم:

العامّة: ويعرفون قسماً من المصالح والمفاسد ويعملون على ترجيح الأفضل بحدود علمهم.

الخاصّة: ينفردون بقسم لا تعرفه الفئة الأولى، فيقومون بالترجيح على نطاق أوسع.

خاصّة الخاصّة: وفّقهم الله تعالى للوقوف على الخفي من الترجيح، فهم يعرفون ما لا تعرفه الفئات السابقة لاختصاصهم وسعة فقههم وعلمهم. والحقيقة أن كتاب العز بن عبد السلام كله شواهد دالة على وضوح مراعاة الأولويات وتبلورها في ذهنه، سواء في أقواله أو أمثلته.

ثانيا : ابن القيّم (751ه)

كثرة التقسيمات وتعداد الأصناف والأنواع هي من السمات الغالبة على كتب ابن القيم  فالكفر له أنواع، والجهاد له مراتب، والعبادات والنعم والمعرفة والذكر والتوكل والسعادة وغيرها من الطاعات أو المعاصي فلها مراتب وأقسام، وحتى البشر هم أنواع وأصناف. فمن عرف هذه الأنواع والمراتب، ضُبطت لديه النّسب في الأعمال وكان ممن يميّزون الفروق الدقيقة بين الأحداث والأشخاص، وبالتالي تتبلور قضية مراعاة الأولويات عنده.

ومن الشواهد الدالة على مراعاة الأولويات عند ابن القيّم ما يأتي:

الشاهد الأول قوله:"ومن أصول الشريعة أنه إذا تعارضت المصلحة والمفسدة قُدِّم أرجحهما والضرر إنما نُهي عنه لما فيه من الضرر بهما أو بأحدهما، وفي المنع مما يحتاجون إليه من البيع ضررٌ أعظم من ضرر المخاطرة؛ فلا يزيل أدنى الضررين بأعلاهما بل قاعدة الشريعة ضد ذلك، وهو دفع أعلى الضررين باحتمال أدناهما"

وبالنظر إلى كلامه تُستنبط الفوائد الآتية:

- مراعاة الأولويات من أصول الشريعة الإسلامية وهذا ثابت باتفاق.

- بيع الغرر مثال على تعارض المصلحة والمفسدة، فقدّم أرجحها وهو حرمة هذا البيع لما فيه من المفسدة، ففيه جهل بالمبيع وجهل بالثمن فكلاهما يضرّ.

- هناك قواعد فقهية في الشريعة الإسلامية تفيد في ضبط مراعاة الأولويات وقد ذكر ابن القيم إحداها وهي: دفع أعلى الضررين باحتمال أدناهما.

ويعبّر عن هذه القاعدة بصيغ أخرى مثل: يُختار أهون الشرين، أو إذا تعارضت مفسدتان رُوعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما، أو الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف، أو يُتحمّل الضرر الأخصّ لأجل دفع الضرر الأعم.

الشاهد الثاني قوله: "فأما الكفر فنوعان: كفر أكبر، وكفر أصغر، فالأول هو الموجب للخلود في النار والأصغر: موجب لاستحقاق الوعيد دون الخلود".

وقوله: "الجهاد أربع مراتب: جهاد النفس، وجهاد الشيطان، وجهاد الكفار، وجهاد المنافقين،" وقد ذكر بعدها مراتب كل نوع، فجهاد النفس أربع مراتب، وجهاد الشيطان مرتبتان وجهاد الكفار والمنافقين أربع مراتب .

فهذا التفصيل الدقيق يدل على سعة معرفة ابن القيم بالأولويات فمن عرف مراتب الشيء عرف منزلته ومقامه، وبالتالي عرف أيهما يقدّم من المراتب وأيها يؤخر.

ويرى الباحث أن نقله لأقوال ابن عبد السلام  وابن القيّم بالنصّ هو تأصيل لمراعاة الأولويات عند العلماء وهم قلةٌ من كُثر، ولكن مجال البحث يستلزم الاقتصار على نماذج معينة، فالكثير من العلماء قد عمل على إيضاح فكرة مراعاة الأولويات.

الأولويات في مجال الإصلاح :

أبدء بما قاله نبي الله شعيب عليه السلام ، قال الله تعالى: ( إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب)().

تغيير الأنفس قبل تغيير الأنظمة

ومن الأولويات المهمة في مجال الإصلاح: العناية ببناء الفرد قبل بناء المجتمع، أو بتغيير الأنفس قبل تغيير الأنظمة والمؤسسات، والأفضل أن نستخدم التعبير القرآني وهو تغيير ما بالأنفس: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، فهذا أساس كل إصلاح أو تغيير أو بناء اجتماعي: البداءة بالفرد، فهو أساس البناء كله، إذ لا أمل في إقامة بناء سليم متين، إذا كانت لبناته واهية أو فاسدة.

والإنسان الفرد هو اللبنة الأولى في جدار المجتمع، ولهذا كان كل جهد يبذل لتكوين الإنسان المسلم الحق وتربيته ـ تربية إسلامية كاملة ـ له الأولوية على ما سواه. لأنه مقدمة ضرورية لكل أنواع البناء والإصلاح، وهذا هو تغيير ما بالنفس.

إن بناء الإنسان الفرد الصالح هو مهمة الأنبياء الأولى، ومهمة خلفاء الأنبياء وورثتهم من بعدهم.

وإنما يبنى الإنسان أول ما يبنى بالإيمان، أي بغرس العقيدة الصحيحة في قلبه، التي تصحح له نظرته إلى العالم وإلى الإنسان، وإلى الحياة وإلى رب العالم، وبارئ الإنسان، وواهب الحياة، وتعرف الإنسان بمبدئه ومصيره ورسالته، وتجيبه عن الأسئلة المحيرة لمن لا دين له: من أنا؟ ومن أين جئت؟ وإلى أين أصير؟ ولماذا وجدت؟ وما الحياة وما الموت؟ وماذا قبل الحياة؟ وماذا بعد الموت؟ وما رسالتي في هذا الكوكب منذ عقلت حتى يدركني الموت؟

الإيمان ـ ولا شيء غيره ـ هو الذي يمنح الإنسان إجابات شافية عن هذه الأسئلة المصيرية الكبرى، ويجعل للحياة هدفا ومعنى وقيمة. وبدون هذا الإيمان سيظل الإنسان هباءة تائهة، أو ذرة تافهة، في هذا الوجود، لا قيمة له من حيث الحجم أمام مجموعات هذا الكون الكبير، ولا من حيث العمر، أمام الأزمة الجيولوجية المتطاولة، والأزمنة المستقبلية اللانهائية، ولا من حيث القدرة، أمام أحداث الطبيعة التي رآها تهدده، بالزلازل والبراكين والأعاصير والفيضانات التي تدمر وتقتل، والإنسان أمامها عاجز أشل اليدين، رغم ما يملك من علم وإرادة وتكنولوجيا متطورة.

الإيمان هو طوق النجاة دائما، وبه يمكن تغيير الإنسان من داخله، وإصلاحه من باطنه، فالإنسان لا يقاد كما تقاد الأنعام، ولا يصنع كما تصنع الآلات من حديد أو نحاس أو معدن.

إنما يحرك من عقله وقلبه، يقنع فيقتنع، ويهدى فيهتدي، ويرغب ويرهب، فيرغب ويرهب. والإيمان هو الذي يحرك الإنسان ويوجهه ويولد فيه طاقات هائلة، لم تكن لتظهر بدونه، بل هو ينشئه خلقا جديدا، بروح جديدة، وعقل جديد، وعزم جديد، وفلسفة جديدة. كما رأينا ذلك في سحرة فرعون حين آمنوا برب موسى وهارون، وتحدوا جبروت فرعون، وقالوا له في شموخ واستعلاء: (فاقض ما أنت بقاض، إنما تقضي هذه الحياة الدنيا).

ورأيناه في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نقلهم إيمانهم من الجاهلية إلى الإسلام: من عبادة الصنم، ورعاية الغنم، إلى رعاية الأمم، وقيادة البشرية إلى هداية الله، وإخراجها من الظلمات إلى النور.

ولقد ظل النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر عاما في مكة كل همه فيها وكل عمله ـ من التبليغ والدعوة ـ بناء الجيل الأول على معاني الإيمان.

تلك السنون كلها لم تنزل فيها تشريعات تنظم المجتمع وتضبط علاقاته الأسرية والاجتماعية، وتعاقب من ينحرف عن قوانينه. بل كان عمل القرآن، وعمل الرسول هو بناء هذا الإنسان وهذا الجيل من أصحابه، وتربيته وتكوينه، ليربى العالم كله بعد ذلك.

كانت دار الأرقم بين أبي الأرقم تقوم بدورها. وكان كتاب الله الذي يتنزل عليه منجما حسب الوقائع، ليقرأه على الناس على مكث، ويثبت به فؤاده، وأفئدة الذين آمنوا معه، ويرد على أسئلة المشركين ويعقب على مواقفهم ـ يقوم بالدور الأكبر في تربية الفئة المؤمنة، وحسن تسييرها، وترشيد سيرها. قال تعالى: (وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا)، (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة، كذلك لنثبت به فؤادك، ورتلناه ترتيلا، ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا).

إن أهم ما ينبغي أن نشغل به اليوم إذا أردنا إصلاح حالنا: أن نبدأ البداية الصحيحة، وذلك ببناء الإنسان، بناءا حقيقيا لا صوريا، نبني عقله وروحه وجسمه وخلقه، بناء متوازنا لا طغيان فيه ولا إخسار في الميزان، نبنيه عقليا بالثقافة وروحيا بالعبادة، وجسميا بالرياضة، وخلقيا بالفضيلة، وعسكريا بالخشونة، واجتماعيا بالمشاركة، وسياسيا بالتوعية، ونعده للدين وللدنيا معا، وليكون صالحا في نفسه مصلحا لغيره، حتى ينجو من خسر الدنيا والآخرة، الذي ذكره الله في سورة العصر: (والعصر، إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر).

ولا يتم ذلك إلا في ضوء تصور كلي للوجود، وفلسفة واضحة للحياة، ومشروع متكامل للحضارة، تؤمن به الأمة، وتربي أبناءها وبناتها على اليقين به، والعمل وفق حكمه، والسير على نهجه، تتعاون على ذلك كل المؤسسات: الجامع والجامعة، والكتاب والصحيفة، والتلفاز والإذاعة، فلا تشرق مؤسسة في حين تغرب أخرى، ويبني جهاز على حين يهدم آخر.

ويصدق فينا قول الشاعر قديما:

إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم؟!            وهل يبلغ البنيان يوما تمامه

التربية قبل الجهاد

وهذا ما جعل دعاة الإصلاح الأصلاء ينادون اليوم بوجوب تقديم التربية على الجهاد، والتكوين على التمكين.

ونعني بالتربية والتكوين: بناء الإنسان المؤمن، الذي يستطيع أن ينهض بعبء الدعوة، وتكاليف الرسالة، لا يبخل بمال، ولا يضن بنفس، ولا يبالي بما يصيبه في سبيل الله. وهو في الوقت نفسه نموذج عملي، تتجسد فيه قيم دينه، وأخلاق دعوته. ففيه يرى الناس الإسلام حيا ملموسا.

وبناء هذا الإنسان أو تربيته وتكوينه أمر مطلوب دائما، ولكنه أشد ما يكون طلبا عندما يراد تأسيس دين جديد، أو أمة جديدة ذات رسالة جديدة. وكذلك عندما يضعف دين ما، ويدرك الوهن أمته، ويحتاج الدين إلى تجديد، والأمة إلى إحياء، فلا مناص من البداية الضرورية للتجديد والإحياء والإصلاح، وهي تربية جيل جديد، يمثل طلائع الأمة المنشودة.

هذا البناء والتكوين للإنسان، في صورة جيل مؤمن حقا، مؤهل لحمل راية الإصلاح والبعث، لابد أن يسبق كل دعوة إلى الجهاد المسلح لتغيير المجتمع، وإقامة الدولة.

ولهذا كانت مهمة القرآن المكي ـ طيلة ثلاثة عشر عاما ـ العمل على بناء هذا الإنسان، وتربية جيل الطلائع، تربية إيمانية أخلاقية عقلية متكاملة. وكان المثل الكامل لهذا الجيل هو الرسول صلى الله عليه وسلم: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة).

كانت مهمة القرآن في العهد المكي ترسيخ أصول العقيدة، وأصول الفضائل، ومكارم الأخلاق، وتأصيل منهج النظر السليم، والتفكير الرشيد، ومطاردة عقائد الجاهلية، وأصول رذائلها وآفاتها في الفكر والسلوك، وربط الإنسان بربه ربطا لا تنفصم عراه.

يقول الله تعالى في سورة المزمل، وهي من أوائل ما نزل من القرآن: (يا أيها المزمل، قم الليل إلا قليلا، نصفه أو انقص منه قليلا، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا، إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا).

فهذه التربية العميقة في مدرسة الليل، ومدرسة القرآن، إنما هي تهيئة لتحمل "القول الثقيل" الذي ينتظره، وما كان ثقله إلا لثقل الأمانة التي يعبر عنها.

وظلت آيات القرآن تتنزل على هذا المنهج، تغرس العقائد والمفاهيم، وتزرع القيم والفضائل، وتطهر العقول والقلوب من رجس الجاهلية، وتربيها على معاني الإيمان وما يتطلبه من صبر ومصابرة، وثبات، وبذل في نصرة الحق، ومجاهدة الباطل، وتنقية العقول من التقليد الأعمى للأجداد والآباء، أو للسادة والكبراء، قبل أن تنزل آية واحدة تأمر بالجهاد المسلح، والصراع الدامي مع أهل الشرك وعبدة الطاغوت.

بل كانوا يجيئون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما بين مضروب ومشجوج ومجروح، يشكون إليه ما أصابهم، مطالبين بحمل السلاح دفاعا عن أنفسهم، وحربا لعدوهم وعدو دينهم. ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول لهم ما حكاه القرآن: (كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة).

ليس معنى هذا التهوين من شأن الجهاد، فهو ذروة سنام الإسلام، ولكن حديثنا عن الأولويات، والأولوية هنا للتربية والتكوين.

ومن حسن التربية: إعداد الأنفس للجهاد عندما يجئ أوانه. كما في سورة المزمل: (علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله).

على أن الجهاد المؤجل هو الجهاد المسلح فحسب، الجهاد بالسيف والسنان، أما الجهاد بالدعوة والبيان، أو الجهاد بالقرآن، فهو مطلوب وقائم من أول يوم، وفي سورة الفرقان ـ وهي مكية ـ يقول تعالى لرسوله: (فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا).

ومثل ذلك جهاد الصبر والثبات واحتمال الأذى في سبيل الدعوة إلى الله. وهو ما نوهت به أوائل سورة العنكبوت: (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم، فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) إلى أن قال: (ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه، إن الله لغني عن العالمين).

والتربية التي نتحدث عنها تدخل في هذا النوع وذلك من الجهاد.

وقد ذكر الإمام ابن القيم في الهدي النبوي ثلاث عشرة مرتبة من مراتب الجهاد، منها أربع مراتب في جهاد النفس، واثنتان في جهاد الشيطان، وثلاث في جهاد أرباب الظلم والبدع والمنكرات، وأربع في جهاد الكفار، منها الجهاد بالقلب واللسان والمال. فالمؤجل منها هو الجهاد بالنفس أو باليد.

يقول رحمه الله: "لما كان من أفضل الجهاد قول الحق مع شدة المعارض، مثل أن تتكلم به عند من تخاف سلطته وأذاه، كان للرسل ـ صلوات الله عليهم وسلامه ـ من ذلك الحظ الأوفر، وكان لنبينا ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ من ذلك أكمل الجهاد وأتمه".

ولما كان جهاد أعداء الله في الخارج فرعا على جهاد العبد نفسه في ذات الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه" كان جهاد النفس مقدما على جهاد العدو في الخارج، وأصلا له، فإنه ما لم يجاهد نفسه أولا لتفعل ما أمرت به، وتترك ما نهيت عنه، ويحاربها في الله، لم يمكنه جهاد عدوه في الخارج، فكيف يمكنه جهاد عدوه والانتصاف منه، وعدوه الذي بين جنبيه قاهر له، متسلط عليه، لم يجاهده، ولم يحاربه في الله؟ بل لا يمكنه الخروج إلى عدوه، حتى يجاهد نفسه على الخروج.

فهذان عدوان قد امتحن العبد بجهادهما، وبينهما عدو ثالث، لا يمكنه جهادهما إلا بجهاده، وهو واقف بينهما يخيل له ما في جهادهما من المشاق، وترك الحظوظ، وفوت اللذات، والمشتهيات، ولا يمكنه أن يجاهد ذينك العدوين إلا بجهاده، فكان جهاده هو الأصل لجهادهما، وهو الشيطان، قال تعالى: (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا). والأمر باتخاذه عدوا تنبيه على استفراغ الوسع في محاربته ومجاهدته، كأنه عدو لا يفتر، ولا يقصر عن محاربة العبد على عدد الأنفاس.

فهذه ثلاثة أعداء، أمر العبد بمحاربتها وجهادها، وقد بلى بمحاربتها في هذه الدار، وسلطت عليه امتحانا من الله وابتلاء، وجعل بعضهم لبعض فتنة، ليبلو أخبارهم، ويمتحن من يتولاه ويتولى رسله، ممن يتولى الشيطان وحزبه.

وأمر المؤمنين أن يجاهدوا فيه حق جهاده، كما أمرهم أن يتقوه حق تقاته، وكما أن حق تقاته أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر، فحق جهاده أن يجاهد العبد نفسه ليسلم قلبه ولسانه وجوارحه لله، فيكون كله لله، وبالله، لا لنفسه، ولا بنفسه، ويجاهد شيطانه بتكذيب وعده، ومعصية أمره، وارتكاب نهيه، فإنه يعد الأماني، ويمني الغرور، ويعد الفقر، ويأمر بالفحشاء، وينهى عن التقى والهدى، والعفة والصبر، وأخلاق الإيمان كلها، فجاهده بتكذيب وعده، ومعصية أمره، فينشأ له من هذين الجهادين قوة وسلطان وعدة، يجاهد بها أعداء الله في الخارج بقلبه ولسانه ويده وماله، لتكون كلمة الله هي العليا.

قال ابن القيم: إذا عرف هذا، فالجهاد أربع مراتب: جهاد النفس، وجهاد الشيطان، وجهاد الكفار، وجهاد المنافقين.

فجهاد النفس أربع مراتب أيضا:

إحداها: أن يجاهدها على تعلم الهدى، ودين الحق الذي لا فلاح لها، ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به، ومتى فاتها علمه، شقيت في الدارين.

الثانية: أن يجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجرد العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها.

الثالثة: أن يجاهدها على الدعوة إليه، وتعليمه من لا يعلمه، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبينات، ولا ينفعه علمه، ولا ينجيه من عذاب الله.

الرابعة: أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله، وأذى الخلق، ويتحمل ذلك كله لله، فإذا استكمل هذه المراتب الأربع، صار من الربانيين، فإن السلف مجمعون على أن العالم لا يستحق أن يسمى ربانيا حتى يعرف الحق، ويعمل به، ويعلمه، فمن علم وعمل وعلّم فذاك يدعى عظيما في ملكوت السماوات.

وأما جهاد الشيطان، فمرتبتان، إحداهما: جهاد على دفع ما يلقى إلى العبد من الشبهات والشكوك القادحة في الإيمان.

الثانية: جهاده على دفع ما يلقى إليه من الإرادات الفاسدة والشهوات، فالجهاد الأول يكون بعدة اليقين، والثاني يكون بعدة الصبر. قال تعالى: (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا، وكانوا بآياتنا يوقنون)، فأخبر أن إمامة الدين، إنما تنال بالصبر واليقين، فالصبر يدفع الشهوات والإرادات الفاسدة، واليقين يدفع الشكوك والشبهات.

وأما جهاد الكفار والمنافقين، فأربع مراتب: بالقلب، واللسان، والمال، والنفس، وجهاد الكفار أخص باليد، وجهاد المنافقين أخص باللسان.

وأما جهاد أرباب الظلم، والبدع، والمنكرات، فثلاث مراتب، الأولى: باليد إذا قدر، فإن عجز، انتقل إلى اللسان، فإن عجز، جاهد بقلبه، فهذه ثلاثة عشر مرتبة من الجهاد، و"من مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة من النفاق".

ولا ريب أن المراتب الست الأولى داخلة كلها في التربية المنشودة هنا. فهي ـ في الدرجة الأولى ـ جهاد للنفس، وجهاد للشيطان.

لماذا كان للتربية الأولوية؟

ولكن لماذا كان للتربية الأولوية على الجهاد؟

يمكننا أن نوضح هذا في جملة نقاط أو أسباب:

أولا: أن الجهاد في الإسلام ليس أي جهاد، ولكنه جهاد بنية خاصة، لغاية خاصة، فهو جهاد "في سبيل الله". وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل حمية (عصبية لقومه)، والرجل يقاتل ليرى مكانه (ليذكر بالشجاعة) والرجل يقاتل للمغنم: أيهم في سبيل الله؟ فقال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو سبيل الله".

وهذا النوع من التجرد من كل دافع دنيوي، لا ينشأ اعتباطا، بل لابد من تربية طويلة المدى، حتى يخلص دينه لله، ويخلصه الله لدينه.

ثانيا: أن ثمرة الجهاد التي يتطلع إليها المجاهد المسلم في الدنيا هي التمكين والنصر. وهذا التمكين لا يؤتى أكله إلا على أيدي مؤمنين صادقين، يستحقون التمكين، ويقومون بواجباته. وهم الذين ذكرهم الله بقوله: (ولينصرن الله من ينصره، إن الله لقوي عزيز، الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر)، (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا، يعبدونني لا يشركون بي شيئا).

إن الذين يمكنون وينتصرون قبل أن تنضجهم التربية، قد يفسدون أكثر مما يصلحون.

ثالثا: إن سنة الله ألا يتحقق هذا التمكين إلا بعد أن يصهر أهله في بوتقة الابتلاء، وتصقلهم المحن والشدائد، ليبتلي الله ما في صدورهم، ويمحص ما في قلوبهم، ويميز الخبيث من الطيب، وهذا لون من التربية العملية، جرى به القدر على الأنبياء وأصحاب الدعوات في كل العصور. وقد سئل الإمام الشافعي: أيهما أولى للؤمن: أن يبتلى أو يمكّن؟ فقال: وهل يكون تمكين إلا بعد ابتلاء؟ إن الله ابتلى يوسف عليه السلام ثم مكّن له، كما قال تعالى: (وكذلك مكّنّا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء).

إن التمكين الذي يجئ سهل المأخذ، داني القطوف، يخشى أن يضيعه أهله، أو يفرطوا في ثمراته، على عكس ما لو بذلوا فيه من أنفسهم وأموالهم وراحتهم، ومستهم البأساء والضراء والزلزلة حتى أتى نصر الله.

أولوية المعركة الفكرية

المعركة الفكرية داخل الساحة الإسلامية

ومما يجب لفت الأنظار إليه في مجال الإصلاح: تقديم كل ما يتعلق بتقويم الفكر، وتصحيح التصور، وتصويب منهج النظر والعمل. فهذا بلا ريب هو الأساس المكين لكل إصلاح يرتجى. إذ من غير المعقول أن يستقيم العمل على منهج سليم، والفكر غير مستقيم. كما قال الشاعر:

متى يستقيم الظل والعود أعوج؟

فمن ساء تصوره لأمر ما، فالمتوقع أن يسوء سلوكه في شأنه، فإن السلوك أثر للتصور، حسنا أو قبحا.

ومن هنا كانت المعركة الفكرية ـ التي تعنى بتصحيح الأفكار المعوجة، والمفاهيم المغلوطة ـ لها الأولوية وحق التقديم على غيرها. وهو ضرب من "الجهاد الكبير" بالقرآن، الذي ذكرته سورة الفرقان المكية، ومن الجهاد باللسان والبيان، الذي ذكره الحديث النبوي: "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم".

المعركة الفكرية داخل الساحة الإسلامية

وللمعركة الفكرية مجالان أساسيان:

الأول: خارج الساحة الإسلامية، مع الملاحدة والمنصرين والمستشرقين الذين يهاجمون الإسلام: عقيدة وشريعة، وتراثا وحضارة، ويحاربون أي نهضة أو بعث على أساس الإسلام.

والثاني: داخل الساحة الإسلامية نفسها، لتصحيح الاتجاه في فصائل العمل الإسلامي، وترشيد مسيرته، وتصويب حركته، حتى تسير في الطريق الصحيح للهدف الصحيح. وسنقصر الحديث عليه، فإن إصلاح الداخل هو الأساس، وله الأولوية.

فما لا شك فيه أن لدينا تيارات عدة، منها:

التيار الخرافي

التيار أو التوجه الخرافي، الذي يقوم على أسس أو خصائص يتفرد بها، منها:

‌أ- الخرافة في الاعتقاد.

‌ب- الابتداع في العبادة.

‌ج- الجمود في الفكر.

‌د- التقليد في الفقه.

‌ه- السلبية في السلوك.

‌و- المسايرة أو المداهنة في السياسة.

التيار الحرفي

وهناك التيار أو التوجه الحرفي، وهذا له ـ رغم تشدده في أمر الدين ودفاعه عنه ـ خصائص غلبت على أكثر أتباعه تميزه أيضا، منها:

‌أ- الجدلية في العقيدة.

‌ب- الشكلية في العبادة.

‌ج- الظاهرية في الفقه.

‌د- الجزئية في الاهتمام.

‌ه- الجفاف في الروح.

‌و- الخشونة في الدعوة.

‌ز- الضيق بالخلاف .

تيار الرفض والعنف

وهناك التوجه الذي يقوم على رفض المجتمع كله بجميع مؤسساته، وله ـ رغم تميز جل أفراده بالحماس والإخلاص ـ خصائصه أيضا، منها:

‌أ- الشدة والصرامة في الالتزام بالدين.

‌ب- الاعتزاز بالذات اعتزازا يؤدي إلى نزعة الاستعلاء على المجتمع.

‌ج- سوء الظن بالآخرين جميعا.

‌د- ضيق الأفق في فهم الدين، وفهم الواقع، وفهم السنن الكونية والاجتماعية.

‌ه- استعجال الأشياء قبل أوانها.

‌و- المسارعة إلى التكفير بغير تحفظ.

‌ز- اتخاذ القوة سبيلا إلى تحقيق الأهداف.

التيار الوسطي

وهناك التيار الوسطي، الذي يقوم على التوازن والوسطية في فهم الدين والحياة والعمل لتمكين الدين، وله خصائص أيضا تميزه عن سواه، منها تأكيده وتركيزه على المبادئ التالية:

‌أ- فقهه للدين فقها يتميز بالشمول والاتزان والعمق.

‌ب- فقهه لواقع الحياة دون تهوين ولا تهويل: واقع المسلمين، وواقع أعدائهم.

‌ج- فقه سنن الله وقوانينه التي لا تتبدل، وخصوصا سنن الإجماع البشري.

‌د- فقه مقاصد الشريعة وعدم الجمود على ظواهرها.

‌ه- فقه الأولويات، وهو مرتبط بفقه الموازنات.

‌و- فقه الاختلاف وأدبه مع الفصائل الإسلامية الأخرى (التعاون في المتفق عليه والتسامح في المختلف فيه).

‌ز- الجمع بين السلفية والتجديد (أو بين الأصالة والمعاصرة).

‌ح- الموازنة بين ثوابت الشرع ومتغيرات العصر.

‌ط- الإيمان بأن التغيير الفكري والنفسي والخلقي أساس كل تغيير حضاري.

‌ي- تقدير الإسلام مشروعا حضاريا متكاملا، لبعث الأمة، وإنقاذ البشرية من الفلسفات المادية المعاصرة.

‌ك- اتخاذ منهج التيسير في الفتوى، والتبشير في الدعوة.

‌ل- إبراز القيم الاجتماعية والسياسية في الإسلام، مثل: الحرية والكرامة والشورى والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان.

‌م- الحوار بالحسنى مع الآخر، أي مع المخالفين من غير المسلمين، أو من المسلمين المغزوين عقليا، والمهزومين روحيا.

‌ن- اتخاذ الجهاد سبيلا للدفاع عن حرمات المسلمين وديار الإسلام.

وهذا هو التيار الذي نؤمن به، وندعو إليه، ونعتبر أنه هو المعبر الحقيقي عن الإسلام، كما أنزله الله في كتابه، وكما هدى إليه رسوله في سنته وسيرته، وكما فهمه وطبقه الراشدون المهديون من أصحابه، وكما فقهه التابعون لهم بإحسان من خير قرون هذه الأمة.

واجب تيار الوسطية

ولا مراء في أن هذا التيار هو موطن الأمل، ومعقد الرجاء في الغد، وعليه أن يبذل جهودا مكثفة في إبراز دعوته، وتربية أنصاره، وإقناع خصومه، والحوار مع معارضيه، والاجتهاد في الإفلات من الشباك التي تنصب له لإيقاعه فيما لا يريد ولا يحب التربية والثقافة، ثم تأتي القوانين سياجا وحماية.

فالواجب ـ إذن ـ أن نعطي هذه القضية حجمها الحقيقي من الفكر والعمل، وأن تعطى مساحات مناسبة للاشتغال والإعداد والمطالبة بـ "تربية إسلامية متكاملة معاصرة" تتابع الطفل المسلم من سن الحضانة، وتستمر معه، حتى يتخرج من الجامعة، مستخدمة المناهج الملائمة، والأساليب المشوقة، والوسائل السمعية والبصرية، والتكنولوجيا المتطورة، بما يحقق ضرورة الدين للحياة، ويؤكد كمال الإسلام وعدالة أحكامه، وإعجاز كتابه، وعظمة رسوله، وتوازن حضارته، وخلود أمته.

وليست هذه التربية مطلوبة في درس الدين أو التربية الإسلامية فحسب، بل هي مطلوبة، في كل الدروس والمواد العلمية والأدبية، دون افتعال. فلتلتمس في العلوم والمواد الاجتماعية واللغة والأدب، وتلتمس في الأنشطة المدرسية، وفي الجو العام، حتى يساعد على تنشئة جيل مسلم مؤمن بالله معتز بدينه وأمته، متكامل النماء بروحه وعقله وجسمه ووجدانه، مخلص لربه، خادم لوطنه، متسامح مع غيره، عامل لخير الإنسانية جمعاء.

ولابد من الوقوف في وجه الفلسفات والمناهج المادية واللادينية المستوردة، الفارغة من روح الدين، والمناقضة لفلسفة الإسلام عن الله وعن الإنسان، وعن الحياة والعالم، وعن الدين والدنيا.

كما يجب أن تعطى مساحات أخرى مناسبة كذلك، لقضية الإعلام والثقافة، التي غدت من أشد المؤثرات في حياتنا الفردية والاجتماعية، وأصبحت أدوات الإعلام هي التي تصنع العقول والميول والأذواق والاتجاهات الفكرية والنفسية عند جماهير الناس.

فلا يجوز بحال من الأحوال أن تترك هذه في أيدي من لا يؤمنون بالإسلام مرجعا أعلى لحياة الإنسان المسلم وحياة الجماعة المسلمة، في التعامل والفكر والسلوك.

ولابد من العمل على محورين اثنين متكاملين:

الأول: إعداد إعلاميين إسلاميين في كل المجالات، وعلى كل المستويات، قادرين على أن يمثلوا الإسلام، ويمثلوا العصر بإمكاناته الهائلة.

ويدخل في ذلك أهل الفنون المختلفة من غناء ومسرح وتمثيل.

وهنا نحتاج إلى من يكتب النص، ومن يحوله إلى حوار (سيناريو)، ومن يخرجه ويمثله، ومن يصوره، ومن ينفذه.

وهذه أمور ليست بالسهلة، وفيها عقبات شرعية وغير شرعية. يجب العمل على تذليلها، ولو بقبول المرحلية فيها، ووضع خطة محددة الأهداف، بينة الوسائل، معروفة المراحل، لاستكمال الناقص، وإتمام البناء.

الثاني: محاولة كسب الإعلاميين والفنانين الحاليين، فلاشك أن فيهم من المسلمين المصلين الصائمين، ولكنهم ـ بحكم تربيتهم وثقافتهم ـ يحسبون أن ما يصنعونه ليس مخالفا للإسلام، ولا يجلب سخط الله عليهم، وربما عرف بعضهم شيئا من ذلك، ولكن العيشة التي يعيش فيها، والحياة التي تعودها، غلبت عليه.

والواجب هنا بذل الجهد مع هؤلاء، حتى يتفقهوا في دينهم، ويتوبوا إلى ربهم، وينضموا إلى قافلة الداعين إلى الإسلام وفضائله.

ولقد عرفت السنوات الأخيرة توبة عدد من الفنانين، وعدد أكبر من الفنانات، ولكن أكثرهم اعتزلوا الفن وأهله، نجاة بأنفسهم، وفرارا بدينهم.

وأولى من ذلك أن يثبتوا في هذا المعترك الصعب، وهذا الميدان الشاق، وأن يقولوا ما قال عمر بن الخطاب بعد إسلامه: "والله لا يبقى مكان كنت أعلن فيه الجاهلية إلا أعلنت فيه الإسلام". وهذا لا يكون إلا بالتعاون بين الجميع، والتغلب على المعوقات .

الخاتمة

في نهاية هذا البحث نحمد الله تعالى الموفق على إتمامه، ونسرد أهم النتائج التي توصلنا إليها:

1- يمكن أن نعرّف الأولويات بالقاعدة المَبْنيّة على فهم الأنسب والأجدر من الأعمال، ومعرفة فاضل الأعمال ومفضولها، وراجحها ومرجوحها، بناءً على العلم بمراتبها، وبالواقع الذي يتطلبها، بغرض تحقيق أهم المصالح بأخف الأضرار، ومعرفة النتائج التي يؤول إليها تطبيق تلك الأعمال.

2- تبيّن من خلال تأصيـل مراعـاة الأولويـات في القرآن الكريم والسنة النبوية وأقوال العلماء أن مراعاة الأولويات ثابت ومحدّد في الشريعة الإسلامية والشواهد على ترتيب الأولويات كثيرة, فأغلب الأوامر والنواهي اقترنت بإشارات واضحة إلى اعتبار ظروف التطبيق مكاناً وزماناً, وتقرير البديل الذي يناسب حال المكلف.

3- تبيّن من خلال الدراسة أن هناك بعض المحدّدات التي تساعد على ضبط الأولويات، وتظهر كيفية مراعاتها.

كانت هذه أهم نتائج البحث, أما عن التوصيات فهي:

1- أن تقوم المؤسسات التربوية بتعليم النشء مهارة مراعاة الأولويات عبر آليات مختلفة، من دورات تدريبية، وورش عمل، وبرامج عملية وإرشادية لجميع المراحل العمرية. لتحقيق التنمية المستدامة والاستخلاف الإنساني والنهوض الحضاري.

2- ضرورة ترتيب المسلمين لأولوياتهم، وتوجيه قادة الرأي في المجتمع الإسلامي الناس إلى أهمية بناء العقليات وفق الأولويات.

والله أعلى وأعلم آخر دعوانا الحمد لله رب العالمين .

                                                                                                             إعداد الباحث/ عمر فاروق محمود محمد

                                                                                                           (كبير أئمة بدرجة مدير عام) أوقاف أسيوط

المصادر والمراجع

- القرآن الكريم.

- كتب التفسير:

§ أحكام القرآن: أبو بكر أحمد الرازي ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405، تحقيق محمد القمحاوي.

§ أحكام القرآن: أبو بكر محمد بن عبدالله بن العربي، مطبعة الحلبي، القاهرة، 1376، 1957م.

§ تفسير القرآن العظيم: أبو الفداء إسماعيل بن كثير القرشي، دار الحديث، القاهرة، 1423?، 2002م.

§ الجامع لأحكام القرآن: محمد بن أبي بكر بن فرح القرطبي، دار الحديث، القاهرة، ط2، 1416?، 1996م، تحقيق محمد الحفناوي، ومحمود عثمان.

§ مفاتيح الغيب: محمد الرازي، المطبعة الخيرية، ط1، 1307.

- كتب السنة وشروح الحديث:

§ أولاً: كتب السنة:

§ سنن ابن ماجه: أبو عبدالله محمد بن يزيد القزويني ، مكتبة المعـارف،

§ صحيح ابن حبان: محمد بن حبان بن أحمد التميمي البستي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1414?، 1993م.

§ صحيح البخاري: محمد بن إسماعيل البخاري، دار ابن كثير، اليمامة، بيروت، ط3، 1407، تحقيق مصطفى البغا.

§ صحيح مسلم: أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (ت 261)، مكتبة الرشد، الرياض، 1422، 2001م.

§ المسند: أحمد بن محمد بن حنبل، مؤسسة قرطبة، مصر.

§ ثانياً: كتب الشروح:

§ شرح صحيح مسلم: أبو زكريا محيي الدين يحيي بن شرف بن مري النووي، دار المنار، القاهرة، 1423، 2003م، صلاح عويضة، ومحمد شحاتة.

§ الطبقات الكبرى: محمد بن سعد بن منيع أبو عبدالله البصري الزهري- دار صادر – بيروت.

§ عون المعبود شرح سنن أبي داود: محمد شمس الحق أبو الطيب العظيم أبادي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 1415?.

§ فتح الباري بشرح صحيح البخاري: الحافظ أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت 851)، دار الفكر، بيروت، ط1، 1420?، 2000م، مصححة على النسخة التي أجازها الشيخ عبدالعزيز بن باز.

§ نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار: محمد بن علي بن محمد الشوكاني (ت 1250)، المطبعة العثمانية، القاهرة، 1957م.

- كتب الفقه:

§ بداية المجتهد ونهاية المقتصد: محمد بن أحمد بن محمد القرطبي الأندلسي، دار الفكر، بيروت.

§ بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع: أبو بكر علاء الدين بن مسعود الكاساني (ت587)، دار الكتاب العربي، بيروت، 1982م.

§ كشاف القناع: منصور بن يونس بن إدريس البهوتي، دار الفكر، بيروت، 1402، تحقيق هلال مصيلحي.

§ المبسوط: شمس الأئمة السرخسي، دار المعرفة، بيروت، ط1، 1406.

§ مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج: شمس الدين محمد بن الخطيب الشربيني (ت 977)، دار الفكر، بيروت، 1415?، 1995م، تحقيق صدقي العطار.

§ المغني على مختصر الخرقي: أبو محمد عبدالله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1414?، 1994م.

§ المهذب في فقه الإمام الشافعي: أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروز آبادي الشيرازي (ت 476)، دار الفكر، بيروت، ط1، 1416، 1995م.

- السيرة والتاريخ:

§ تاريخ الخلفاء: جلال الدين عبدالرحمن السيوطي، دار الفكر العربي، تحقيـق محمد أبو الفضل إبراهيم.

§ تذكرة الحفاظ: تأليف: محمد بن أحمد بن عثمان الذهبى, دار الكتب العلمية بيروت-لبنان- الطبعة الأولى 1419هـ- 1998م.

§ جامع الأصول في أحاديث الرسول: ابن الأثير 2005م.

§ خاتم النبيين: محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة، 1993م.

§ الرحيق المختوم: صفي الرحمن المباركفوري، دار اليقين، ط1، 1411، 1991م.

§ زاد المعاد في هدي خير العباد: أبو عبدالله محمد بن أبي بكر الزرعي الدممشقي (ت 751)، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 14، 1410، 1990م، تحقيق شعيب الأرناؤوط، وعبدالقادر الأرناؤوط.

§ السيرة النبوية: أبو عبدالملك محمد بن هشام (ت 213)، دار الفجر، القاهرة، ط2، 1425، 2004م.

- المعاجم اللغوية:

§ القاموس المحيط: مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي (ت 817)، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 6، 1419?، 1998م، تحقيق مكتب تحقيق التراث في مؤسسة الرسالة بإشراف محمد نعيم العرقسوسي.

§ لسان العرب: محمد بن مكرم بن منظور، دار صادر، بيروت.

§ مختار الصحاح: محمد بن أبي بكر بن عبدالقادر الرازي (ت 666)، مكتبة النوري، دمشق.

§ المصباح المنير: أحمد بن محمد بن علي الفيومي المقرئ، مكتبة لبنان، 1990.

§ معجم لغة الفقهاء ـ عربي انكليزي، مع كشاف انكليزي عربي بالمصطلحات الواردة في المعجم ـ: محمد رواس قلعه جي، وماجد صادق قنيبي، دار النفائس، بيروت، ط1، 1405، 1985م.

§ المعجم الوسيط: إبراهيم أنيس وآخرون، ط2.

§ النهاية في غريب الحديث والأثر: مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد الجزري ابن الأثير (ت 606)، دار الفكر، بيروت، ط1، 1418?، 1997م.

- كتب متنوعة:

§ أحكام الحرب والسلام في دولة الإسلام، للدكتور إحسان الهندي، ط1، دمشق،1993م

§ مقدمة ابن خلدون: عبدالرحمن بن محمد بن خلدون (ت 808?)، دار الفجر، ط1، 1425?، 2004م، تحقيق حامد الطاهر.

الهوامش:

§ -انظر أبو الحسين أحمد بن فارس (توفي 395ه)، مجمل اللغة، تحقيق: شهاب الدين أبو عمر، بيروت، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1994م، د. ط، مادة ولي، ص762.

§ -انظر محمود بن عبد الله الحسيني الألوسي (توفي 1270ه)، روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني، ضبط: علي عبد البار عطية، بيروت، دار الكتب العلمية 1994م، ط1، ج29، ص149.

- انظر المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، المعجم العربي الأساسي للناطقين بالعربية ومتعلميها، (د. ط، د. م، د. ت)، مادة ولي، ص1334.

§ -متفق عليه: أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الفرائض، باب ميراث الولد من أبيه، ج6، ص2476، حديث رقم (6351). وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفرائض، باب ألحقوا الفرائـض بأهلهـا، ج3،ص1233، حديث رقم (1615).

- انظر أبو الفضل جمال الدين ابن منظور (توفي711ه)، لسان العرب، بيروت، دار إحياء التراث العربي، مؤسسة التاريخ العربي، 1999م، ط3، ج5، ص401، وانظر سعدي أبو جيب، القاموس الفقهي لغةً واصطلاحاً، دمشق، دار الفكر، 1982م، ط1، ص388.

- انظر المعجم العربي الأساسي، مادة ولي، ص1334

§ انظر أبو الحسين أحمد بن فارس، معجم مقاييس اللغة، بيروت، الدار الإسلامية للطباعة والنشر، مادة أول: ج1، ص158. وانظر ابن منظور، لسان العرب، مادة أول، ج5، ص195.

§ انظر إسماعيل بن عمر الدمشقي أبو الفداء ابن كثير (توفي 747ه)، تفسير القرآن العظيم، بيروت، دار الفكر، د. ط، 1401ه‍، ج1، ص495.

§ انظر محمد بن علي بن محمد الشوكاني (توفي 1250ه)، فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية في علم التفسير، بيروت، دار الكتاب العربي، 1999، د. ط، ج2، ص436.

§ ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج3، ص617

§ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوط (توفي911ه)، تفسير الجلالين، القاهرة، دار الحديث، ط1، د. ت، ص403.

§ متفق عليه: أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الكفالة، باب الدين، ج2، ص805، حديث رقم (2176). وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، ج2، ص592، حديث رقم (867).

الفهرس


الموضوع رقم الصفحة  

المقدمة 3  

المتن 7  

المبحث الأول: مفهوم الأولويات 7  

المطلب الأول تعريف الأولويات لغة وشرعاً وإصطلاحاً 9  

أدلة فقه الأولويات من الكتاب والسنة والإجماع 14  

الأولويات 18  

ترتيب الأولويات حسب الأهمية الأحق والأجدر 24  

حاجتنا إلى فقه الأولويات 38  

المطلب الثاني : أولى أولويات حياة المرأة المسلمة المؤمنة في فقه الأولويات 48  

أولوية فرض العين على فرض الكفاية 52  

المبحث الثاني : تحديد الأولويات وتقديم الواجبات 61  

المطلب الأول : فقه الأولويات والموازنات 67  

فقه الأولويات والثوابت 73  

فقه الأولويات والمآلات 75  

فقه الأولويات في مجال العلم والفكر 79  

قواعد فقه الأولويات 86  

المطلب الثاني : ارتباط فقه الأولويات بأنواع أخرى من الفقه 89  

فقه الأولويات علم في كتب تراث الأمة الإسلامية من كتب الفقه والأصول والعقائد 100  

المبحث الثالث : ضوابط تحديد الأولويات في ضوء واقعنا المعاصر 104  

المطلب الأول : الخلل في ترتيب الموازنات والأولويات في واقعنا المعاصر 111  

ثقافة فقه الأولويات في ضوء واقعنا المعاصر 118  

ضعف مراعات فقه الأولويات 122  

المطلب الثاني : تطبيق فقه الأولويات في ضوء واقعنا المعاصر 124  

فقه الأولويات في تراثنا 126  

المطلب الثالث : تأصيل الأولويات 136  

الأولويات في مجال الإصلاح 149  

الخاتمة وفيها أهم النتائج والتوصيات 161  

المصادر والمراجع 162  

الفهرس 166