تطور الفكر الإخباري الشيعي (1900-1958)

يمثل الفكر الإخباري الشيعي تيارا فكريا بارزا في التاريخ الإسلامي حيث يركز على أهمية الأخبار والروايات في تشكيل المفاهيم الدينية. بين عامي 1900 و1958 شهد الفكر الإخباري الشيعي تطورا ملحوظا تأثر بالتحولات السياسية والاجتماعية والثقافية في العالم الإسلامي وخاصة في ظل التغيرات التي شهدتها المنطقة.

تخطيط لاسم المحدث محمد أمين الأسترآبادي.

تمحورت هذه الفترة حول تطور المدارس الفكرية وظهور شخصيات بارزة ساهمت في تعزيز هذا التيار بالإضافة إلى التحديات التي واجهها من تيارات فكرية أخرى مثل الأصولية. كما تأثرت الحركة الإخبارية بالتحولات السياسية في العراق وإيران مما ساهم في إعادة تشكيل الأطر الفكرية والأساليب الدعوية.

المقدمة

عدل

يعد التيار الأخباري من أهم التيارات الفكرية التي ظهرت لدى المذهب الشيعي الأثنى عشرية وقد مثل حقبة زمنية مهمة من تاريخ الفكر الشيعي الإمامي.

أهتم علماء الشيعة الإمامية بدراسة الفكر الشيعي الاثنى عشري إذ برز علماء كبار اهتموا بدراسة الأحاديث وتجميعها وتبوبيها وتنقيحها وقد عرفوا هؤلاء الفقهاء بالإخباريين أو المدرسة الإخبارية التي تطورت وأخذت بالانتشار وقامت بتوجيه الانتقادات الى الأصوليين مما أدى الى انقسام الشيعة الاثني عشرية الى طائفتين أصولية واخبارية وقد أدى هذا الانقسام الى ابتعاد المدرستين الإخبارية والأصولية عن بعضهما بصورة واضحة وأدى هذا الأمر الى قيام أصحاب المدرستين في الدفاع عن أفكارهم فنرى مرة انتشار الفكر الإخباري ومرة أخرى اندثاره واختفائه وسيادة الفكر الأصولي لذلك تم تسليط الضوء على تاريخ الفكر الإخباري من خلال التاريخ المعاصر وما حصل له بعد اندثاره واختفائه من الساحة الفكرية بعد مقتل الميرزا محمد الإخباري عام 1816.

نشأة الفكر الإخباري

عدل

تعد المدرسة الإخبارية إحدى تيارات الإمامية الاثني عشرية التي برزت في أوائل القرن الحادي عشر الهجري على يد الميرزا محمد أمين الاستير بادي وتمثل الإخبارية الطائفة الأقلية أمام طائفة الأصوليين الذين يمثلون الأغلبية داخل الشيعة الإمامية.[1]

ويعرف الإخباري هو الفقيه الذي يستنبط الحكم الشرعي من القرآن الكريم والسنة النبوية فقط ومن هنا يتبين أن الإخبارية هي اتجاه كان له العناية بأمر الحديث أي اعتمدوا في استنباط الأحكام على الأخبار فقط على عكس الأصولي الذي يعتمد في استنباط الأحكام على الأدلة الأربعة (الكتاب والسنة والإجماع والعقل) وقد اقتصر بعض الإخباريين على دليل السنة فقط استناداً الى أن الكتاب لا يمكن تفسيره والعمل بما فيه إلا بما ورد في تفسير أهل البيت. أن مصطلح الإخباري ليس حديث العهد بل استخدم لأول مرة في منتصف القرن السادس الهجري أي الثاني عشر الميلادي أن نسب الفكر الإخباري أو المذهب الإخباري الى الميرزا محمد أمين الاستربادي يعود الى كونه هو من حول الانتفاضات الصغيرة الى ثورة حقيقية على المجتهدين (الأصوليين) كما تذكر كتب الشيعة وهو من وضع تقسيم إخباري ومجتهد وقد وضع كتاب يحمل عنوان الفوائد المدنية في الرد على القائل بالاجتهاد والتقليد في الأحكام الإلهية.[2]

وكذلك عد الميرزا الاستربادي بأنه المجدد للمذهب الإخباري باعتقاد أن أبن بابويه القمي هو رئيس الإخباريين استناداً الى كتابه "من لا يحضره الفقيه" لأنه أراد أن يضع كتاباً في الفقه يرجع إليه من لا يجد فقيهاً شيعياً يستفتيه وهناك من يعتقد ان الحر العاملي هو المؤسس الحقيقي للحركة الإخبارية. يرجع بعض الباحثين الى أن الجذور السياسية لنشوء التيار الإخباري يعود الى العلاقة المتوترة بين مؤسسة الفقهاء والسلطة السياسية المتمثلة بالدولة الصفوية خصوصاً في عهد الشاه عباس الصفوي.[3]

عندما أخذت العلاقة بين المؤسستين تنحو منحني معقداً نظراً للنفوذ الذي يتمتع به الفقهاء لذلك أصبحت علاقة متداخلة بحيث شكلت جانباً خفياً من الصراع كان امتداداً لصراع المؤسستين الاجتهاد والدولة في العهد المبكر من قيام الدولة الصفوية بالرغم من أن هذا الصراع كان صراعاً عنيفاً وخفياً إلا أن مؤسسة الفقهاء استطاعت أن تثبت أقدامها وتستحوذ على مؤسسات مهمة في الدولة كان لها دعمها الكبير في قطاع المجتمع الإيراني صاحب المزج بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية في العهد الصفوي انتقال التشيع الاثني عشري الى مرحلة تحول حاسمة تشير الى طبيعة موقف الاثني عشرية من الزعيم الديني فلم يعد كما كان بالنسبة لهم منذ الغيبة الكبرى الحاكم الروحي فقط وإنما أصبح الحاكم الزمني كذلك من هنا بدأ صلة رجال الدين بالدولة تتجه الى ضرب من التعقيد لم تزده الأيام إلا حدة. وعلى الرغم من خطوات الشاه عباس في إبقاء الصلة بالفقهاء الكبار إلا أن الصلة بين الزعامتين السياسية والروحية أخذت تضعف بمرور الزمن وقد شكل ظاهرة سياسية دينية في أخريات أيامه.[4]

أخذت الأوضاع السياسية في إيران تستقر بعد مجيء الشاه عباس الى السلطة خصوصاً بعد الصراعات التي حدثت داخل الأسرة الصفوية للاستحواذ على الحكم وبعدما عقد صلحاً مع الدولة العثمانية الأمر الذي ساعد على ظهور نهضة علمية باهرة ازدهرت على يد فلاسفة ومتكلمين إيرانيين كان لهم الدور الكبير في أحياء المنحى العقلي عند الاثني عشرية. بدأ ثقل المدرسة الإثني عشرية خلال هذا العهد في إيران يظهر بشكل ملحوظ بعدما أخذ دور مدرسة النجف التي ازدهرت في الوقت نفسه على يد أحمد الأردبيلي بالضمور ومن خلال الأجواء التي ولدتها الحالة الجديدة للدولة الصفوية ظهرت تيارات مختلفة (عقلية وفلسفية وسلفية وصفوية) اتحدت جميعها ضد ما تبقى من مؤسسة الفقهاء الذين لم تزل تأثيراتهم قائمة في السلطة وقد أظهر بعض العلماء ردود الفعل الفلسفي تجاه الفقهاء الذين أغرقوا أنفسهم في سياسة الدولة الصفوية وقد نسبهم الى نقصان المعرفة كما أوضح أن أهدافهم هي أهداف سياسية لا تتعدى اخضاع الناس لفتواهم وأوامرهم التسلطية. ومهما يكن من أمر فإن التيار العقلي لم يؤثر على السياسيين من الفقهاء بمقدار تأثير التيار السلفي الذي تزعمه فقهاء من المدرسة الاثني عشرية نفسها فقد تحولت ردود الفعل اتجاه تدخل الفقيه بشؤون الدولة الى تيار قوي أثر على تطور مدرسة الاجتهاد ما يقارب القرنين من الزمن واستطاع هذا التيار أن ينتشر خارج إيران ويستحوذ على مساحة ليست بالقليلة من الساحة الشيعية.[5]

وقد استفادت الحركة السلفية التي سميت فيما بعد بالحركة الإخبارية من الأوضاع المتناقضة في سياسة الدولة الصفوية في تعزيز مواقعها ومحاولة حسر تيار الفقهاء الذين تمركزوا في ثقل الدولة وأن ظهور الحركة الإخبارية وتمركزها بشكل عنيف في قلب الأحداث كان عاملاً من عوامل تقوية السياسة الصفوية المتمثلة بالشاه عباس الكبير وأضعاف خصومه التقليديين من الفقهاء لذلك بدأ بتقديم الدعم لأقطاب هذا الاتجاه حتى ظهر الداعية الإخباري محمد أمين الاستربادي محاولاً القضاء على خط الفقهاء قضاء تاماً مبرما أن حياة الاستربادي كانت غامضة إلا أن نشأته في إيران وهجرته الى العراق ثم استقراره في الحجاز تدل على أن الرجل كان مدعماً بخطة هادفة من شأنها أن توقف تيار الاجتهاد الأصولي وتستأصل المؤسسة الاجتهادية من الأساس. وأن أمراً مثل هذا لهو في النتيجة يخدم توجهات الصفويين أولاً والذين باتوا في ضيق من هذه المؤسسة الدينية والعثمانيين ثانياً الذين لم يرغبوا باستقلال المؤسسة الدينية عن قبضة السياسة الرسمية للدولة من هنا فإن حصول الانقسام داخل الكيان الاثني عشري نفسه بإيجاد مؤسسة فقهية إخبارية تكون بمثابة البديل عن المؤسسة الفقهية الاجتهادية أو المنافس لها على الأقل هو في واقعة يخدم الطرفين معاً لذلك فقد اتخذت الحركة الإخبارية في صراعها مع مؤسسة الاجتهاد السمة العلمية وأعدت برنامجاً تصحيحياً يتطلع العودة الى الينابيع الأولى للفقه الاثني عشرية وقد اتخذ الإخباريون مستنداً تاريخياً لهم بالتمسك بأخبار المعصومين مقابل ما أنتجه المجتهدون عن طريق لاستنباط الأحكام الشرعية من موارده الشرعية باستخدامهم لأدلة الأحكام الأربعة.

بدأت الحركة الإخبارية بالاتساع بعد عصر الشاه طهماسب بالتحديد منذ عام 1577 حتى عام 1580 وظهرت كتيار رافض لأعمال فقهاء السلطة الصفوية كما أن الصراع الصفوي العثماني كان سبباً في تشجيع هذا التيار خصوصاً أن العثمانيون استولوا على الحجاز التي أصبحت مركزاً مناوئ للصفويين. قادت الدولة العثمانية ضد الصفويين في هذا الوقت بالذات بعد وفاة الشاه طهماسب حمله دعائية كان العنصر الفعال فيها أبناء فارس. وقد استغل العثمانيون الاتجاهات المعادية للصفويين وحاولوا مساندتها فقد كانت منطقة الحجاز مركزاً للمعارضين السنيين والشيعيين على السواء وقد اعتقد الفقهاء الرافضون للسياسة الصفوية أن الاتهامات التي وجهت الى الفكر الاثني عشرية من بعض الشخصيات الدينية كانت بسبب تطرف المجتهدين الذين خدموا الدولة الصفوية مع علمهم أو غفلتهم عن نهى الأئمة من الدخول في خدمة الحكام يتضح مما تقدم من أن الحركة الإخبارية كانت ردة فعل لتدخل المجتهدين بالسياسة فإن الإخباريين حاولوا الظهور بمظهر الحفاظ على الأصالة النظرية للمذهب الاثني عشرية وفقاً للنصوص الدينية الواردة عن الأئمة في الابتعاد عن السياسة وتبرير عمل الحاكم وهم بذلك أرادو تنزيه المذهب من الشبهات التي لحقت به من جراء تدخل الفقهاء بالسياسة ومن جهة أخرى فإن السلطة الصفوية استهدفت بدورها أضعاف مؤسسة الفقهاء داخل إيران وأشغالها بتيارات تهدف إلى زعزعة كيانها الفكري بمعنى آخر تحويل حالة القوة التي تتمتع بها المؤسسة الاجتهادية الى قوة دفاعية فقط أمام الهجمات العنيفة للإخباريين والتي بدأت تشكك حتى في شرعية وجودهم.

كانت السياسة التي انتهجها الشاه عباس الصفوي في علاقاته مع أوروبا وانفتاحه على بريطانيا بشكل خاص حتى انه أوكل أمر تسليح الجيش الإيراني الى ضابط انكليزي وأسند إليه واجبات قيادته في المعارك مع العثمانيين. لا يمكن أن تتسم هذه السياسة دون أضعاف التيارات التي وقفت أمام سياساته المستقبلية. وقد كان الشاه عباس حريصاً على اجتماع القيادتين السياسية والدينية فيه لكي يكون مستقلاً بهاتين القوتين وهو بذلك كان يحافظ على قدسية الشعائر المذهبية حتى روي عنه أنه كان يقطع الكثير من الأميال سيراً على الأقدام من أجل تأدية طقوس الزيارة لمرقد الإمام علي بن موسى الرضا. ألف الاستربادي كتاب الفوائد المدنية الذي ذكرناه فيما سبق والذي يعد كتاباً يمثل التيار الإخباري بشكله الصريح الفه في حياة استاذه الميرزا علي الاستربادي وقد أثار فيه تساؤلات عديدة حول المدرسة الاجتهادية محاولاً أن يبرهن على عدم أصالتها التشريعية عندما أضفى طابع الأصالة الى حركته بالرجوع الى المنابع الأولى المتمثلة بعصر الأئمة لتكتسب بذلك الشرعية الدينية وهو بذلك أثار الرأي الشيعي ضد علم الأصول مستغلاً حداثة نشأة هذا العلم وبعد الغيبة الكبرى ومعناه أن ربط الاستنباط بالقواعد الأصولية يؤدي الى الابتعاد عن النصوص التشريعية والتقليل من أهميتها ولم يكن ذلك متعارفاً عند الفقهاء من تلامذة الأئمة إذ كانوا في غنى عنه في مسائل الفتيا فإذا كان عهد الرواة الأوائل للمدرسة الفقهية على هذا الشكل لماذا يسعى المتأخرون الى التورط فيه. كما الاستربادي الى التأكيد على مفردات مثيرة للجدل من ذلك تأكيده على أن علماء الشيعة تاريخياً الى البحث الأصولي مما أكسبه إطاراً سنياً وبرهن على أن عمد سبقوا علماء السنة بعض فقهاء الاثني عشرية كابن الجنيد كان متفقاً في اجتهاداته مع الأحناف في الأخذ بالقياس والعمل بالرأي كما أنكر دليل حجية العقل إلا فيما كان له مبدأ حسي أو مبدأ قريب من الحس كالرياضيات فإن العقل حجة فيها وأما ما عدا ذلك فلا حجية للعقل فيه لأن العقل قد يخطئ أما التمسك بكلام الأئمة المعصومين فهو يؤمن بالعصمة من الخطأ. وقد كشف الميرزا الاستربادي في كتابه أيضاً عن نقده للمحقق الكركي قبل أن يولد الأستربادي بسنين طويلة ونسب له أغلاطاً في إعادة تعيين القبلة وأنه قد ضرب المحاريب التي كانت في بلاد العجم زمن أصحاب الأئمة. أن أفكار الاستربادي التي طرحها خلال كتابه هي دعوة لأن يكون الفقيه الاثني عشرية وعاء يمتلئ بالأحاديث التي يتناقلها عن الرسول والأئمة المعصومين فقط ويوعز الخوانساري الى أن منشأ تحول الاستربادي الى الإخبارية هو أستاذه الميرزا محمد بن علي الاستربادي فقد كان مقيماً بالحجاز يومذاك وذكرت المصادر أن الاستربادي بعد دراسته في شيراز دخل الى الحجاز لمتابعة دراسته على يد الميرزا محمد بن علي الاستربادي الذي قيل أنه أشار عليه بتأليف كتاب يتناول موضوع الصراع الإخباري الأصولي بشكل مباشر بعد أكثر من عقدين من زمن تأليف كتاب الفوائد المدنية قام فقيه أصولي وهو نور الدين العاملي بتأليف كتاب من أجل الرد على كتاب الميرزا الاستربادي وأسماه بالشواهد المكية في دحض حجج الفوائد المدنية إلا أن كتاب العاملي لم يطفئ لهب الأزمة ولم يتمكن من السيطرة على التيار العام الإخباري الذي امتد في معظم المراكز العلمية الشيعية المتمركزة في إيران والعراق ومنطقة الحجاز الأمر الذي أثر تأثيراً مباشراً على حركة الاجتهاد عند الاثني عشرية لكنه سجل سبقاً تاريخياً ضد تيار الإخباريين.

الفكر الإخباري خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر الهجري

عدل

لم يتوقف الفكر الإخباري بعد وفاة الميرزا محمد أمين الأستير بادي وإنما أستمر على يد علماء آخرين استطاعوا أن ينشروا هذا الفكر ويوسعوه في أغلب المدن العلمية الشيعية خلال القرن الثاني عشر الهجري وأبرز هؤلاء هو الشيخ يوسف بن احمد البحراني الذي تزعم التيار الإخباري بعدما استقر في مدينة كربلاء التي كانت حاضرة علمية بارزة ويوجد بها أعداد غير قليلة من العلماء والطلاب الذين ينتمون لكلا الفكرين الأصولي والإخباري. واستطاع يوسف البحراني أن يتولى الزعامة الدينية في كربلاء بعدما قام بنشر فكره الإخباري فيها وأصبح له أنصار ومؤيدين وقد مثلت مرحلة كربلاء آخر مراحل الحركة الإخبارية فقد ازدهرت هذه المدينة على يد الفقيه محمد باقر البهبهاني الذي كان ظهوره إيذاناً ببدأ التغيير لصالح الاتجاه الأصولي وقد حصل هذا الفقيه على لقب مجدد الفقه الاثني عشرية لأن عصره أصبح فاصلاً لعصر جديد من عصور مدرسة الاجتهاد وقد أطلق عليه بعض الباحثين بعصر الكمال العلمي.

أصبحت مدينة كربلاء في عصر البهبهاني عاصمة العواصم العلمية التي ضاهت مراكز العلوم الشيعية الأخرى وبقيت محافظة على مركزها قرابة قرن من الزمن وقد كان سبب الازدهار هذه الحاضرة يعود الى التطورات السياسية التي تلت سقوط الدولة الصفوية عام 1722 على يد القبائل الأفغانية وقد أوشكت إيران أن تتوزع بين جاراتها من العثمانيين الذين زحفوا على المناطق الغربية والقوات الروسية جنوباً.

فظهر نادر شاه عام 1729 كقائد استطاع توحيد البلاد بعد تحريرها عسكرياً من الخطر الغربي والجنوبي. إلا أن الخلاف بين نادر شاه والمؤسسة الدينية أدى إلى اتخاذ واتباع نادر شاه أسلوب العنف ضد خصومه هاجر البهبهاني إلى العراق بسبب الأوضاع المضطربة في إيران ولتخلص من الاضطرابات التي عمت الحركة الدينية هناك وقد أتخذ من مدينة كربلاء مقراً له لسلامتها من الوباء الذي عم الأماكن المقدسة كالنجف في ذلك الوقت فضلاً عن كربلاء كانت مقراً ومركزاً لنشاط الفكر الإخباري وقد كان البهبهاني في بادئ الأمر إخبارياً لأن هذا الفكر كان هو السائد في بلاد إيران لكنه درس على يد أحد العلماء الأصوليين فأصبح عالماً أصولي.

لذلك كان على علم بما يمثله التيار الإخباري وما يشكله من خطر على الأصوليين لذلك استعد لمواجهة هذا الفكر بكل ما يملك من إمكانات على الصعيد النظري للبحوث أو العلمي من ممارسة الفتوى ضد أقطاب هذا التيار من خلال تحريم الاقتداء بهم في ممارسة الشعائر الدينية. أنصبت جهود البهبهاني على محورين مهمين الأول: إعداد نخبة من الفقهاء الأصوليين يحافظون على خط الزعامة الدينية بعده وقد نجح في إعداد هذه النخبة نجاحاً باهراً حيث حمل تلامذته لواء الزعامة الفكرية والسياسية بعده والمحور الثاني: قيامه بشن حملة عنيفة على الاتجاه الإخباري بنقده اللاذع لأهم شبهاته وذلك ضمن كتابه الفوائد الحائرية. على الرغم من وجود فقيه إخباري معتدل هو الشيخ يوسف البحراني إلا أن البهبهاني كان يقف ضده وبشدة وقد كان بعض من تلاميذ البهبهاني يحضرون دروس يوسف البحراني سراً ولعل العلاقة الوثيقة بين هؤلاء التلاميذ والشيخ يوسف البحراني هي التي جعلته يقف متوازناً في موقفه بين الاتجاهين الأصولي والإخباري وينتقد زعماء الإخباريين المتشددين بين الشيخ يوسف البحراني أن الاختلاف بين الفريقين الإخبارية والأصولية يهدف الى أضعاف التشيع وأن وراء هذا التوجه أهداف سياسية محددة كان منهجه يدل على الاعتدال لدحر مرحلة الصدام بين التيار الاخباري والاصولي الذي يمكن يضعف التشيع لذلك تمسك بالاهتمام بدراسة الخطاب القرآني واتباع الحوار مع الطرف الآخر. كما صرح في مقدمة كتابه الحدائق الناضرة أنه كان من دعاة المذهب الإخباري المتعصبين لكنه اكتشف أن الصراع بين الفريقين يولد القدح في علماء الطرفين وحاول أن يجعل كلا الاتجاهين يسيران مع بعضهما الآخر لأنهما متلازمان لا يمكن التفريق بينهما وقد ساق مثالاً على وجود الاتجاهين السلفي والعقلي في العصر الأول دون أن يرتفع بين فقهاء ذلك الوقت مثل هذا الاختلاف. نجح البهبهاني في إيقاف التيار الإخباري بعد العاصفة التي فرطت عقده قرابة القرنين من الزمن وبذلك بدأت مدرسة الاجتهاد تنضج على يد تلامذته من الفقهاء بصورة أكثر فعالية. وقد أتخذ تلامذته من بعده مدينة النجف مركزاً علمياً ودراسياً مستقلاً وبذلك شهد الاجتهاد تأسيس مدرسة عرفت بمدرسة النجف ويعود انتصار البهبهاني على الإخباريين الى أن التيار الإخباري قد استنفذ أغراضه العلمية فقد أشبعت الحاجة الى وضع موسوعات حديثة جديدة ولم يسبق إلا الاستفادة منها في عمليات الاستنباط.

الميرزا محمد الاخباري والخلاف الاصولي الاخباري

عدل

بدأت الحركة الإخبارية تستعيد نشاطها من جديد على يد الميرزا محمد الإخباري فقد كان هذا الفقيه القوي قد وقف أمام الحوزة الأصولية المتمثلة بالمرجع البهبهاني وتلاميذه من بعده في مدينة كربلاء وقد حاول الشيخ جعفر كاشف الغطاء تحريض القبائل العربية تجاهه بعدما أصدر فتوى بانحرافه عن طريق الشيعة الاثني عشرية وتصديه لمحاربة أفكاره إلا أن الميرزا محمد الإخباري كان قد فرض سيطرته على هذه المدينة مع أتباعه ومؤيديه بحيث أصبح الأمر صعب على فقهاء الأصوليين من تحقيق هدفهم في التخلص منه باستخدام القوة ولأكثر من سبب هاجر الميرزا محمد الإخباري الى بلاد إيران ليجد من يؤيد دعوته فيها فقد حصل على دعم الشاه فتح علي القاجاري وتقرب منه وكان هذا الشاه في الوقت نفسه ذا علاقة بمؤسسة الفقهاء الأصوليين خصوصاً مع الشيخ جعفر كاشف الغطاء وكان يعمل جاهداً على الإبقاء على العلاقة متوازنة بين الطرفين. إن علاقة الشاة بالميرزا الإخباري أصبحت قوية بعدما تنبأ الميرزا بمقتل الجنرال الروسي في الحرب الدائرة بين إيران وروسيا آنذاك من خلال ما يتمتع به من قوى روحية غريبة وقد صدقت هذه النبوءة وجيء برأس الجنرال محمولاً الى طهران ووضع أمام الشاه كانت هذه الحادثة مدعاة لدعم الميرزا محمد في إيران مما دعا الشيخ جعفر كاشف الغطاء إن يسافر الى إيران لغرض التصدي لنشاطه الجديد من خلال مناظرات مفتوحة بينهما في مجلس الشاه نفسه وفعلاً فقد سجل كاشف الغطاء مناظرة طويلة بين طرفي الصراع الأصولي والإخباري وانتصر بحماس لما حققه كاشف الغطاء من نصر في دحر الفكر الإخباري هناك. يعتقد بعض الباحثين أن المجتمع الإيراني الغالبية العظمى منه كانوا إخباريين قبل وصول الشيخ جعفر كاشف الغطاء الى بلادهم لكنه نجح في تحويلهم الى أصوليين من خلال متابعته الميرزا محمد الإخباري هناك إلا أن هذا الرأي وإن لم يثبت علمياً إلا أنه كشف عن الشهرة التي احتلها الميرزا الإخباري في إيران ودعم السلطة السياسية له. وقد تصاعدت حدة الصراع بين الميرزا الإخباري وكاشف الغطاء حيث وضع الأخير كتاباً ضده قدمه الى الشاه فتح علي القاجاري أسماه كشف الغطاء عن معاييب الميزرا محمد عدو العلماء كما أن الميرزا محمد الإخباري رد عليه بكتاب أسماه الصيحة بالحق على من الحد وتزندق.

كانت هذه الفترة نوعاً ما مستقرة لم تسجل أحداثاً أخرى غير المناظرات الفكرية من خلال المؤلفات لكن بعد وفاة الشيخ جعفر كاشف الغطاء تزعم ولده الزعامة الدينية الاثني عشرية حيث أراد التعرف على مدى صلة الشاه فتح على بالميرزا محمد الإخباري فكتب له رسالة حذره في آخرها من صلته بالميرزا الإخباري وعند جواب الشاه عليه أكد في إجابته أن صلته بالميرزا الإخباري طيبة وعبر عنه بقوله: "نستفيض منه ونستعين به". إلا أن الميرزا محمد الإخباري لم يستقر في إيران بعد هذه الفترة وقرر العودة الى العراق وأقام في مدينة الكاظمية في بغداد ويبدو أن هذه الهجرة خضعت الى مباركة الوالي العثماني الذي كان يحكم العراق وكان قد بدأ بالاتجاه الى تأييد التيار الإخباري المناوئ للأصوليين من خلال صلته بالميرزا الإخباري. قام الميرزا محمد الإخباري بنشاط فعال ضد الفقهاء الأصوليين في العراق مما جعل الشيخ موسى كاشف الغطاء يهاجر من النجف الى بغداد ويستقر في مدينة الكاظمية لغرض معالجة الموقف وبعد اتفاق جملة من الفقهاء على إصدار فتوى تبيح قتل الميرزا محمد الإخباري عام 1816 بعد إحراق داره وقتله قتلة مأساوية هو وولده الأكبر.

إن مقتل الميرزا محمد الإخباري في الكاظمية كان الحادث الثاني الذي يتعرض له داعية إخباري بعد مقتل الشيخ حسين آل عصفور في البحرين عام 1801.

يتضح مما تقدم أن قتل الميرزا محمد الإخباري وغيره من العلماء الإخباريين هي حملة مارسها الأصوليين ضد خصومهم للتخلص من الخطر المتوقع عليهم وكان هذا الأسلوب كافياً لانحسار الفكر السلفي الإخباري وتمركز القيادة الفكرية بعد ان تحول الصراع من فكري الى صراع عنيف في النجف. بعد مقتل الميرزا محمد الإخباري انتقل أبنه الأصغر الميرزا علي الى أماكن بعيدة عن موطن الصراع الأصولي الإخباري وفي هذا الوقت تماماً أصبحت الساحة الفكرية فارغة من التيار الإخباري وساد وانتشر التيار الأصولي وأصبح الفكر الاجتهادي هو المنتشر في الأوساط الدينية استطاع الميرزا علي بعد أن استقر في مناطق جنوب العراق خصوصاً في ناحية كرمة بني سعيد في محافظة ذي قار واستطاع أن يحقق بهذه الخطوة الابتعاد عن جميع المضايقات والتهديدات التي تعرض لها من قبل خصوم والده وفي هذه المنطقة النائية استطاع أن ينشط من جديد ويؤسس فكره الإخباري إذ قام بتأسيس منشآت دينية بسيطة إذ أسس مدرسة دينية في ناحية كرمة بني سعيد استطاعت أن تنشر الفكر الإخباري الذي اندثر في تلك الفترة بسبب ما حصل من محاربات من قبل زعماء التيار الأصولي. ثم قام بنشاط آخر لكن في منطقة المحمرة التي أسس بها مسجداً جامع. كانت ظروف حياة الميرزا علي ظروف صعبة بسبب الأوضاع المضطربة بسبب متابعة أصحاب الفكر الإخباري فكان حذراً جداً في إخفاء أي شيء يدل على أنه إخباري خصوصاً عندما أكمل دراسته في النجف وكانت هذه الظروف هي السبب التي لم تتيح له الفرصة لكي يتفرغ تفرغ كامل للتأليف. لكن هذا الشيء لم يمنعه من وضع أفكاره في العديد من الأبحاث والكتب التي تضمنت منهجه الإخباري وأبرزها سبيكة اللجين في الفرق بين الفريقين التي تحدث بها عن الاختلافات والفروق بين المذهبين الإخباري والأصولي والتي حصرها بثمانية فروق كذلك رفض العمل بالقياس وتكلم عن الرجعة سواء كانت جسمانية أو روحية وجوز تقليد الميت. كان هذا أبرز ما تضمنه منهجه. واصل أبنائه من بعده مسيرته وطوروا الفكر الإخباري بشكل إيجابي وبرز منهم الميرزا محمد بن علي الذي وصف نفسه بالفاطمي وأثبت نسبه العلوي بعد أن أخفاه والده وقد استوطن مدينة العمارة وأحفاده من بعده في مدينة المحمرة وبهذا ساهموا بنشر الفكر الإخباري خارج نطاق ناحية كرمة بني سعيد. وبرز كذلك من أولاد الميرزا على ولده الميزرا حسين الذي لم يقتصر نشاطه على تطوير مدرسة والده التي عرفت بمدرسة المؤمنين بل بسط يده وتوسعت أراضيه وقد جمع حوله الكثير من أفراد العشائر ودعاهم الى تعلم الفقه وعلوم الدين وترك عادة النهب والسلب التي كانت منتشرة في ذلك الوقت وامتد نشاطه الى مدينة البصرة ولا يزال أحفاده الى وقتنا الحاضر مستمرين في حمل رسالة أجدادهم والتمسك بفكرهم الإخباري قام الميرزا حسين بتأليف عدة مؤلفات ضمنت منهجه الإخباري الذي سار عليه وأبرز مؤلفاته الدر المنظوم في نفي تقليد غير المعصوم.

نلاحظ مما سبق توسع وانتشار الفكر الإخباري الى مناطق متعددة ولم ينحصر بالعراق فقط بل وصل الى بلاد إيران والبحرين عن طريق أحفاد الميرزا محمد الإخباري وتلاميذهم وقد توسعا فكريا قائما على أساس نشر الفكر الاخباري من خلال تمسكهم بعلوم الدين والفقه وكان المركز الديني والعلمي لهم هي مدرسة المؤمنين التي أسسها جدهم الميرزا على وطورها من بعده أتباعه وأحفاده.

تطور الأسس الفكرية للمدرسة الإخبارية خلال التاريخ المعاصر

عدل

بعد أن أندثر الفكر الإخباري في فترة من الفترات خصوصاً في القرن الثالث عشر بعد مقتل الميرزا محمد الإخباري تعرض أتباع هذا الفكر الى حملة شرسة من أجل القضاء عليه وأنهائه لكن ما حصل كان مغايراً إذ سرعان ما استطاع أصحاب هذا الفكر من النهوض به من جديد من أجل الحفاظ عليه وقد تجلى هذا الأمر على يد أحفاد الميرزا محمد الإخباري وقد برز منهم الميرزا عناية الله الذي انتقلت له الزعامة ورئاسة الأسرة بعد وفاة أبيه الميرزا حسين عام 1900 وقد توسع نفوذ الميرزا عناية الله أكثر من والده وقد أصبح يشار له بالبنان حتى أن قرية المؤمنين سميت بهذا الاسم وذلك لأن المعمم كان يسمى في جنوب العراق بالمومن بتسهيل الهمزة ولانتشار وكثرة المعممين في تلك المنطقة الذين يحيطون بالميرزا حسين ومن قبله الميرزا علي سميت تلك القرية بقرية المؤمنين.

اجتمعت للميرزا عناية الله الزعامة الدينية والعشائرية بعد وفاة أبيه والحق يقال أن الزعامة قد توسعت في عهده توسعاً لا مثيل له وأصبحت المنطقة الجنوبية في العراق تدين بأسرها لتوجيهاته وعطفه الكبير وقد كان أبوه وجده هما حلقتين ممهدتين له حيث أصبحت قرية المؤمنين بوجوه ملجأ لأفراد العشائر ولمعظم القرى المحيطة بها فقد كانت تقام صلاة الجمعة فتجمع أفراد العشائر ليؤدوا الصلاة خلف الميرزا عناية الله وأصبح الناس في تلك المنطقة والمناطق المجاورة يدينون له بالولاء والطاعة ويتبعون المنهج الإخباري. قام الميرزا عناية الله بعدة أعمال أبرزها تطوير نظام الدراسة في مدرسة المؤمنين التي كانت تشهد إقبالاً واسعاً من الطلاب وذلك بسبب أن الميرزا عناية الله كان المرجع الديني للقبائل والأرياف والأهوار الجنوبية وأتباعه منتشرون في المحافظات الثلاث الناصرية والبصرة والعمارة فكان من الطبيعي أن يجتمع طلاب العلوم الدينية من أبناء هذه المحافظات حوله فاضطر الى بناء غرف بمسجده الجامع لسكن الوافدين إليه من هؤلاء الطلاب. وقد قام ببناء هذا المسجد عام 1906 وأسس مكتبة ضمت العديد من الكتب والرسائل الدينية التي ضمنت الفكر الإخباري. وبذلك وسع المدرسة خاصة بعد تأسيس مضيف تابع لهذه المدرسة وتكونت في مدرسة المؤمنين حوزة صغيرة لتدريس العلوم الدينية قوامها دراسة المقدمات من النحو والصرف والبلاغة والمنطق وبعض كتب الحديث والفقه وكان مدرسوها هم أخوته وأبناءه من بعده وبعض المحيطين به ممن تعلموا في النجف فأصبحت مدرسة كبيرة وذاع صيتها وأصبح يقصدها الطلاب من كل حدب وصوب من البصرة وبابل وميسان. ولم يكتفي عند هذا الحد بل أرسل مبعوثين من هذه المدرسة الى المناطق وسط وجنوب العراق ووسعوا علاقاتهم مع العديد من القبائل وبهذا يكون الميرزا عناية الله مارس واجبه كمرجع إخباري فضلاً عن قيام الميرزا عناية الله بإيفاد بعض من الطلاب من يرى بهم الاستعداد للدراسة في النجف التي كانت تمثل جامعة العلوم الإسلامية للدراسة في حوزتها التي كانت تمثل جامعة العلوم الإسلامية للشيعة الإمامية ويبقى يمده بما يحتاج من نفقة وقد يعود بعض هؤلاء الموفدين للتدريس في هذه الحوزة وقد يستمر بعضهم فيتخذ النجف موطناً له. كانت للميرزا عناية الله سيرة مشرفة وخدمات عامة وكان وجوده هناك كقاعدة محكمة لضبط العشائر وصيانتهم من العبث والعدوان فيما بينهم وكان له موقف معروف ضد الاحتلال البريطاني لجنوب العراق فقد كان يحرض العشائر المحيطة به للثورة ويحثهم من أجل الدفاع عن الوطن ومقدساته. ولم يقف نشاطه على الحرب العالمية الأولى على الافتاء بضرورة الجهاد بل كان هو القائد الذي يتقدم جموع المجاهدين بالتعاون مع عدد من العلماء النجف المعروفين ومع قادة القبائل. وعندما خسر المجاهدين في المعركة قام الميرزا عناية الله بالانسحاب الى قرية المؤمنين وعقد مؤتمر المؤمنين الذي تم وضع خطة فيه لصد الهجوم البريطاني ولكن هذه الخطة لم تكلل بالنجاح ولم تظفر جهود الميرزا عناية الله والمجاهدين بالنصر على الرغم من تقديم العديد من التضحيات. بعد مشاركة الميرزا عناية الله في الجهاد ضد الاحتلال البريطاني والخسائر التي مني بها المجاهدون تعرضت قرية المؤمنين الى عمليات تصفية للتيار الإخباري على يد مجموعة من المتربصين والذين رأوا أن وجود الإخبارية يضر بمصالحهم الاجتماعية والاقتصادية لذلك كانت لهم أهداف سياسية ودينية واقتصادية ورأوا في وجود مدرسة المؤمنين خطر على مصالحهم وتهدد وجودهم. لذلك قاموا بإغلاق سوق الجمعة وتأجيج بعض العشائر المعادية للتيار الإخباري إذ اعتبروا أن الإخباريين أنجاساً ولا يجب التعامل معهم ويجب أن تستباح أموالهم وأعراضهم. لكن عندما وصل هذا الأمر إلى أسماع السيد أبو الحسن الأصفهاني زعيم الحوزة الدينية في النجف فلم يكن راضياً عما حدث في قرية المؤمنين وأمر بمساواة حقوق الإخباري مع غيره من الأصوليين وقد وضع حد لهذه التصرفات.

المنهج الإخباري خلال التاريخ المعاصر (1900-1958)

عدل

اتسم الفكر الإخباري خلال فترة زعامة المرجع الميرزا عناية الله الممتدة من 1900 إلى 1953 بكونه فكر معتدل أكد الإخباريون فيه على أهم نقطة وهي فض النزاع من الخارج بين الإخباريين والأصوليين بعدما رأى أن الإعراض عن الخوض فيها أولى وعلى هذا الأساس وضعوا منهجهم وكان يعرف بمنهج المصالحة بين المدرستين ورفع الحواجز بين التوجهين واستمر هذا الأمر حتى أصبح لا يمكن لأحد أن يميز بين محدث إخباري وبين مجتهد أصولي كما أشار الى ذلك بعض الفقهاء المعاصرين.

أتبع أحفاد الميرزا محمد الإخباري منهجاً وسطاً أي طريقة وسطى في التعامل مع الأحاديث وهي طريقة الشيخ يوسف البحراني وطريقة العلامة المجلسي الذي تميز بالاعتدال في إخباريته ولم يسلك منهج من سبقه من العلماء الإخباريين المتشددين في طريقتهم بالتعصب لمنهجهم والتشنيع على العلماء الأصوليين بل جعل كل اهتمامه الى جمع الأحاديث الواردة عن الأئمة وذلك لأنه أكد أن التراث الشيعي معرض للاندثار لذلك كان يخشى عليه فقام بجمع هذه الأحاديث والكتب كما أكد وفي منهجه بأنه ليس منهج النقد أو التحقيق في الحديث الصحيح من الضعيف وإنما منهج الجمع والاحتواء من خلال جمع ما جاء في القرآن الكريم وما جاء عن الأئمة المعصومين.

صرح أحفاد الميرزا محمد الإخباري والعلماء الإخباريون المعاصرون بصحة كتب الحديث المعتبرة وليس جميع الأحاديث المنسوبة إلى الأئمة المعصومين وأبرزها الكتب الأربعة وبحار الأنوار وذلك بسبب اعتماد كبار المحدثين بها فلم يعد إلغاء في وظيفة المجتهد أو النظر الى الاجتهاد على أنه بدعة تسربت الى المذهب الاثني عشرية قضية تستوجب النقض بعدما ثبت استمرار خط الاجتهاد علمياً.

خلف الميرزا عناية الله ولده الميرزا جعفر كان يستوطن النجف للتزود بعلومها الدينية لكنه على أثر الحالة الصحية التي أصابت والده الميرزا عناية الله رجع الى قرية المؤمنين وكان ذلك في أوائل الأربعينات إذ كان ينوب عن والده ويمثله في كثير من الأمور خاصة في آخر أيامه وقد سار الميرزا جعفر على نفس نهج سلفه الإخباري إذ عرف عنه بأنه إخباري معتدل. لم يقتصر الفكر الإخباري على مناطق العراق فقط بل انتشر في الكويت والبحرين إذ قام الميرزا إبراهيم جمال الدين بعد أن مد نشاطه من العراق الى الكويت التي استقر بها عام 1930 وأصدر مجلة دورية متسلسلة بعنوان من وحي الإنسانية تضمنت منهجه الإخباري ووضح بها المفاهيم والمبادئ الإخبارية والفكر الإخباري بأسلوب سلس ومبسط إذ حصر مصادر التشريع بالقرآن الكريم والسنة النبوية وأكد أن ما جاء من أخبارها عن طريق الأئمة كما أنه رفض دليل العقل الذي نادى به الأصوليين كدليل رابع باستنباط أحكامهم. وقد عرف عنه أنه لم يكن من الإخباريين المتشددين وقد ظهر هذا من خلال دعوته في مؤلفاته الى التعاون والتسامح في جميع جوانب الحياة.

الفكر الاخباري في البحرين

عدل

ظهر الفكر الإخباري في بلاد البحرين التي مثلت التيار الإخباري هناك بدءاً من الشيخ يوسف البحراني ثم الشيخ حسين العصفور الذي كان من كبار أعلام المدرسة الإخبارية الذي كان يتميز بقوة حفظة وقد درس على يد والده وعمه الشيخ يوسف البحراني الذي أجاز له بالرواية وقد ألف له كتاب في إجازته واسماه لؤلؤة البحرين في الإجازة لقرتي العينين. ولم يكن منهجه الفكري يختلف عن منهج عمه الشيخ يوسف البحراني بل كان يعتمد على مؤلفاته ويسير عليها أي أنه كان إخبارياً معتدلاً وكان له العديد من المؤلفات. برز في البحرين الشيخ باقر العصفور وهو من أبرز فقهاء وقضاة الشرع في البحرين في القرن العشرين وله مكانة كبيرة في نفوس البحرينيين ودرس في النجف بعد أن حط رحاله بها عام 1892 وتتلمذ على يد أكبر فقهاءها وبعد أن أتم دراسته قرر العودة الى البحرين عام 1930 وعمل بالبحرين بالوعظ والتدريس والكتابة والخطابة أنضم للقضاء عام 1936 وعين رئيساً للمحكمة الكبرى عام 1956 ثم قاضياً بعد ذلك ضمن منهجه الذي لا يختلف عن منهج الشيخ يوسف البحراني في كتابة القول المفيد في أهم مسائل التقليد وقد أتبع ما أتبع أجداده السابقين من أسرة آل عصفور الى الحوار الهادئ لبعض المواقف وعدم اللجوء الى الدم في الاختلافات حتى وإن وصلت هذه الخلافات الى دورتها وأكد على ضرورة الاقتداء بالشيخ يوسف البحراني في مواجهة خصومه عندما واجه الشيخ وحيد البهبهاني في كربلاء وكذلك موقفه من الميرزا محمد أمين الاستربادي لأنه كان متشدداً في نشر فكره وكان حاد اللهجة مع خصومه. كما أكد الشيخ باقر العصفور أنه يجب على العالم الإخباري أن لا يخرج عن الأخبار التي يقصد بها الأحاديث وما روى عن الأئمة. وأكد خلال مؤلفاته الى وجود تأييد أو ميل الى النهج الأصولي أي الاجتهادي الذي لم يختلف في علاقاته مع الفكر الإخباري التي اتسمت في هذه الفترة بروح التسامح والاحترام المتبادل. إن الإخباريون المعاصرون يختلفون في آرائهم عن القديمين وذلك لأنهم كانوا في طريقة منهجهم أقرب الى المنهج الأصولي إذ أصبح لديهم مراجع ومقلدون على عكس العلماء الإخباريون السابقين الذين كانوا يرون أن الأمة كلها مقلدة للإمام أي لا يوجد مرجع. كما أن الإخباريون المعاصرون كانوا معتدلين أي لم يفرضوا آراؤهم بالقوة والتشدد والتعصب وإنما عن طريق وضع آرائهم في مؤلفات تضمنت فكرهم هذا فضلاً عن تحسين علاقتهم بالعلماء الأصوليين.[6]

الخاتمة

عدل

تعد الإخبارية واحدة من أشهر الفرق الإسلامية الشيعية وهي أحدى فرق الامامية الاثني عشرية التي برزت في بداية القرن الحادي عشر الهجري على يد الميرزا محمد أمين الاستربادي وقد كان لها وجود قبل هذا التاريخ كما ذكرت بعض المصادر. ويقابل الاخبارية طائفة الأصوليين الذين يمثلون الاكثرية داخل المجتمع الشيعي الأمامي في حين يمثل الاخباريون الأقلية وقد كان الاخباريون يرون أن الاعتقاد الصحيح يقوم على العمل بالإخبار المنقولة من الأئمة المعصومين وكانوا يعتقدون أن الفكر الاخباري كان هو السائد بين علماء وفقهاء الشيعة الامامية وقد عد الاخباريون أن الفكر الاخباري هو حركة تصحيح تتطلب العودة الى الجذور الأولى للفقه الامامي الشيعي الاثني عشرية.

تميز الفكر الاخباري كونه ذا منهج ثابت عند جميع العلماء الاخباريين لكن الاختلاف في طريقة تبني هؤلاء العلماء لهذا الفكر أن اختلفت من عالم لآخر اذ كان محمد امين الاستربادي ومحمد الاخباري متشددين في آرائهم ومتعصبين لفكرهم على العكس من الشيخ يوسف البحراني الذي تمييز بالاعتدال والتسامح مع خصومه. وقد أتبع الاخباريون المعاصرون منهج الشيخ يوسف البحراني في نشر فكرهم الاخباري فضلاً عن أن الاخباريون المعاصرون اليوم هم أقرب الى المنهج الاصولي وذلك نتيجة لظهور عدد من الفقهاء المحايدين.

مصادر

عدل
  1. ^ "ظاهرة الأخباريين لدى الشيعة الإثني عشرية".
  2. ^ "من هم الطائفة "الإخبارية" ولماذا يحرمون الاجتهاد بالعقل؟".
  3. ^ "أهلك "علماء" وغيّر في توازنات... عن وباء عزّز من قوة الأصولية الشيعية في القرن الـ18".
  4. ^ ""ولاية الفقيه".. حين انقلب الخميني على الفقه السياسي الشيعي".
  5. ^ "بين الشيعة وغلاة الشيعة".
  6. ^ "بالفيديو: اختتام مؤتمر العلامة المدني الثاني... والسيدعلي الموسى لـ «الوسط»: المدني هو وريث الحالة الدينية العريقة في البحرين".